((خطبة لقد صاروا جميعًا من أهل
السِّياسَة))
خطبة الجمعة 13 من المحرم 1438هـ الموافق
14-10-2016م
الْحَمْدَ لِلَّهِ
نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا
وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى
آلِهِ وَسَلَّم-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ
الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ
بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَمِنْ أَسبَابِ ذَهَابِ الأَمنِ وإشَاعةِ الاضطِرابِ وَالفَوضَى؛
شَغْلُ النَّاسِ بالسِّياسَةِ وَزَجُّهُم فِيهَا...
فإنَّ ممَّا يُؤدي إِلى زَعزَعَةِ الأَمنِ وَلَوْ علَى
المَدَى البَعِيد؛ شَغْلَ النَّاسِ بالسِّياسَة الخَاصة بالحُكومَات وَزَجَّهُم
فيهَا عن جَهلٍ وعَدمِ دِرَايَة, فالسِّياسَة عِلمٌ مِنَ العُلومِ؛ بلْ هِيَ عِلمٌ
صَعبٌ جدًّا, أَحيانًا لَا يُعرَفُ لهَا رأسٌ مِن ذَيْل!! فَكيفَ تُعرَضُ علَى النَّاسِ
عامَّة يُنَاقِشُ فيهَا الجَمِيع؟!
وَقَبْلَ بَيانِ هَذا الأَمرِ الخَطِير وَتَوضِيحِه لَا
بُدَّ مِن تَعرِيفِ السِّياسَة.
السِّياسَةُ فِي الاصطِلاح: هِيَ السِّياسَةُ المَعرُوفَةُ اليَوْم, وهي مَا كانَت
تُعْرَفُ عند العُلمَاءِ بالسِّياسَةِ الشرعِيَّة, وَالأحكَامِ السُّلطَانِيَّة, وَالسِّياسَةِ
المَدنِيَّة.
وَالسِّياسَةُ الشَّرعِيَّةُ: رِعَايَةُ شُؤونِ الأُمَّةِ فِي الداخِل والخَارج بمَا
لَا يُخالِف الشَّرِيعَةَ الإِسلامِيَّة.
وَقَد عَرَّفَهَا خَلَّافٌ بقَولِهِ: ((هِي تَدبِيرُ الشُّؤونِ العَامَّة للدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ
بِمَا يَكفُلُ تَحقِيقَ المَصالِح وَدَفعَ المَضَار, ممَّا لَا يَتعدَّى حُدودَ الشَّرِيعَة
وَأُصولهَا الكليَّة وَإِنْ لَمْ يَتَّفِق وَأَقوالَ الأئمَّة المُجتَهِدِين)).
وَمَعنَى قَولِه: ((وَإِنْ لم يَتَّفِق وَأَقوالَ الأئمَّةِ
المُجتَهِدِين)): أَنَّ السِّياسَةَ الشَّرعِيَّةَ لَيسَت حَكْرًا علَى الأئمَّة
المُتقدِّمِين؛ بلْ لَا بأسَ مِن أنْ يَجتَهِدَ العَالِمُ المُتبَحِّرُ مِن أُولِي
الأَمرِ فِيمَا يَجِدُّ لِلأُمَّة مِن الأَحداث وَمَا يَنزِلُ بهَا مِن النَّوازِل,
وَلِذلِك قَالَ: ((فالسِّياسَةُ الشَّرعِيَّةُ علَى هَذا هِي العَمَلُ بالمَصالِح المُرسَلَة؛
لأنَّ المَصلَحَةَ المُرسَلَةَ هِيَ التِي لَم يَقُم مِنَ الشَّارِعِ دَلِيلٌ علَى
اعتِبَارِهَا وَلَا علَى إِلغَائها)).
إِذَنْ يَدُورُ أَمرُ السِّياسَة علَى الإِصلاحِ وَالتَّدبِيرِ
وَالرِّعَايَةِ, وَالاجتِهَادِ وَالعَمَل, وَإِدارَةِ الشُّؤون وَالأُمور العَظِيمَة,
وَأَماكِنِ الدَّولَةِ الثَّقِيلَة؛ كَالوزارَاتِ وَالجُيوش وَالمُعاهَداتِ الدَّولِيَّةِ
وَالدُّوَلِ المُجاوِرَة.
