((مختصر الرد على أهل الإلحاد))
((الأحد 2 من جمادي الآخرة 1436 هـ الموافق
22-3-2015مـ))
إِنَّ
الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ
بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ
اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا
إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.
أَمَّا
بَعْدُ:
فَإِنَّ
أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،
وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي
النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فالركنُ
الأولُ مِن أركانِ الإيمانِ أنْ تؤمنَ باللهِ، ومعنى الإيمان باللهِ -تبارك
وتعالى- هو أنْ تؤمنَ بوجودِهِ وبربوبيتِهِ، وبألوهيتِهِ، وبأسمائِهِ وصفاتِهِ،
والأمرُ الأولُ مِن هذه الأمورِ الأربعة وهو الإيمانُ بوجودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
يدُلُّ عليه الدليلُ مِن العقلِ، ومِن الحِسِّ، ومِن الفِطرةِ، ومِن الشَّرْعِ.
وهناك فرضياتٌ
ثلاث يُمكنُ أنْ تُذْكَرَ عند الحديث عن وجودِ اللهِ -تَبارك وتعالى- وهي:
أنْ يُقَال: هذا الكَوْنُ
كلُّهُ مِن صُنْعِهِ؟
الجواب:
*إمَّا أنْ
يكونَ مِن صُنْعِ الله.
*أو أنْ يكونَ
مِن صُنْعِ ذَرَّاتِ المادة وأجزاءِهَا وعناصرِهَا، عن قَصْدٍ وعنايةٍ منها: أي أنَّ
عناصرَ المادةِ الأصليةِ فَكَّرَت ودَبَّرَت وقَدَّرَت واتَّفَقَت على صُنْعِ تَنوُّعَاتِ
هذا العالَم بهذه الأشكالِ والصورِ التي نَرَاهَا ونُحُسُّها؛ فتكون أَوْجَدَت نَفْسَهَا.
*وإمَّا هذا
الكَوْنُ بما فيه قد تكون بطريقةِ المُصادفة: أي أنَّ
جزئيات الكَوْنِ الكهربائية التي تتألفُ ذَرَّاتُ الكَوْنِ مِنها وُجِدَت مُصَادَفَةً،
وكان هكذا مصادفةً بَعْضُهَا سالبًا وبعضُها موجبًا، والآخرُ معتدلًا.
كُلُّ ذلك وُجِدَ
مُصَادَفَةً!! وكُلُّ جُزيءٍ سالبٍ التقى بجُزيءٍ مُوجبٍ مُصَادَفَةً!! ثم تَدَرَّجَت
هذه الجُزئيات وشَكَّلَت مع بعضِها الأنويةَ مُصَادَفَةً!! والجُزئياتُ السالبةُ
أخذت تدورُ حَوْلَ هذه النواةِ مُصَادَفَةً!! وكانت بين النواةِ وغلافِها فراغاتٌ
لولاها لكان جِرْمٌ كالأرضِ بحجمِ البيضةِ، كُلُّ ذلك مُصادفة!!
ووجودُ المَدَارَاتِ
ثابتةٌ لكلِّ ثمانيةِ كَهَارِب كانت مُصَادَفَةً، ووجودُ إمكانياتِ الاتحادِ بين
العناصرِ لتشكيلِ مُرَكَّبَات جديدةٍ بسببِ نَقْصِ الإلكترونات عن الثمانية في غُلافات
بعض الذَّرَّاتِ؛ كان كُلُّ ذلك مُصَادَفَةً!! ثم كان اتحادُ العناصرِ واجتماعُها
لتتكونَ هذه الأجرامُ الهائلةُ مِن الشموسِ مُصَادَفَة!! وكان انتظامُ الشموسِ في
مَدَارَاتِها، وكذلك انتظامُ الكواكبِ في مَدَارَاتِها كما تنتظمُ الآلةُ وكما تنتظمُ
الإلكترونات حَوْلَ الأنويةِ؛ كلُّ ذلك كان مُصَادَفَةً!! وكذلك الحرارةُ الموجودةِ
في الشُّموسِ والإشعاعِ، ومع الترتيبِ الذي يُقال أنه كان مُصَادَفَةً كما يقولون!!
*وإمَّا أنْ
يكونَ ذلك من صُنْعِها نَفْسِها.
*وإمَّا أنْ
يكونَ مِن خَلْقِ الخلَّاقِ العليم.
فهذه ثلاثُ
فرضيات.
ثُمَّ هذه
الأرضُ- بوَضْعِها الذي هي عليها؛ صالحة للحياةِ؛ قِشْرَتُها وهوائُها وماؤُها
وجبالُها وحَجْمُها، كلُّ ذلك وُجِدَ مُصَادَفَةً!! ثم الحياةُ بتنويعاتِها،
وتركيباتِهَا، وأجهزتِهَا المُعَقَّدَة؛ أوُجِدَت هذه كلُّهَا مُصَادَفَةً!! ثم
الإنسانُ بعَقْلِهِ وفِكْرِهِ وتركيبِهِ ورُوحِهِ وأَخْلَاقِهِ، واستعداداتِهِ،
وتصوراتِهِ الخياليةِ والعِلميَّةِ، مع إمكانياتِ التَّسْخيرِ في ذلك كلِّهِ؛ أَوجِدَ
كلَّ هذا مُصَادَفَة؟!!
إمَّا أنْ
نقولَ أنَّ هذا كلَّهُ وُجِدَ مُصَادَفَةً، وإمَّا أنْ نقولَ أَوْجَدَ نَفْسَهُ،
وإمَّا أنْ نقولَ أَوْجَدَهُ غَيْرُهُ، وإذا قُلنا أَوْجَدَهُ غَيْرُهُ؛ فلا شَكَّ
أنَّ غَيْرَهُ لا يَكونُ كهيئتِهِ وحالِهِ؛ لأنَّهُ لو كان مُحتاجًا للوجودِ مِن غَيْرِهِ
أيضًا لدَخَلْنَا مِثْلَ مَا خَرَجْنَا.
فنقولَ فَمَن
الذي أعطاهُ الوجودَ؟
فيكونُ الذي
أعطاهُ الوجودَ غَيْرُهُ وهكذا، حتى نَصِلَ إلى موجودٍ وُجودُهُ ليس مِن غَيْرِهِ،
وهو يُعطي الوجودَ لِغَيْرِهِ، وليس ذلك إلا الله.
فاللهُ
-تبارك وتعالى- هو الذي يُعطي الوجودَ لكلِّ موجودٍ، فهذه احتمالاتٌ تُطْرَحُ
عندما تُنَاظِرُ مُلحدًا يزعمُ أنه لا إله، وأنَّ الكَوْنَ مادة، وأنه لا خالِقَ
ولا مُوجِدَ لهذا الكَوْنِ كُلِّهِ.
فأنت حينئذٍ
تقول: إمَّا أنْ يكونَ هذا الكَوْنُ بِكُلِّ ما فيه قد وُجِدَ مُصَادَفَة، وإمَّا
أنْ يكونَ أَوْجَدَ نَفْسَهُ، وإمَّا أنْ يكونَ قد أَوْجَدَهُ غَيْرُهُ، هذه
افتراضاتٌ ثلاثة لا يُمكنُ أنْ يكونَ غَيْرُهَا لتعليلِ وجودِ هذا الكَوْنِ على ما
هو عَليه.
*الفرضُ
الأولُ: وهو أنْ يكونَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَهُ وَصَنَعَهُ
وَأَوْجَدَهُ وهذا يقولُ به المُؤمنون.