فَهَل يَتكَلَّمُ فِي هَذا مَن هَبَّ وَدَبَّ وَطَارَ وَدَرَج
وَيَعتَرِض مَنْ لَا يَدرِي شيئًا؟!
إِنَّ سِياسَة الأُمور مِن شُؤونِ السَّاسَة؛ فَهِي أُمورٌ
تَحتَاجُ إِلَى عِلْمٍ وَمَعرِفَةٍ, وَمُستَجَدَّاتُها مِنَ النَّوازِل التِي تَحتاجُ
إِلَى عُلمَاءَ يُبصِرونَ الأُمُورَ جَيِّدًا, فَالعُلمَاءُ وَالسَّاسَةُ -وَهُم وُلاةِ
الأَمرِ- أَدْرَى بذَلِك.
قَالَ أَبُو الحَسَن المَاوَردِيُّ الشَّافِعِيُّ: ((وَلَمَّا كَانَتْ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ بِوُلَاةِ
الْأُمُورِ أَحَقَّ, وَكَانَ امْتِزَاجُهَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ يَقْطَعُهُمْ عَنْ
تَصَفُّحِهَا مَعَ تَشَاغُلِهِمْ بِالسِّياسَةِ وَالتَّدْبِيرِ, أَفْرَدْتُ لَهَا كِتَابًا
امْتَثَلْتُ فِيهِ أَمْرَ مَنْ لَزِمَتْ طَاعَتُهُ, لِيَعْلَمَ مَذَاهِبَ الْفُقَهَاءِ
فِيمَا لَهُ مِنْهَا فَيَسْتَوْفِيَهُ, وَمَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَيُوَفِّيَهُ; تَوَخِّيًا
لِلْعَدْلِ فِي تَنْفِيذِهِ وَقَضَائِهِ)).
وَتَأَمَّل قَولَه: ((وَلَمَّا كَانَتْ الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ -أَيْ:
السِّياسَة- بِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَحَقَّ)) فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعطَى العِلمَ حَقَّهُ,
وَلَولَا انشِغَالُ وُلاةِ الأَمرِ عَن الاطلاعِ وَالقِراءةِ حَولَ هَذا الشَّأن لَمَا
كَتَبَ وَأَلَّفَ فِيهِ.
وَمِمَّا يَدُل علَى هَذا حَدِيثُ أَبِي هُريرَة –رَضِي
اللهُ عَنهُ- فِي ((الصَّحِيحَين)) عَن النَّبِيِّ –صلَّى
اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((كَانَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ
نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُن))
قَالُوا:
فَمَا تَأْمُرُنَا؟
قَالَ:
((فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ
سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ)).
وَمَعنَى قَولِه –صلَّى
اللهُ عَليهِ وَسلَّم-: ((تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ))
قَالَ عَنهُ ابنُ حَجَر:
((أَيْ
أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا ظَهَرَ فِيهِمْ فَسَادٌ؛ بَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ نَبِيًّا يُقيمُ
لَهُم أَمْرَهُمْ, وَيُزِيلُ مَا غَيَّرُوا مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ, وَفِيهِ إِشَارَةٌ
إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّعِيَّةِ مِنْ قَائِمٍ بِأُمُورِهِم يَحْمِلُهَا عَلَى
الطَّرِيقِ الْحَسَنَةِ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ)).
فَتَأَمَّل
مَن الذِي يَسُوسُ القَوم –أَيْ:
يُديرُ أُمورَهُم- إِنَّهُم الأَنبِيَاءُ خَيرُ البَشَرِ عِلْمًا وَحِكمَةً وَخُلُقًا,
وَالعُلمَاءُ وَرَثَةُ الأَنبِيَاء؛ لِذَا يَسِيرونَ علَى هَديِهِم وَسُنَّتِهِم؛
فَلَيسَ الأَمرُ لكُلِّ أَحَد, وَلَا تُطرَحُ السِّياسَةُ وَشُؤونُ الدَّولَةِ وَأسرَارُهَا
علَى مَسَامِعِ كُلِّ أَحَد, فإِنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُ كُلُّهُم وَلَا يَدرِي
كَثِيرٌ مِنهُم المَصلَحَةَ مِنَ المَفسَدَة.