*الفرض
الثاني: وهو الكَوْنُ أَوْجَدَ نَفْسَهُ، وأنَّ المعدومَ أَوْجَدَ
نَفْسَهُ وهذا لا يقولُ به أَحَدٌ.
*وأمَّا
الفرضُ الثالثُ: فيقولُ به المَاديُّون، يقولون: إنَّما وُجِدَ مُصَادَفَة.
فنحنُ إذن
أمامَ فَرْضَيْن: إمَّا أنْ يكونَ هذا الكَوْنُ بتنوعاتِهِ مِن صُنْعِ صَانِعٍ؛
له إرادةٌ طِبْقًا لمبدأِ السَّببيةِ الذي يُقِرُّهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ، وإمَّا
أنْ يكونَ نتيجةَ المُصَادَفَةِ.
وإذا بَطَلَ
أنْ يكونَ مِن قَبيلِ المُصَادَفَةِ فلابُدَّ مِن الصَّيرورةِ إلى الفَرْضِ الثاني،
وهو أنْ يكونَ هذا الكَوْنُ بتنوعاتِهِ مِن صُنْعِ صَانِعٍ له إرادةٌ طِبْقًا
لمبدأ السَّببيةِ.
فلننظُر أيًّا
مِن الفَرْضَيْنِ يقومُ عليه البرهان وأيًّا مِنهما لا دليلَ عليه ولا بُرهانَ
عليه؛ لأنَّ المُصَادَفَةَ في حَدِّ ذاتِها تكونُ أحيانًا مُمكِنَةً وتكونُ أحيانًا
في حُكْمِ المستحيلةِ عَقْلًا.
لو أَخَذْنَا
لَوْحًا من الخَشبِ وَغَرَزْنَا فيه إِبْرَةً، وَوَضَعْنَا في ثُقْبِها في سَمِّ
الخِيَاطِ؛ مِنها إِبْرَةً ثانية، ورَأَى إنسانٌ هاتين الإبْرَتَيْن وسَأَلَ: كيفَ
أُدْخِلَت الثانيةُ في ثُقْبِ الأولى، فأَخْبَرَهُ إنسانٌ معروفٌ بالصِّدْقِ أنْ
الذي أَدْخَلَهَا رَجُلٌ وَضَعَ بِيَدِهِ الإبرةُ الثانية في سَمِّ خِيَاطِ الأولى،
ثُمَّ أَخْبَرَهُ إنسانٌ آخر معروفٌ بالصِّدقِ أيضًا أنَّ الذي صَنَعَ ذلك إنَّما
هو صَبِيٌّ صَغيرٌ وُلِدَ مِن بَطْنِ أُمِّهِ أَعْمَى؛ فَحَذَفَ الإِبْرَةَ فَوَقَعَت
في سَمِّ الخِيَاطِ بطريقِ المُصَادَفَةِ، يُصَدِّقُ أيَّ الخَبَرَيْن؟
لا رَيْبَ أنَّهُ
يميلُ إلى تصديقِ الأولِ، لكنَّهُ أمامَ صِدْقِ المٌخْبريْن؛ يَرَى أنَّ المُصَادَفَةَ
مُمكِنَةٌ، يقول: أنهُ جائزٌ أنْ تكونَ هكذا وَقَعَت بِسِنِّهَا في سَمِّ خِيَاطِ
الأولى المغروزةِ في الخَشَبِ؛ فهذا رَجُلٌ صادقٌ عندي، فَقَد تكونُ المُصَادَفَةُ
حينئذٍ مُمكِنَة ولا يَجْزِم حينئذٍ بتَرْجيحِ أَحَدِ الخبريْن على الآخر، ولَكِنْ
لو رَأَى هذا الرَّجُلُ إِبْرَةً ثالثةً مغروزةً في سَمِّ خِياطِ الثانية؟ فهل
يبقى عَدَمُ الترجيحِ على حالِهِ؟ -يعني: قال مَن صَنَعَ هذا؟
فقال: فلان -رَجُلٌ
عامِلٌ هو يعرفُهُ؛ فَوَضَعَ هذه في هذه وهذه في هذه.
ثم جَاءَ آخرُ
وهو معروفٌ عندهُ بالصِّدْقِ أيضًا؛ فقالَ: إنَّمَا وُلِدَ صَبِيٌّ أَكْمَه -خَرَجَ
كذلك أَعْمَى مِن بطنِ أُمِّهِ- ثم إنَّهُ أَلْقَى بها هكذا فَوَقَعَت، وَقَعَت
الثانيةُ في الأولى، ثم وَقَعَت الثالثةُ في الثانيةِ، هل يُصَدِّقُهُ؟!! هل يبقى
على عدمِ الترجيح؟
الحقيقةُ أنهُ
يَتَقَوَّى حينئذٍ ترجيحُ القَصْدِ عند مَن فَعَلَ ذلك قَصْدًا على المُصَادَفَةِ،
فَيُرَجِّحُ القَصْدَ على المُصادفة.
ولكنْ لا
يزالُ للمُصَادَفَةِ مُحلٌّ ولو كان ضَعيفًا، فإذا ما رَأَى الرَّجُلُ أنَّ هناك عَشْرَ
إِبْرٍ؛ كُلُّ واحدةٍ منها قد غُرِزَت في سَمِّ خِياطِ التي تَلِيهَا، فهل يَبْقَى
ترجيحُ فِكْرَةِ القَصْدِ على وَضْعِهِ السَّابِقِ؟
الحقيقةُ أنَّ
ترجيحَ فِكْرَةَ القَصْدِ يَتَقَوَّى لدرجةٍ تَتَلاشَى مَعها فِكْرَةُ المُصَادَفَةِ،
يعني: إذا رَأَى الإنسانُ عَشْرَ إِبْرٍ قد وُضِعَت بِسِنِّهَا؛ كلُّ واحدةٍ مِنها
في سَمِّ خِيَاطِ التي سَبَقَتْهَا هكذا، فلمَّا سألَ؛ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أنَّ هذا
مِن فِعْلِ عاقلٍ بِقَصْدٍ، ثم جاءَ آخرٌ؛ فقال: لا، بَل أنَّ صَبِيًّا أعمى قد أَلْقَى
بها هكذا فكانت على النحوِ التي تَرَاه، تتلاشى فُرصةُ القولِ بالمُصَادَفَةِ مع
هذا التكرار، ثم قد تتعقدُ المسألةُ أَكْثَرَ حتى تتلاشى مسألةُ المصادفةِ أصلًا.
يعني لو قلنا: أنَّ الإِبَرَ
العَشْر قد رُقِمَت بخطوطٍ لكُلِّ واحدٍ منها -أي مِن الخطوطِ ما يَدُلُّ على رَقمِهِ
مِن الواحد إلى العَشْر، وقِيلَ لنا في الخبرِ أنَّ صَبِيًّا أَعْمَى أَعْطَي كِيسًا
فيه هذه الإِبَر العَشْر قد خُلِطَت مُشَوَّشَةً وأنه كان يَضَعُ يَدَهُ هكذا في
الكِيسِ ثم يُخْرِجُهَا فيَحْذفُها لِتَقَعَ في سَمِّ خِياطِ التي قَبْلَهَا على
الترتيبِ مِن واحد إلى عشرة، يُلْقِيها اعتباطًا وَتَقَعُ الأولى في سَمِّ خِيَاطِ
المَغروزة، والثانيةُ في الأولى، والثالثةُ في الثانية، والرابعةُ في الثالثة، حتى
أَتَمَّ إدخالَ الإِبَرَ العَشْر على هذا الترتيب بالأرقامِ بطريقِ المُصَادَفَةِ،
تَعَقَّدَت المسألةُ أكثرَ بحيثُ إنَّنا نقولُ هذا لا يمكنُ أنْ يكون.