لِذَا
لَم يَكُن كِبَارُ الصَّحَابَة وَقَادَتُهُم كَأبِي بَكرٍ وَعُمَرَ –رَضِي
اللهُ عَنهُمَا- يُخبِرُونَ النَّاسَ بكُلِّ شَيءٍ, بَلْ يَكُونُ ذَلك بَينَ الخَاصَّةِ
مِنهُم.
عَن
ابنِ عَبَّاسٍ –رَضِي
اللهُ عَنهُمَا- قَالَ: ((كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا
مِنَ المُهَاجِرِينَ، مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَمَا أَنَا
فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا،
إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ
المُؤْمِنِينَ اليَوْمَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ فِي فُلاَنٍ؟
يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلاَنًا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ
بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ العَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلاَءِ
الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ.
قَالَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَفْعَلْ، فَإِنَّ المَوْسِمَ
يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ
عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ
مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لاَ يَعُوهَا، وَأَنْ لاَ يَضَعُوهَا
عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدُمَ المَدِينَةَ، فَإِنَّهَا دَارُ الهِجْرَةِ
وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ
مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا.
فَقَالَ
عُمَرُ: أَمَا وَاللَّهِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لَأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ
أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ)). وَالحَدِيثُ فِي
((الصَّحِيحَين)).
فَالحَاصِل
أَنَّ رَجُلًا أَرادَ أَن يُبَايِعَ علَى خِلافِ مَا كَان عَليهِ الأَمرُ فِي زَمَنِهِم,
وَأَرادَ أَنْ يَزرَعَ الفِتنَةَ فِي المُسلِمين, فَأَرادَ عُمَرُ –رَضِي
اللهُ عَنهُ- أَنْ يَنهَاهُ عَلَنًا, وَأَنْ يُبَيِّنَ سِياسَةَ الدَّولَةِ
الإسلاميَّةِ فِي اختِيَارِ الخَلِيفة, وَكَيفَ تَمَّت بَيعَةُ أَبِي بَكر, لَكِنَّ
عَبد الرَّحمَن بنِ عَوفٍ –رَضِيَ
اللهُ عَنهُ- مَنَعَ عُمَرَ؛ لِأنَّ الحَجِّ فِيهِ الجَاهِلُ وَالعَالِم, وَالبَلِيدُ
وَاللَّبِيب, فَخَشِيَ أَلَّا يَفهَمُوا مُرادَهُ وَيُحْمَلَ كَلامُهُ علَى غَيرِ
مَحمَلِهِ؛ فَتَحصُلَ الفِتنَة, لَكِن إِذَا أَتَى المَدِينَة حَدَّثَ مَن يَفْقَهُ
ذَلِك بِلَا إِشكَال.
وَمعنَى
قَولِهِ: ((رَعَاعَ
النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ)) أي: الجَهَلَةَ الرُّذَلَاء,
وَقِيلَ: الشَّبَابُ مِنهُم.
وَالغَوغَاءُ:
أَصلُهُ صِغَارُ الجَرادِ حِينَ يَبدَأُ فِي الطيرانِ, وَيُطلَقُ علَى السِّفْلَةِ
المُسْرِعِينَ إِلَى الشَّرِّ.
فَبِهَذا
نَعلَم أَنَّ الشُّؤونَ الخاصَّةَ للدَّولَة وَالأمورَ الحسَّاسَةَ فيهَا لَا تُطرَح
عَلَنًا, -وَهِي مَا يُقالُ لهَا فِي هَذا العَصرِ: بأُمُورِ وَأسرَارِ الدَّولَةِ
مِن الأَمْنِ القَومِيِّ وَمَا أَشْبَه-؛ فَهَذِهِ لَا تُطرَحُ عَلنًا بلْ يُتَصَدَّى
لهَا أَهلُ الحَلِّ وَالعَقدِ وَالقَادَةُ وَالعُلمَاءُ وَالسَّاسَةُ الفُقَهَاءُ.
لِذَلِك
كُلَّ مَن تَكَلَّم فِي السِّياسَة سَابِقًا كَانُوا مِنَ العُلمَاءِ, وَإِلَيكَ شَيئًا
مِن مُؤلَّفَاتِهِم:
*فَهَذا
كِتَابُ ((الأحكَامِ السُّلطَانِيَّةِ وَالوِلايَاتِ الدِّينِيَّة)) لِلْمَاوَرْدِيِّ.