فإذا قالَ
لنا قائلٌ: إنما فَعَلَ ذلك؛ ما ليس بِصَبِيٍّ ولا مِن بني آدم، بَلْ
فَعَلَ ذلك الهواءُ، أو فَعَلَ ذلك الماءُ، أو قال لنا: بل فَعَلَ ذلك العَدَمُ،
ماذا يكونُ مَوْقِفُ الإنسانِ مِن هذه الحال؛ أنْ يُصَدِّقَ خَبَرَ مَن يقولُ بالمُصَادَفَةِ
أو خَبَرَ مَن يقولُ بأنَّ هناك ذَاتًا ذاتَ إرادةٍ وبَصَرٍ هي التي فَعَلَت ذلك؟
يُصَدِّقُ مَنْ؟
لا شكَّ أنَّ
الإنسانَ العَاقِلَ يُرَجِّحُ ترجيحًا مُطلقًا ببداهةِ العقلِ وصريحِهِ؛ أنَّ ذلك
فُعِلَ عن قَصْدٍ، وأنَّ هذا الذي أَخْبَرَ بذلك هو الصادقُ، ولو قالَ إنسانٌ غَيْرَ
ذلك؛ فإنَّ المَرْءَ لا يُصَدِّقُهُ، يعني لو قالَ لنا إنسانٌ: إنْ هذه الإِبَر
العَشْر قد وُضِعَت كُلُّ إِبْرَةٍ في التي تَليها بِفِعْلِ العَدَمِ، فإنَّ
الإنسانَ لا يُصَدِّقُ ذلك؛ إذا قال في المُقابلِ: إنَّما فَعَلَ ذلك ذاتٌ ذاتِ
إرادةِ وبَصَرٍ؛ فإنَّ الإنسانَ يُصَدِّقُ ذلك.
افْرض أنَّكَ
تملكُ مَطْبَعَةً فيها نِصْفُ مليون حَرْف مُفَرَّقَةً في صناديقِهَا، وهذه حالُ
الطِّبَاعَةِ إلى قريب، وكان الطَّبَّاعُ يأخذُ حَرْفًا حَرْفًا ليجعلَ الحَرْفَ بجوارِ
الحَرْفِ لتتكونَ الكلمةُ، ثم هكذا في سائرِ الكلماتِ في سطورِها في صفحاتِها في
كتابِها، فافرض أنَّك تملكُ مطبعةً فيها نِصْف مليون حَرْف مُفَرَّقَةً في صناديقِها،
فجاءَت هِزَّةٌ أرضيةٌ قَلَبَت صناديقَ الحروفِ وَبَعْثَرَتْهَا وخَلَطَتْهَا، ثُمَّ
جاءَكَ مُنَضِّدُ الحُروفِ يُخبرُكَ بأنَّهُ قد تَأَلَّفَ مِن اختلاطِ الحروفِ
بالمُصَادَفَةِ عَشْرُ كلماتٍ مُتَفَرَّقَة غَيْرِ مُترابطةِ المعاني، فالقضيةُ
تكونُ في هذه الحال قَابِلَةً للتصديقِ جِدًّا، فهذه حروفٌ كثيرةٌ-نِصْف مليون حَرْف-
فلا يُسْتَبْعَدُ إذا ما بُعْثَرَت وَوَقَعَت على الأرضِ أنْ تتكونَ عَشْرُ كلماتٍ
مُتفرقةٍ وتكونُ غَيْرَ مُترابطةِ المعاني.
القضيةُ تَكَوْنُ
في هذه الحال قابِلَةً للتصديقِ جدًا، لو قال لك إنَّ الكلمات العَشْرَة أَلَّفَت جُملةً
مُفيدةً كاملةً؛ فإنَّك حينئذٍ تستبعدُهُ ولكنْ لا تراهُ مُستحيلًا، تقول هذا مُمكنٌ
عقليٌّ قد يَقَع، ولَكِنْ لو أَخْبَرَكَ أنَّ حروفَ المطبعةِ بكاملِها تَشَكَلَّت
وكَوَّنَت عند اختلاطِها بالمُصَادَفَةِ كِتَابًا كاملًا مِن خمسمائةِ صفحة؛ يتضمنُ
الكتابُ قصيدةً واحدةً تُؤلِّفُ بمجموعِها وحدةً كاملةً مترابطةً مُنسجمةً بألفاظِها
وأوزانِها وقافيتِها، وأنَّ الوحدةَ العضويةَ قائمةٌ بين أبياتِها، وأنَّ التَّسَلسُلَ
التدريجي قائمٌ في تلك القصيدةِ وفي مائِها، لا شَكَّ أَنَّكَ تَرَى هذا مُستحيلًا
ببداهةِ العقلِ وصراحتِهِ.
والسببُ في
رؤيةِ الاستحالةِ يعودُ إلى قانونِ المُصَادَفَةِ الرياضيِّ نَفْسِهِ، إذا عَلِمْنَا
أنَّ نِسبةَ خروجِ الأرقامِ العَشرة متسلسلةً في مسألةِ الإِبَر هو واحدٌ إلى عشرةِ
مليارات، ولو كان الإبرُ اثنتي عشرةَ؛ لكانَ احتمالُ خروجِها متتابعًا بالمُصادفة واحدًا
إلى ألف مليار، ولو كانت إحدى وعشرين إبرةً
لأصبحَ حظُّ المصادفةِ بنسبة 1: 1000 مليار مليار؛ فكيف بالتَّزَاحُمِ الذي يجري
بين خمسمائة ألف -500 ألف- حَرْف لتكوينِ خمسةٍ وعشرين ومائة -125- من الكلمات
تقريبًا بأشكالٍ وترتيباتٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى أبدًا، النتيجةُ هائلةُ لدرجةِ
أنَّ نسبةَ الاحتمالاتِ في حدوثِ ذلك لا تحيطُ بها أرقامُ اللغةِ؛ لكي نعرف معنى
كلمة 500 أَلْف حَرف، 125 أَلْف كلمة، 28 حَرْفًا هي الحروف الهجائية؛ لكي نعرف
هذا دَعْنَا ندرسُ هذا النَّص:
البروتينات مِن
المُركبَّاتِ الأساسيةِ في جميعِ الخلايا الحيَّةِ، وهي تتكونُ مِن خمسةِ عناصر:
الكربون والهيدروجين، والنيتروجين، والأكسجين، والكبريت، كلُّ جُزيءٍ بروتينيِّ لا
بُدَّ أنْ يتكونَ مِن هذه المذكورات، ويبلغُ عددُ الذَّرَّاتِ في الجُزيء
البروتينيِّ الواحد أربعين ألف -40000- ذَرَّة،
ولَمَّا كان عددُ العناصرِ الكيمياويةِ في الطبيعةِ يزيدُ على تسعين -90- عنصرًا،
مُوَزَّعَةً بتوزيعِ رَبِّنا -تبارك وتعالى- لَهَا وتقديرِهِ، فاحتمالُ اجتماعِ
هذه العناصرِ الخمسة لكي تكونَ جُزيئًا مِن جزيئاتِ البروتين يُمْكِنُ حِسابُهُ
بمعرفةِ كميةِ المادة التي ينبغي أنْ تُخْلَطَ خَلْطًا مُستمر لكي تؤلِّفَ هذا
الجزيء، هذه المادة ينبغي أنْ تُخلط خَلْطًا مستمرًّا مِن أجلِ تكوينِ جزيءٍ
بروتينيٍّ واحد تحتاجُ إلى أكثرَ مِمَّا يَتَّسِعُ له هذا الكون بملايين المَرَّات،
وسببُ هذا الترجيح يعودُ إلى أنَّ للمُصادفةِ قانونًا رياضيًّا لا يمكنُ الخروج
عنه، المُصادفةُ لَهَا قانون.
لا شيء في
هذا الكونِ يقعُ اعتباطًا، حتى ما يُقال له مصادفة هو محكومٌ بقانون، فيكونُ
مصادفةً عند مَن يُسَمِّيه كذلك، وليس كذلك في حقيقةِ الأمرِ، كلُّ شيءٍ بِقَدَرِ؛
يفعلُ اللهُ-تبارك وتعالى- ما يريد، فَمَا يُقال له مصادفة له قانون، فليس مصادفةً
إذن، ولا يقعُ في اعتباطًا وإنما يقعُ بنظامٍ وقَدَر، وكلُّ شيءٍ عنده بِمقدار.
يقولون في
قانونِ المصادفةِ في الرياضة: ((إنَّ حَظَّ المُصادفةِ مِن
الاعتباطِ يزدادُ ويَنْقُصُ بنسبةٍ معكوسةٍ مع عدمِ الإمكانياتِ المتكافئةِ
المتزاحمة، كلمَا قَلَّ عددُ الأشياءِ المُتزاحمة ازدادَ حَظُّ المُصادفة المُدَّعَاة
مِن النجاح، وكلما كَثُرَ عددُ الأشياءِ المتزاحمةِ قَلَّ حَظُّ المصادفةِ المُدَّعاة
مِن النجاح، فإذا كان التزاحمُ بين شيئين اثنين متكافئين يكونُ حظُّهَا حينئذ
بنسبة 1 إلى 2، وإذا كان التزاحمُ بين 10 يكون حَظُّهَا حينئذ بنسبة 1 ضد 10، وذلك
لأنَّ كلَّ واحدٍ له فرصةٌ للنجاحِ مُمَاثِلَةٌ لفرصةِ الآخر بدون أي تفاضلٍ وبدون
أقل تفاضلٍ بطبيعةِ الحال، إلى هنا يكونُ الحَظُّ في النجاحِ قريبًا من المُتزاحمين
حتى لو كانوا مئةً أو أَلْف، ولَكِن متى تضخمت النسبةُ تَضَخُّمًا هائلًا يصبحُ حَظُّهَا
في حُكْمِ العدم، بَلْ في حُكْمِ المستحيلِ العقليِّ)).
ولَكِن بَقِيَ
عند الماديينَ مِن الشيوعيين وغيرِهِم أنَّ هذه المخلوقات إنما وُجِدَت بالمُصادفةِ،
نَتَنَزَّلُ معهم إلى هذا المستوى في الخطابِ العلميِّ لنُجَاريَهُم مِن أجلِ
استنقاذِهِم، يعني هم يقولون: هذا الكون إنَّمَا كان على هذا النحو مِن الانتظامِ
والإبداعِ مُصادفةً، وُجِدَ مُصادفة، فَلنَتَنَزَّل معهم لنُجَاريَهُم مِن أجلِ
استنقاذِهِم وإلَّا فإنَّ الأمرَ أكبرُ مِن ذلك، إنه يُقالَ لهم: هذا الكَوْنُ وُجِدَ
مَا فيه مِن هذه المَخْلوقاتٍ على تَنَوُّعِهَا مُصادفةً، ولَكِنَّ المادة
الأساسية مَن أَوْجَدَهَا؟
مَن الذي
أوجدَ هذه المادةَ التي تَشَكَّلَت منها بالمصادفةِ أنواعُ المخلوقات؟
هُم يقولون
هذه المخلوقات بتَنَوُّعاتِهَا المختلفة وُجِدَت مُصادفة، أَيْ هذه التَّنَوُّعَات
المختلفة وُجِدَت مُصادفة، صارَ الإنسانُ إنسانًا، والقردُ قِردًا، والطائرُ طائرًا،
والحيوانُ حيوانًا، والجبالُ جبالًا بالمُصادفةِ وإلى غيرِ ذلك مِن تَنَوُّعَاتِ
الخَلْقِ!!
فيُقال لَهُم: هذا التَّنَوُّع
وُجِدَ مصادفةً، فالمادةُ التي منها وُجِدَت هذه الموجودات وتَشَكَّلَت منها
بالمصادفةِ أنواعُ المخلوقاتِ كما تقولون؛ مَن الذي أوجدَ هذه المادة؟ هذا مُهِمٌّ؛
لأنَّ أَقْوَامًا عندما يلعبونَ مَثَلًا بالجِينات، يقولون: نستطيعُ مَثَلًا بالهندسةِ
الوراثيةِ أنْ نَخْلُقَ كذا، وأنْ نَخْلَقَ كذا.
فيُقالُ لهم: هذا غَيْرُ
مُسَلَّمٍ وإنما أنتم تتعاملونَ مع مخلوقٍ موجودٍ، فإنْ كنتم صادقين فأَوْجِدُوهُ
أنتم مِن العَدَمِ، يعني هم يقولون: نحن نستطيعُ أنْ نستنسخَ مِن الموجودِ المخلوقِ
الحيِّ صورًا كثيرةً، كَمَا ادَّعُوا أنهم فَعَلُوا ذلك مع ((النَّعْجَةِ دُولِّي))،
وقالوا أنهم قاموا بالاستنساخِ في البَشَرِ كما قاموا بالاستنساخِ في الحيوانات،
فبعضُ الناسِ يقولُ: صارَ الإنسانُ خَالِقًا يستطيعُ أنْ يَخْلُقَ المخلوقات المُتعددة
حتى الإنسان.
فيُقالُ لهم: أنتم
تتعاملونَ مع موجودٍ مخلوقٍ؛ فإنْ كنتم صادقين فأَوْجِدُوهُ أنتم مِن العَدَمِ، ما
الذي صَنَعْتُم؟
أنتم أَخَذْتُم
مِن النواةِ مَا أَخَذْتُم مِن الكر وموسومات
وما أَشْبَهَ وحَفِظْتُم ذلك وضعْتُم هذا في هذا، حتى أنبوب الاختبار الذي
وضعْتُم فيه ما وَضَعْتُم؛ هل خلقتموهُ أنتم؟!! هل أوجدتموهُ مِن العَدَمِ؟ََ
إنَّ
القضيةَ في أَصْلِهَا إنما في إيجادِ هذا الكَوْنِ كلهِ مِن العدم، مِن لا شيء.
لم
يَكُن هناك شيءٌ أَوليٌّ أَوْجَدَ اللهُ وَخَلَقَ منه المادةَ بِتَنَوُّعِهَا،
وإنما أَوْجَدَ كلَّ شيءٍ مِن لا شيء؛ مِن العَدَمِ، يقولُ للشيء كُن فيكون؛ يفعلُ
مَا يشاءُ.
فاللذين
يقولون أنهم يستطيعونَ أنْ يَحَوِّلُوا وأنْ يُبَدِّلُوا وأنْ يُغَيِّرُوا في
مسألةِ الجِنْسِ الإنسانيِّ عند التَّخْليق، وأنهم يعرفونَ أَذَكَرٌ هو أَمْ أُنْثَى
إلى غيرِ ذلك مِن تلك الأمور؛ يُقال: ما صَنَعْتُم
شيئًا، إنَّما أَخَذْتُم المَادةَ المَخلوقةَ للهِ؛ أَخَذْتمُوهَا أنتم وأنتم مَخْلُقونَ
للهِ وجَعَلْتُم المادةَ المخلوقةَ للهِ، وأنتم مخلقونَ للهِ فيما خَلَقَ اللهُ،
فماذا صَنَعْتُم؟!! أنتم تَلْعبون.