*وَلَهُ أَيضًا كِتَابُ ((دُرَر السُّلوك فِي سِياسَةِ المُلوك)).
*وَأَمَّا ابنُ نُجَيْم الفَقِيهُ الحَنَفِي -وَهُوَ فَقِيهُ الحَنفِيَّةِ
فِي زَمَانِهِ- فَلَهُ كِتَابُ ((السِّياسَةُ الشَّرعِيَّةُ)).
*وَكَذَا لابنُ جَمَاعَة قَاضِي مِصرَ وَالشَّام -وَهُوَ بَدرُ الدِّينِ
بنُ جَمَاعَة- لَهُ كِتَاب ((تَحرِيرُ الأَحكَام فِي تَدبِير أَهلِ الإِسلَام)).
*وَلِشَيخِ الإِسلَامِ –رَحمَهُ
اللهُ تعَالَى- وَهُوَ أَحسَنُ مَا كُتِبَ فِي هَذَا ((السِّياسَةُ الشَّرعِيَّةُ
فِي إِصلَاحِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّة)).
فَانظُر
–رَعاكَ اللهُ- مَن الذِي
يَتَحَدَّثُ فِي السِّياسَةِ, وَلِمَنْ تُكْتَبُ وَتُقَالُ؛ لِتَعلَم أَنَّهُ عِلمٌ
صَعبُ المَنَال, قَد خَاضَ بِحَارَهُ وَسَبَرَ أَغوَارَهُ, وَاستَخرَج كُنوزَهُ؛
العُلمَاءُ وَالفُقهَاءُ لَا عَامَّةُ النَّاسِ وَالغَوغَاءُ مِنهُم.
وَنظرًا
لخَفَاءِ هَذا العِلمِ وَصُعوَبَتِهِ؛ فإنَّه لَا يُذْكَرُ أمَامَ عامَّةِ النَّاس؛
لأنَّ ذلِك يُؤدِّي إلَى الفِتَن وَالمِحَن, فإنَّ انتِقَادَ سِياسَةِ وُلَاةِ الأَمرِ
وَالدَّولَة أمَامَ النَّاسِ وَعَبرَ وَسائلِ الإِعلَامِ وعلَى المَنابِر؛ مُخالِفٌ
للشَّرعِ وَالحِكمَةِ وَالعَقلِ, فَمَا أَسْرَعَ هَيجَانَ النَّاسِ وَمَا أَسهَلَه,
فَإنَّ بَعضَ النَّاسِ يَظُنُّ أنَّ الكَلامَ فِي هَذا الشَّأنِ شَجاعَة وَالحَقُّ
أنَّهُ غَبَاوَة؛ لأنَّه يَحتَاجُ إِلَى عِلمٍ وَفِقْهٍ وَإِلمَامٍ، فَإنَّ وَلِيَّ
الأَمر تُحيطُ بِهِ مِنَ الأحوَال وَالسِّيَاسَاتِ وَالمَشَاكِل, وَيَعلَم مِن التَّقارِير
وَالأَسرَارِ مَا لَا يَعلَمُه عامَّة النَّاس, وَيَكُونُ قَرارُهُ فِي المُنْتَهَى
مُؤسَّسًا علَى ذَلِك كُلِّهِ؛ فَيَظهَرُ أمَامَهُم بغَيرِ مَا يُريدُون, فَيأتِي
النَّقدُ وَالطَّعنُ وَالتَّهيِيجُ تَحتَ عُنوان (حُريَّة الرَّأي أَوْ الدِّيمُقراطِيَّة)؛
وَحِينَهَا يَكْرَهُهُ الكُلُّ أَوْ مُعظَمُ النَّاس, وَلَيسَ بعدَ ذَلِك إِلَّا زَعزَعَةُ
الأَمنِ وَالاستِقرار, وَلَيس إِلَّا الفَوضَى.
وَبَعضُ
وَسائلِ الإعلامِ سَلَكَت طُرقًا خَاطئةً؛ لِكَسبِ النَّاس وَجَلبِهُم تَجِاهَهَا,
فَجَعَلت لِلنَّاسِ البَرامِج التِي يُعبِّرُونَ فِيهَا عَن آرَائِهِم, وَيَسأَلُونَ
عمَّا لَا يَخُصُّهم, فَيَتَّصِل بِهِم كُلُّ مَنْ هَبَّ وَدَبَّ, وَرُبَّمَا مَن
لَا يَعرِفُ كَيفَ يَكتُب اسمَهُ!!