يعني هم
يقولون: نستطيعُ تحديدَ الجِنْسِ، يعني فيما يتعلقُ بالذَّكَرِ
والأُنْثَى؛ لأنَّ الحيوانات المَنَويَّة منها ما هو مُذَكَّر ومنها ما هو مُؤنَّث،
البُويْضَةُ على التأنيثِ دائمًا، فإذا وُجِدَ الكروموسوم الذي يحملُ صفةَ التذكيرِ
في الحيوانِ المَنويِّ صَارَ المَشيجُ ذَكَرًا، وإذا كان حَامِلًا للصِفَةِ
الأنثويةِ صَارَ المَشيجُ أُنْثَى، فَهُم يقولون: نستطيعُ أنْ نعرفَ ذلك في
الحيوانِ المَنويِّ؛ فسنأتي بواحدٍ مِن تلك الحيوانات التي تحملُ صِفَةَ الذُّكورة
لكي يقومَ بتلقيحِ البُويْضَة؛ النتيجةُ ذَكَر، أو إذا أَرَادَ مَن أَرَادَ الأُنْثَى
فإنهم يأتونَ بالحيوانِ المَنويِّ الذي يحملُ الصفةَ الأُنثويةَ ليجعلوهُ مع البُويضة
ليصيرَ أُنْثَى.
فيُقالُ لَهُم: لم تصنعوا
شيئًا، فهذا الحيوانُ المنويُّ بما يحملُ مِن صفاتِ لم تخلقوهُ، اخلقوهُ إنْ كُنتم
صادقين، أَوْجِدُوهُ مِن العَدَمِ، اصنعوه أنتم، إنما أخذتم شيئًا مخلوقًا للهِ
وجعلتموهُ مع بُويضةٍ مخلوقةٍ للهِ في الأنبوبِ المخلوقِ للهِ، لَمْ تخلقوه، وأنتم
أَنْفُسُكُم مخلقونَ للهِ، وجَعَلْتُم ذلك في ظروفٍ حراريةٍ وطبيعةٍ مخلوقة للهِ
-تبارك وتعالى-، فَمَا الذي صَنَعْتموه؟!! لم تصنعوا شيئًا.
تَمَامًا
كالذي يأخذُ البِذْرَ ليكونَ نَبَاتًا مَعْلُومًا، فَلَم يصنع شيئًا، يعني الذي
يأخذُ بِذْرًا ليكونَ قَمْحًا فَيَبْذُرُهُ في الأرضِ ويتعاهدُهُ بالظروفِ التي جَعَلَهَا
اللهُ –تباركَ وتعالى- مناسبةً في الفصلِ
المناسبِ بالأحوالِ المناسبةِ لإنباتِ هذا النبات، فيأخذُ ذلك مِن أجلِ أنْ يَبْذُرَهُ
في الأرضِ ثم يتعاهدُهُ، فإذا مَا حَصَدَهُ قال خَلَقْتهُ، ولم تَصْنَع شيئًا،
وإنما أخذتَ شيئًا مخلوقًا للهِ وهو هذا البِذْرُ وجعلتهُ في الأرضِ المخلوقةِ للهِ،
وسقيتَهُ بالماءِ الذي خَلَقَهُ اللهُ، وقُمْتَ عليه بالوسائلِ المخلوقةِ للهِ-تَباركَ
وتَعَالَى- رعايةً وحِفْظًا إلى أنْ حَصَدْتَّ، أنت نَفْسُكَ مخلوقٌ للهِ-تبارك
وتعالى-، لَم تصنع شيئًا، هذا كلُّهُ مِن خَلْقِ اللهِ مِن، صُنْعِ اللهِ -جَلَّ
وعلا-.
ولا يخدعنَّكَ
أَحَدٌ عندما يقول الاستنساخ ومَا أَشْبَهَ، هذا كلُّهُ عَبَثٌ، حتى فيما يقولونَ إنها
مِن التوائمِ المتطابقةِ؛ يعني يقولونَ نستنسخُ صورًا متطابقةً سواءٌ مِن
الحيواناتِ أَمْ مِن الخَلْقِ الإنسانيِّ، فيُقال لهم: لا يمكنُ أنْ تصيرَ إلى حالٍ
واحدٍ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن هذه التوائمِ المُتطابقةِ سوفَ يتعرضُ لمقاديرَ
مختلفةٍ مُتباينة، يعني قد يُصَابُ واحدٌ مِن هذه التوائم بِمَرضٍ لا يُصَابُ به
الآخرُ يُؤثِّرُ في عَقْلِهِ، يُؤَثِّرُ في بَصَرِهِ، يُؤَثِّرُ في جَسَدِهِ، يُؤَثِّرُ
في تفكيرِهِ، فلا يكونُ المصيرُ واحدًا.
فهذه الأمورُ
كلُّها إنَّمَا هي افْتِئَاتٌ على الخالقِ العظيمِ، والمسلمُ ينبغي عليه أنْ يَحْذَرَ
في هذا العصرِ مِن أمثالِ هذه الحِيَلِ الشيطانيةِ التي يَنْطِقُ بها مَنْ يَنْطِقُ
مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، ويُلْقُونَهَا في أسماعِ قلوبِ المؤمنين مِن أَجْلِ
أنْ يَفْتِنُوهم عن دينِهِم.
فالإلحادُ له
مَواقع وله كُتُبٌ وله نَشْرَات، وله مَرَاكِز، وَهُم يَرَوِّجُونَهُ بَيْنَ الشَّبَابِ،
والشَّبَابُ قَد فُرِّغَ مِن ثَقَافِتِهِ بَلْ فُرِّغَ مِن عقيدتِهِ، فلا يستطيعُ
أنْ يَدْفَعَ هذه الشُّبَهَاتِ عن نَفْسِهِ، ورُبَّمَا صَدَّقَ أنها مِن الحَقَائِقِ
الثَّابِتَةِ التي لا تَقْبَلُ الجدالَ، مع أنَّهَا أوهامٌ في أَوْهَامٍ.
ينبغي عليك
أنْ تُحَصِّنَ نَفْسَكَ ثُمَّ ينبغي عَليك كمُسْلِمٍ سُنِّيٍّ سَلَفِيٍّ مَنْهَجِيٍّ؛
ينبغي عليك أنْ تُجَادِلَ هؤلاء المُلحدين، أنْ تُقيمَ عَليْهم الحُجَّةَ، أنْ تَسْتَنْقِذَ
إخوانكَ المُسلمينَ الذين دَخَلَ عليهم أمثالَ هذه الشُّبُهَات، وهذا الأمرُ يَتَفْشَّى
الآن، بَل ينتشرُ في كثيرٍ مِن الشبابِ المُسْلِمِ كالنَّارِ في الهَشيمِ.
نسألُ اللهَ
-تبارك وتعالى- أنْ يحفظَ علينا دينَنَا وعلى المُسلمينَ،إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
الخَلْقُ لِمَن؟
للهِ ربِّ
العالمين، هذه المادةُ الصَّمَّاءُ، الإنسانُ مخلوقٌ مِن المادةِ كما خُلِقَ أبوهُ
آدَمُ مِن الطينِ، لَكِنَّ هذا الطينَ لَمَّا نُفِخَ فيه الرُّوحُ صارَ حيًّا مُتحركًا
مُحِبًّا مُبْغِضًا رَائِحًا جَائيًّا، يقولُ ويتكلمُ عن نَفْسِهِ، صَارَ كائِنًا
حَيًّا، ثم تُسْلَبُ منه الرُّوحُ فيصيرُ الجسدُ إلى الترابِ، هذه هي القضيةُ،
ليست المسألةُ راجعةً إلى العَبَثِ الذي يَعبثون.
فإذن؛ لو تَنَزَّلْنَا
معهم وقُلْنَا لهم: نعم، فلننْظُر في هذه المسألةِ التي تتكلمونَ فيها، صَنِّعُوا
لَنَا مِن المادةِ المخلوقةِ التي هي في الأصلِ موجودةٌ أَمَامَكُم وفي متناولِ
أيديِكُم، صَنِّعُوا مِنْهَا جُزيئًا واحدًا مِن البروتين، لا يستطيعون.
قام بعضُ
العلماءِ مِن الكُفَّارِ بحسابِ هذه العوامل التي ينبغي أنْ تتوفرَ حتى يتكونَ
جزيءٌ واحدٌ مِن البروتين بالمصادفةِ، هذه قوانينُ الرياضة وهي ثابتةٌ؛ حقائق، وهم
أَنْفُسُهُم الذين بَحَثُوا وفَحَصُوا وفَكَّرُوا ودَبَّرُوا حتى وَصَلُوا إليها،
لكي يبدأَ أَوَّلُ جزيءٍ بروتينيٍّ في الحياةِ لا بُدَّ مِن تَوَفُّرِ كثيرٍ مِن
العوامل.
فما تقول
فيما وراءَ ذلك؟
جزيء واحدٌ مِن
البروتين يحتاجُ إلى ما يزيدُ على سَعَةِ هذا الكَوْنِ بملايين المَرَّاتِ مِن أَجْلِ
أنْ تُخْلَقَ المادة، يعملُ قانونُ المصادفةِ عَمَلَهُ، مِن أَجْلِ أنْ يتكونَ
جزيءٌ واحدٌ مِن البروتين، لقد قاموا بحسابِ هذه العوامل؛ فَوَجَدُوا أنَّ الصدفةَ
لا تتهيأ مِن طريقِ المُصادفةِ لتكوينِ جزيء بروتين واحد إلَّا بنسبةِ واحد إلى
عشرٍ 10 أمامها مئةٌ وستون 160 صفر، رقم عشرة 10 مضروب بنفسه ستين ومائة 160 مَرَّة،
هو رقم لا يُمْكِنُ النُّطْقُ به أو التعبيرُ عنه بكلمات، ينبغي أنْ تكونَ كَميةُ
المادةِ التي تَلْزَمُ لحدوثِ هذا التفاعلِ بالمصادفةِ بحيثُ يَنْتجُ جزئٌ واحد،
ينبغي أنْ تكونَ المادةُ أكبرَ مِمَّا يَتَّسِعُ له هذا الكون بملايين المَرَّات،
هذا كلُّهُ بالرياضيات، بالحساب، بالأرقامِ؛ لأنه عملٌ عقليٌّ محْض لا علاقة له بدِين،
هذه حساباتٌ مُجَرَّدَةٌ صَمَّاء لا تَنْحازُ لأحدٍ، ليست لها عاطفة، هذا عَمَلُ
عقلٍ لا عاطفةَ ولا قَلْبَ مَعًا، هذه رياضيات، والرياضيات ليست منها رياضياتٌ
كافرة، ورياضياتٌ مُسْلِمَة، هي ثابتةٌ عملٌ عقليٌّ مَحْض لا ينحازُ لأحدٍ، لا
عاطفة معه ولا قَلْبَ له، فيجبُ أنْ تتصورَ حَجْمَهُ؛ هو أكبرُ مِن الكَوْنِ الذي
تَصَوَّرَهُ أينشتاين بِمَرَّات لا يُمكنُ أنْ ينطقَ لَهَا لكثرتِهَا ولكثرةِ
الأصفارِ فيها.
ونقولُ لهم: أكبرُ مِن
الكونِ الذي تَصَوَّرَهُ أينشتاين -وهو يهوديٌ هالكٌ-؛ لأننا نخاطبُهُم بلُغَتِهِم،
نَفْتِل لَهُم مِن لِحَاهُم -كَمَا يقولون مِن ذُقونِهِم-، فَنَفْتِل لهم مِن لِحَاهُم،
نُكَلِّمُهُم بِمَا يَعْرِفُون، بِمَا لا يُمْكِنُ أنْ يَدْفَعُوهُ.
يتطلبُ تكوينُ
هذا الجُزيء على سَطْحِ الأرضِ وَحْدَهَا عن طريقِ المصادفةِ بلايين لا تُحْصَى مِن
السنوات قَدَّرَهَا بَعْضُه بأنها عَشْرَةٌ 10 مضروبة في نَفْسِهَا مائتين وثلاثٍ
وأربعين 243 مَرَّة مِن السنين، يعني عَشْرَةً 10 وتضع أمامَهَا هذا الرقمَ مِن
الأصفار-الرقم مائتان وأربعون وثلاثٌ 243 من المرات مِن الأصفارِ وهو لا يُنْطَق-.
البروتينات
تتكونُ مِن سلاسل طويلة مِن الأحماضِ الأمينية، فكيف تتألفُ ذَرَّاتُ هذه
الجزيئات؟
إذا تَأَلَّفَت
بطريقةٍ أخرى غير التي تتألفُ بها تكونُ غيرَ صالحةً للحياة، بَل تصيرُ في بعضِ
الأحيان سُمومًا.
الإيمانُ
بوجودِ اللهِ تعالى والتصديقُ الجازمُ مِن صميمِ القلبِ بوجودِ ذاتِهِ تَعَالَى
الذي لم يُسْبَقُ بِعَدَم، ولم يُعَقَّب به، هو الأَوَّلُ فليسَ قَبْلَهُ شَيء،
والآخرُ فليسَ بعدهُ شيء، والظاهرُ فليس فَوْقَهُ
شيء، والباطنُ فليس دُونَهُ شيء، حيٌّ قَيوم، أَحَدٌ صَمَدٌ، لم يَلِد وَلَم يُولَدُ
ولم يَكن له كُفوًا أَحَد.
كلُّ كائنٍ
موجودٍ أُعْطِيَ الوجود؛ أعطاهُ غيرَهُ الوجود، أمَّا اللهُ -تبارك وتعالى- فوجودُهُ
لِذَاتِهِ مِن حيثُ هي، وهذا معنى أنه وَاجِبُ الوجودِ ومَا سواه فهو مُمْكِنٌ، بمعنى
أنه كان معدومًا فأَوْجَدَهُ اللهُ ثم يَسلبُهُ وجودَهُ بعد أنْ أَوْجَدَهُ، يستوي
في حقِّهِ الوجودُ والعَدَم.