وَكُلُّهُم
يَتَكلَّمُون فِي سِياسَةِ الدَّولَة وَفِي أَخَصِّ خَصائصِهَا, وَيَنتَقِدُونَ حُكَّامَهُم
وَوُلَاةَ أَمْرِهِم, بَلْ إِنَّ بَعضَهُم رَبُّمَا تَبَجَّحَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ
كَانَ مَكَانَ وَلِيِّ الأَمرِ لَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا!! هَكَذَا!!
وَهَذا
خَطَأ مِن وُجُوهٍ كَثِيرَة مِنهَا:
*أَنَّهُ
مِن الظُّلمِ أَنْ يَحكُمَ القَاضِي علَى المُتَّهَمِ مِن قَبلِ أَنْ يَسمَع حُجَّتَهُ
وَدِفَاعَهُ, لِذَلِك لَا يَحكُم القَاضِي علَى المُتَّهَمِ الحَاضِرِ حتَّى يَحضُر
جَلسَةَ الحُكم, فَإِنَّ هَؤلاءِ الذِينَ يَتكَلَّمُون فِي وُلُاةِ الأَمرِ مُخطِئون,
وَمَنْ يُفسِحُ لَهُم المَجالَ فَهُوَ ظَالِمٌ بَلْ أَظْلَم؛ لِأنَّهُ لَو سَمِعَ
الطَّرفَ الآخَرَ لَوَجَدَ عِندَهُ حُجَّتَهُ وَدَلِيلَهُ لَكِنَّهُ غَائِب, فَكَيفَ
يَحكُمُ علَى سِيَاسَتِهِم بِالخَطَأ وَيُصدِرُ الحُكمَ فِيهِم قَبلَ سَمَاع حُجَجِهِم
وَدِفَاعِهِم؟!
*وَمِنهَا: أَنَّ ذَلِك لَا يَنفَعُ
الأُمَّة فِي شَيءٍ بَلْ يَزِيدُ الطِّينَ بِلَّةً, حَيثُ تَزدَادُ الشُّعوبُ حِقدًا
علَى حُكَّامِهَا؛ فَيزدَادُ العَداءُ بَينَ الحَاكِم وَالمَحكُوم, وَهَذا يَعنِي
زِيَادَةَ الفُرقَةِ وَالنِّزاعِ فِي الدَّولَة الإِسلَامِيَّة وَلِصَالِح مَن حِينَئذٍ؟
لِصَالِحِ أَعدَائهَا!!
إِنَّ
الإِسلامَ لَا يَزِيدُ الرَّتْقَ علَى الرَّاقِعِ, لِذَا حَثَّ الإسلَامُ علَى العَلاقَةِ
القَويَّةِ بَين الحَاكِمِ وَالمَحكُوم, وَأَدَّبَ النَّاسَ غَايَة الأَدَبِ مَع حُكَّامِهِم,
وَبَيَّن لهُم كَيفَ يَتِمُّ تَصحِيحُ الخَطَأ, وَمَتى, وَمَن الذِي يَتَوَلَّى ذَلِك؛
كُلُّ هَذا حِرصًا علَى وِحدَةِ الصَّفِّ فَانظُر مَن أين تُؤكَل الكَتِف.
وَلَقَد
نَسِيَ النَّاسُ أَنَّ السِّياسَة الشَّرعِيَّة عِلْم, وَأنَّ السِّياسَةَ فَنٌّ وَعِلْمٌ
يُدَرَّس, وَالنَّاسُ لَا يُشَارِكُونَ فِي البَرامِج الطِّبِيَّةِ وَلَا الهَندَسِيَّةِ
وَلَا الفَلَكِيَّةِ بآرَائهِم, وَلَا يُبدُونَ الأراءَ فِي مِثلِ هَذِهِ الأُمور,
وَإِنَّمَا يَستَمِعُونَ وَيَستَفْسِرُونَ فَقَط, بَلْ وَيَتَلَقَّى الوَاحِد مِنهُم
مَا يُلْقَى إِلَيهِ علَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ يَقِينِيَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا
رَيْبَ يَعتَرِيهَا, وَلَكِنْ فِي السِّياسَةِ كُلُّهُم سَاسَة, وَعُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ,
وَكُمَلَاءُ وَحُكَمَاءُ, وَصَدَقَ العُلَمَاءُ لمَّا قَالُوا: ((لَوْ سَكَتَ الجَاهِلُ
عَن الجَدَلِ؛ لَقَلَّ الخِلَافُ)).
كَيفَ
يَخُوضُ الإِنسَانُ فِي شَيءٍ لَا يَعرِفُهُ وَلَا يُتقِنُهُ وَلَمْ يَدْرُسْهُ؟!
إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَاب!!
فَلَا
يَغُرَّنَّكُم خَطِيبٌ يَنعَقُ بِأَعلَى صَوْتِهِ فِي السِّياسَة مُنتَقِدًا وُلَاةَ
أَمرِهِ, فَلَوْ كَانَ عَاقِلًا لمَا خَاطَب عَامَّةَ النَّاسِ بِمِثْلِ
هَذَا، لَوْ عَلَّمَهُم مَا يَنفَعُهُم لَكَانَ خَيرًا لهُ وَلهُم، فَمِنهُم مَن لَا
يُصَلِّي إِلَّا فِي الأُسبُوعِ مَرَّة, وَمِنهُم مَن لَا يُصَلِّي بِمَرَّةٍ، وَمِنْهُم
الظَّالِمُ لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِزَوجَتِهِ، وَمِنهُم الظَّالِمُ لِعُمَّالِه، وَمِنهُم
آكِلُ الرِّبَا، وَمِنهُم الغَاصِبُ, وَمِنهُم السَّارِقُ، وَمِنهُم المُرْتَشِي، وَمِنهُم
الكَاذِبُ وَالنَّمَّامُ وَالمُغتَابُ، وَمِنهُم الوَاقِعُ فِي الشِّركِ وَالبِدَع,
إِلَى غَيرِ ذَلِك...
فَإِنَّ هَذهِ المَصائبَ هِي التِي يُحاسَبُ عَليهَا الإِنسَان،
لَيْتَهُ يَتَوَجَّهُ بنُصْحِهِ وَإصلَاحِهِ إِلَى هَذا كُلِّهِ, قَبْلَ أَنْ يَدفَعَ
النَّاس إِلَى مَعرَكَة قَد هُزِمُوا فِيهَا قَبْلَ أَنْ يُهزَمُوا.
وَلَا يَغُرَّنَّكُم تَصَرُّفُ بَعضِ وَسائلِ الإِعلامِ،
فَكَمْ أَشعَلَت مِن فِتَنٍ، وَمَا أَكْثَرَ أمَا خَالَفَت الشَّرع، وَأَساءَت لِلدَّولَة
وَاعتَدَت علَى الإِسلام، وَهَيَّجَت النَّاسَ علَى الحُكَّامِ، وَزَرَعَت فِي قُلوبِ
الشُّعوبِ الحِقدَ وَالكَراهِيَةَ لِولَاةِ الأَمر، وَكُلُّ ذَلِك لِصَالِح مَنْ؟!
وَاخَوفَاهُ علَى الدَّولَةِ مِن هَذا التَّهيِيجِ وَالتَّحرِيش!!
وَلَا يَغُرَّنَّكُم مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ شَيْخٌ، يَدَّعِي
العِلْمَ وَالمَعرِفَةَ وَفِقْهَ الوَاقِع، مَن أَينْ أَتَى بسِيَاسَتِهِ وَحُكمِهِ؟!
مِن قُصَاصَاتِ الجَرائد وَالصُّحُف، وَوَسائلِ الإعلامِ.
وَمَعلُومٌ أَنَّهُ لَا يُبْذَلُ لِلنَّاسِ -مِنْ أَجلِ
صُنعِ المِيدْيَا كَمَا يَقُولُون- إِلَّا مَا يُرادُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعرِفُوهُ؛
مِن أَجلِ تَوجِيهِ الرأيِ العَام، فَهَذا مِن مُسَلَّمَاتِ الإِعلَامِ, وَيَأتِي
المِسكِينُ لِيَأخُذَ مَعلُومَاتِهِ السِّياسِيَّةِ التِي يُؤسِّسُ عَليهَا أَحكَامًا
مِنَ الخُطورَةِ فِي غَايَة تَتَعَلَّق بمَصِيرِ الأُمَّة, يَأخُذُ أَحكَامَهُ هَذهِ
مُؤَسَّسَةً علَى قُصَاصَاتٍ مِنَ الجَرائدِ وَالمَجَلَّاتِ وَسَمَاعٍ لهَذا أَوْ
ذَاكَ وَاللهُ المُستَعَان!!