هذا طَرَفٌ
قد نحتاجُهُ عِنْدَمَا نُنَاظِرُ مُلْحِدًا يُنْكِرُ وجودَ اللهِ -تبارك وتعالى-،
فنُقيمُ عليه الحُجَّةَ بِمَا وَصَلَ إليه القومُ مِن العلومِ العقليةِ، ومِن البَحْثِ
في المادةِ نَفْسِهَا، غير أنهم لم يهتدوا للوجودِ الحَقِّ، ولم يهتدوا للهِ -تَبَارك
وتعالى-؛ لأنهم قد عَمُوا عن وجودِ رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- بصفتِهِ صِفَة
الرسالةِ صفة النُّبوَّةِ-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
لأنَّ كثيرًا
مِن علماءِ المادةِ في الغربِ والشرقِ أَثْبَتُوا وجودَ الخَالِقِ، قالوا: لا بُدَّ
مِن وجودِ قُوة، وهذه القوةُ لَهَا قُدرةٌ مُطْلَقَة، لَهَا إرادة مُطلقة، لَهَا عِلْمٌ
كاملٌ، ولكنَّهُم لم يهتدوا إلى وجودِ الإلهِ الحَقِّ بأسمائِهِ وصفاتِهِ؛ لأنَّ
ذلك لا يَدُلُّ عليه إلَّا رسول اللهِ–صلى الله عليه
وسلم-.
ولكنْ أثبتوا
وجودَ صانع.
قالوا: هذا الكَوْنُ
لا يُمْكِنُ أنْ يُوجَدَ هكذا لا بالمُصادفةِ ولا أنْ يُوجِدَ نَفْسَهُ، هذا عليه كثيرٌ
جِدًّا مِن علماءِ الغربِ الذين يبحثونَ في المادةِ مِن علماءِ الكيمياء، ومِن علماءِ
الفيزياء، ومِن عُلماءِ الرياضيات، ومِن عُلماءِ الفَلَكِ، كثيرٌ منهم يُثْبِتُ
وجودَ خَالقِ، وجودَ صانِعٍ، وجودَ مُوجِدٍ، وهنالك كُتُبٌ كثيرةٌ جَمَعَت شهادَات
هؤلاء ككِتَابِ ((اللهُ يَتَجَلَّى في عصرِ العِلْمِ))؛ ففيه شهاداتُ هؤلاء
القومِ عند بَحْثِهِم ونَظَرِهِم في تَخَصُّصَاتِهِم المختلفةِ مِن العلومِ الطبيعة،
ومِن العلومِ الماديةِ؛ فَشَهِدُوا بوجودِ خَالِق؛ بوجودِ صَانِع، وتوقفوا عند هذه
الحدود، وأكثرُهُم كان مُلْحِدًا قَبْلُ؛ فكان يُنْكِرُ وجودَ الخالقِ، يُنْكِرُ
وجودَ الصانع، ثم مع البحثِ، مع النَّظَرِ، مع التَّقَدُّمِ في المجالِ؛ أثبتوا
وجودَ صَانِع، أو وجودَ خَالِق، ولَكِنْ مَا أسمائُهُ؟ ما صِفَاتُهُ؟ ما الذي يُريدُهُ
مِنَّا؟ مَن الذي يَدُلُّ عليه؟ ما الرسالةُ التي أرسَلَهَا إلينا؟ ما هو المطلوب
مِنَّا؟ إلى غيرِ ذلك مِن هذه الأمورِ العظيمةِ، هُم لم يهتدوا إلى ذلك؛ لأنهم لم
يُثْبِتُوا رسالةَ رسولِ اللهِ–صلى الله عليه
وسلم-، وهذه الأمورُ كلُّهَا إنَّمَا تُعْرَفُ مِن جهتِهِ ؛لأنه يَدُلُّ عليها النقلُ،
ولا يَدُلُّ عليها العقل.
أثبتوا الخَالِقَ
الذي خَلَقَ المخلوقات، أثبتوا المُوجِدَ الذي أَوْجَدَهَا، لكنَّهُم لَم يَعْرِفُوا
الدينَ الحَقَّ؛ لأنه لا يُعْرَفُ إلَّا مِن قِبَلِ الوَحي، وقد صَدُّوا أَنْفُسَهُم
عن الوصولِ إلى الحَقِّ، لَمَّا أَنْكَرُوا رسالةَ رسولِ الله –صلى الله عليه
وسلم-، فَصَدُّوا عنه –صلى الله عليه
وآله وسلم-، فَلَم يعرفوا الدينَ الحَق؛ لأنه لا يُعْرَفُ إلَّا مِن قِبَلِ الوحي.
فالحمدُ للهِ
الذي هَدَانَا للإيمان ومَا كُنَّا لنهتديَ لولا أنْ هَدَانَا اللهُ.
هذا هو الأمرُ
الأولُ مِن الأمورِ الأربعةِ التي يتضمنُها الرُّكنُ الأَوَّلُ مِن أركانِ الإيمان
وهو الإيمانُ باللهِ-جَلَّ وَعَلَا-؛ أنْ تُؤمنَ بوجودِهِ، هذا مُهِمٌّ جِدًّا عند
سَلَفِنَا المُتقدمين، لَم يَكُن هذا مَحَلَّ بَحْثٍ، هل نحتاجُ إلى إثباتِ وجودِ
الخَالِقِ؟! لقد جَعَلَ اللهُ–تبارك وتعالى-
الإيمانَ بذلك مَغروسًا في الفطرةِ الإنسانيةِ؛ لذلك قال العلماءُ: أَوَّلُ واجبٍ على
العبدِ أنْ يشهدَ أنْ لا إله إلا الله، هذا أَوَّلُ واجبٍ على العبدِ، ليس أَوَّلُ
واجبٍ على العبدِ النَّظَرُ ولا القَصْدُ إلى النَّظَرِ، ولا الشَّك.
يعني مِن أَجْلِ
أنْ يُثْبِتَ بالدليلِ العقليِّ وجودَ الخَالِقِ العظيمِ كَمَا يقولُ كثيرون مِن
أصحابِ المذاهبِ العقائديةِ المُنحرفةِ، حتى إنهم يقولون: إذا قَلَّدْتَ في هذا
الباب لم تَكُن مُسْلِمًا، أو لَم تَكُن مُؤمِنًا، يعني يقولون: الذي يقول بوجودِ
الخالقِ العظيمِ مِن غيرِ إثباتٍ بحُجَّةٍ عقليةٍ هذا مُقَلِّد، والتقليدُ لا يجوزُ
أبدًا في المسائلِ العقائديةِ، كذا يقولون، وهذا خطأٌ مَحْض، إنما يحتاجُ الإنسانُ
إلى إقامةِ الدليلِ على وجودِ الخالقِ العظيمِ إذا وَقَعَ في الفِطْرَةُ شيء؛ لأنَّ
الإنسانَ مَفْطُورٌ على إثباتِ الخالق، على إثباتِ الصَّانِع، كما مَرَّ في دليلِ
الفِطرةِ على إثباتِ وجودِ الخالقِ العظيمِ، بَل قد مَرَّ أنَّ البهائمَ؛ أنَّ
الحيوانات، أنَّ المخلوقات الحيَّةَ تُثْبِتُ وجودَ الخالقِ العظيم، كما مَرَّ في
قصةِ النَّمْلَةِ مع سُليمان إلى غير ذلك مِن هذه المسائل التي تَدُلُّ عليها الفِطرة،
بَل إنَّ الفِطرةَ تَدُلُّ على صفةِ العلوِّ الذاتيِّ للهِ-جَلَّ وعلا-.
كَمَا قالَ
الهَمَدَانيُّ للجوينيِّ عندما قَرَّرَ على المِنْبَرِ شيءٌ يصلُ به لإنكارِ صِفَةِ
العلوِّ للهِ–العَليِّ الأَعْلَى-،
ويريدُ أنْ ينفيَ الاستواءَ لنَفْي العلوِّ عن اللهِ–تبارك وتعالى-: ((كانَ
اللهُ ولا عَرْش وهو اليومُ على مَا كانَ عليهََ!!))