فَلَوْ كَانَ حَكِيمًا عَاقِلًا عَالِمًا لمَا طَرَحَ السِّياسَةَ
وَفِقْهَ الوَاقِع علَى الشَّبَابِ المُتَحَمِّسِ، وَالرَّجُلِ البَائسِ، وَالمُواطِن
المَطحُونِ الفَقِير, لَوْ كَانَ شَيْخًا حَقًّا لَشَغَلَهُم بِالعِلمِ وَالفِقْهِ،
فِقْهِ دِينِهِم الذِي عَنْهُ يُسأَلُونَ، وَلَعَرَّفَهُم رَبَّهُم الذِي إِلَيهِ يَتَقَرَّبُون،
وَلَدَلَّهُم علَى هَدْيِ نَبِيِّهِم الذِي بِهِ يَقتَدُون، فَهَذَا وَاللهِ الفَوزُ
وَالفَلَاحُ المُبِين.
لَمْ نَرَ عُلمَاءَنَا وَمَشَايِخَنا فِي هَذا الزَّمَان
يَشْغِلُونَ النَّاس عَامَّة وَطَلَبَةَ العِلْمِ خَاصَّة بِالسِّياسَة وَنِظَامِ الدَّولَة،
وَعُلَمَاؤنا يُحِيطُونَ بِفِقْهِ الوَاقِع جَيِّدًا، لَكِنَّهُم يَعلَمُونَ مَتَى
يُقَالُ الكَلام المُعَيَّن، وَمَتَى لَا يُقَال، وَمَتَى يُطْرَحُ وَمَتَى يُمْسَكُ
عَنهُ، وَأَيْن يُقَالُ وَأَيْن لَا يُقَال, وَالسِّياسَةُ اليَّوم كمَثَلِ جبلٍ
مُظلمٍ كبيرٍ لهُ غَار تَدْخُلُ مِنه إلى الجبلِ، ثُمَّ إنَّ الجَبَلَ له عدَّةُ
أنفاقٍ مُظْلِمةٍ، لا يَعْلَمُ الإنسانُ إيَّ طريقٍ يَسْلُك، ولا كيف يخرجُ وينجو،
فيَخْبِطُ خَبْطَ العمياءِ في تحليلِهِ وتفكيرِهِ.
وكلُّ ما يُقال مِمَّا يُسبِّبُ اهتياجَ النَّاسِ وإثَارَتَهُم؛
هو مُقَرَّرٌ، فعندما يُقال: إنه لا بُدَّ مِن إصلاحِ التعليمِ والصحةِ، والإقْبَالِ
بجميعِ الإمكانياتِ المُتَاحةِ على الزراعة، القيادةُ السياسيةُ تقولُ هذا، تقولُ:
إنه لا بُدَّ مِن إصْلاحِ التعليم، ولا بُدَّ مِن إصلاحِ الصحةِ، وتوفيرِ الوسائلِ
جميعِهَا مِن أَجْلِ حِفَاظِ الصِّحَةِ على المواطنين، وأيضًا لا بُدَّ مِن تنميةِ
الزراعةِ والنهوضِ بها، كلُّ هذا يُقال، هُم يُقِرُّونَ بذلك ويقولونَه ويقولونَ
أكبرَ منه وأشدَّ، يقولونَ: إننا نَمُرُّ بِمَأزِقٍ لم نَمُرَّ به مِن قبل،
يقولون: إننا في مَضِيقٍ لم تَشْهَدْهُ مِصرُ المُعاصرة في يومٍ مِن أيامِها ولا
في زمانٍ مِن زمانِهَا، هُم يقولونَ ذلك.