فقال له: ((دَعْنَا مِن
العَرْشِ والفَرْشِ وأخبرْنَا الآن عن هذه الضرورةِ التي يَجِدُهَا كلُّ إنسانٍ في
قَلْبِهِ إذا قالَ يا رَب؛ فإنه يَجِدُ في نَفْسِهِ ضرورةً تَتَّجِهُ إلى العلوِّ،
فأَخْبِرْنَا كيف نَخْرُجُ مِن هذه الضرورة؟))
فأَخَذَ يَلْطُمُ
على رأسِهِ وَنَزَلَ عن المِنبرِ يقول: ((حَيَّرَني
الهَمداني، حَيَّرَني الهمدانيُّ)).
بمعنى القصة
المعروفة المشهورة وهي المعروفةُ بإسنادِهَا.
إذن الإنسانُ
عندما يقولُ: سبحانَ رَبي الأعلى وهو ساجد يتجهُ قلبُهُ جهةَ العلوِّ، مع أنه في
السُّفْلِ، مع أنَّ الإنسانَ ساجِدٌ للهِ -تبارك وتعالى- يُمَرِّغُ أَنْفَهُ في
الترابِ لرَبِّهِ ويقول: سبحان رَبي الأعلى، ولَكِنَّ قلبهُ يتجهُ إلى جِهَةِ
العلوِّ لا إلى جِهَةِ السُّفْلِ.
فَطَرَ اللهُ
الإنسانَ على ذلك؛ على إثباتِ هذه الصِّفَةِ للهِ -جَلَّ وعلا-، ولا يُمْكِنُ أنْ
تَثْبِتَ صفةً لموجودٍ من غيرِ إثباتِ ذاتٍ تكونُ موصوفةً بهذه الصِّفَةِ.
فإذن الإنسانُ
مفطورٌ على إثباتِ وجودِ الخَلَّاقِ الصَّانِعِ العظيمِ العَليِّ الأَعْلَى، ولَكِن
قد يُصيبُ هذه الفِطْرَةَ شيءٌ كأنْ يَنْشَأ الإنسانُ في بيئةٍ مُلْحِدَةٍ أو في
بيئةٍ كَثُرَت فيها الشُّبُهَات، فيحتاجُ حينئذٍ إلى إقامةِ الدليل.
نحن في هذا
العصرِ نحتاجُ إلى إقامةِ الدليلِ على وجودِ الرَّبِّ، إنْ لم يَكُن لأنْفُسِنَا؛
فلإخوانِنَا مِن المُسلمين، حتى يَثْبُتُوا على الحَقِّ الذي فَطَرَهُم اللهُ
عليه، أو لِمَن انحرفَ عن القَصْدِ فَتَكَاثَرَت عليه الشًّبُهَات حتى وَقَعَ في شُبْهَةٍ
مِن الشُّبُهَاتِ التي تُخْرِجُهُ مِن الجَادَّةِ إلى الإلحادِ -والعياذُ باللهِ ربِّ
العالمين-، هذا نحتاجُهُ بَل نحتاجُهُ احتياجًا ضروريًّا في هذا الوقتِ، فَمَا
أكثر ما يَلْقَى الإنسانُ مِن المَلاحِدَةِ، ومَا أكثرَ مَا يَسمع عنهم ومَا أكثرَ
ما تُنْقَلُ إليه شُبُهاتُهُم، وكلُّهَا فارغة ليست لَهَا قيمة، وهي قديمةٌ ليست
بحديثة، بَل إنَّ بعضَهُم رُبَّمَا أَلْحَدَ بسببِ أمورٍ غريبة.
واحدٌ منهم
يقول: تقولونَ إنَّ اللهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْض؛
خَلَقَ السموات سَبْعًا.
قلنا: وأيُّ شيءٍ
في هذا؟
قال: بَل هي
سماءٌ واحدةٌ.
فقلنا: كيف؟
قال: لا أَرَى
إلَّا وَاحِدَة.
فتقول: هل لك عَقْل؟
فيقول: نعم لي
عقل.
فنقول: تراه؟
فيقول: لا.
نقول: لا عَقْلَ
لَكَ.
إلى غيرِ ذلك
مِن هذه الأمور، هل لكَ قَلْب، هل لك كَبِد، إلى غيرِ ذلك مِن هذه المسائل التي يُسْتَدَلُّ
عليها بالعقلِ، وتَدُلُّ عليها كثيرٌ مِن الدلائلِ اليقينيةِ ولا تُرَى بالعينِ، فَمَا
أكثر الأشياءِ التي لا تَرَاهَا بالعينِ، ولَكِنَّكَ مع ذلك تُثْبِتُهَا بالعقلِ
إثباتًا يَقينيًّا.
وقَد مَرَّ
عندَ الرَّدِّ على المُلحدين إثباتُ الفَرْقِ بين التَّعَقُّلِ والتَّصَوُّرِ،
التَّرَدُّدُ الذي يكونُ مَثَلًا بالشوكةِ الرَّنَانَةِ، هذا التَّرَدُّدُ يبلغُ
عددًا لا يُمْكِنُ أنْ يَتَصَوَّرَ الإنسانُ أنْ يَقَعَ في جُزْءٍ مِن الثانيةِ ولَكِنَّ
العَقْل يُثْبِتُهُ، فيكون هذا معقولًا غير مُتَصَوَّر، يعني أنَّ العقلَ لا يُمْكِنُ
أنْ يتصورَ هذا ولكنَّهُ يُثْبِتُهُ، لا يُمْكِنُ أنْ يُنْكِرَهُ، فهناك فَرْقٌ
بين التَّعَقُّلِ والتَّصَوُّرِ.
لذلك يقولُ
العلماءُ: أنَّ هذه الأمور التي فَرَضَهَا اللهُ–تبارك وتعالى-
علينا ديانةً، إنَّ هذا الدينَ فيه ما تَحَارُ فيه العقولُ، ولَكِنْ ليس فيه ما تُحيلُهُ
العقولُ.
تحيلُهُ: يعني تقولُ
هذا مستحيلٌ عقليٌّ؛ لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ.
فالعقولُ
تَحَارُ فيه، ولكنَّهَا لا تُحيلُهُ؛ يعني تقولُ: هذا مُمْكِنٌ عقليٌّ، هذا
غيرُ مستحيلٍ مِن حيثُ العقل، ولَكِنَّ العَقْل يَحَارُ في تَصَوُّرِهِ، هذا هو
الفَرْقُ بين التَّعَقُّلِ والتَّصَوُّرِ.
أمورٌ يسيرةٌ
على طالبِ العلمِ على مِنْهَاجِ النُّبوَّةِ أنْ يحذقَهَا في ذلك العصرِ حتى
يستطيعَ أنْ يقفَ في وَجْهِ هذه الهَجْمَةِ الإلحاديةِ التي تتعرضُ لهَا الدولُ
الإسلاميةُ، يتعرضُ لَهَا المُسلمونَ هنا وهنالك، وبالوسائِلِ الحديثةِ في
المعلوماتِ صارَ هذا وَاصِلًا إلى كلِّ أحدٍ في مَكْمَنِهِ في خِدْرِهِ، والخِدْرُ
لا يكونُ إلَّا للمرأةِ، فإذا وَصَلَ ذلك إليه في خِدْرِهِ فذلك شيءٌ عظيمٌ، ينبغي
على الإنسانِ أنْ يعرفَ هذا حتى لا يَتَوَرَّط في شيء.
نسألُ اللهَ ربَّ
العالمين أنْ يُثَبِّتنَا على الإيمانِ الحَقِّ إنه على كلِّ شيءٍ قدير.