يقولونَ: إنَّ حَجْمَ المؤامرات التي تتعرضُ لها مِصر
مِن الخارجِ وفي الداخلِ لا يُمكنُ وَصْفُهُ، هُم يقولون ذلك، ولكنَّهُم يحتاجونَ
مَعونةَ شَعْبٍ قد نامَ عن أداءِ حَقِّهِ كما ينبغي، حتى صَارَ عِبئًا على
أُمَّتِهِ ووطنِهِ، والقيادةُ السياسيةُ لا يُمْكنُ أنْ تُصَرِّحَ بشيءٍ مِن
الأسرارِ القوميةِ التي تتعلقُ بالأمنِ القوميِّ؛ هذا لا يكون؛ فهذه خيانةٌ
عُظْمَى، فيبدو الأمرُ في النهايةِ ارتباكًا، ويبدو الأمرُ في النهايةِ خيانةً
وليس كذلك، وإنَّمَا هو وفاءٌ لوَطَنٍ ينبغي أنْ يُوفَى له، وحِفاظٌ على بلدٍ
ينبغي أنْ يُحافَظُ عليه، ولكنْ تَرِكَةٌ طويلةٌ منذُ مائةِ عام، القيادةُ السياسية
تقول: إننا كُنَّا قَبْلَ مائةِ عام مِن أعظمِ الدولِ على ظهرِ الأرضِ في ناحيةِ
الاقتصاد، هُم يقولونَ ذلك والكُلُّ يعرفُهُ ولا جديدَ تحت الشمسِ –كما
يقولون-، أيُّ جديد؟!! إنما هي الإثارةُ والاهتياجُ الذي يُقَابِلُ النفوسَ التي
غُرِّرَ بها مِن أجلِ أنْ تُخَرِّبَ بَيْتَهَا بأيديهَا ومِن أجلِ أنْ تُحَطِّمَ
المَعْبَدَ على رأسِ أهلِهِ، ثمَّ هو الضياع.
والذي يشكونَ مِن قِلَّتِهِ أو مِن نُدْرَتِهِ اليوم لن
يجدوه بعد ذلك، مُضافًا إليه غيرُهُ مِمَّا هُم في أشدِّ الحاجةِ إليه مِمَّا
يعانونَ قِلَّتَهُ أو نُدْرَتَهُ، الأمرُ واضح؛ لأنه عندما يأتي الخَرَابُ، فإذا
استقرَّت الأحوالُ على فَرْضِ استقرارِها؛ ولَن يكون؛ لأنه مِن الغفلةِ أنْ
يَظُنَّ ظَانٌّ أو يعتقدَ مُعتقِدٌ أنَّ الأمرَ يتكررُ كما كان حَذو النعلِ
بالنعلِ؟!! لا؛ لقد تبدلت الأمور، وإسقاطُ النظامِ الآن وهدمُ الدولة؛ إنما يعني
شيئًا واحدًا هو: الحربُ الأهلية؛ لأنَّ الناسَ لمَّا قاموا قَوْمتَهُم في الخامسِ
والعشرين من يناير؛ بَقِيَت البقيَّةُ الباقيةُ مِن الشعبِ سلبيةَ النظرة تنظرُ
وتتأمل، فقامَ مَن قامَ ثم سقطَ النظام، وكان الجيشُ حينئذٍ مُنْحازًا إلى شعبٍ يظهرُ
بعضُهُ في الميادين والطُّرُقات –يُخَرِّب أو لا يُخرِّب-، وَيُرَاعِي الساكتين؛ حتى لا
يدخلَ في الصدامِ مع الشعبِ في نهايةِ الأمرِ.
ولكنَّ الأمرَ سيختلف، فهناك طائفةٌ عظيمةٌ لا تَقْبَلُ
فَوْضَى تَقَعُ في هذه الأمَّةِ، ولن تَقْبَلَ خيانةً مرةً أُخرى، ستقومُ
مُتصديَّةً لمَن يحاولُ التَّخريبَ، فيَشْتَبِكُ المصريونَ مع المِصريين، سيكونُ
منهم طائفةٌ عظيمةٌ تحافظُ على الدولةِ وتُرَاعي حقوقَ الوطن، فسينحازُ لها الجيشُ
بالطبعِ لأنه كذلك، ويُعَدُّ الآخرونَ مِن الخائنينَ المُخَرِّبينَ، فهي الحربُ
الأهليةُ لا محالة، ولن تجدوا لُقْمَةً خُبزٍ واحدة مع عدمِ الحفاظِ على الأعراضِ،
مع نَهْبِ الأموالِ، مع حَرْقِ الدِّيَارِ، مع الضياعِ والدَّمَارِ، مع تَمَكُّنِ
الأعداءِ مِن هذا الوَطَنِ –نسأل اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى له السَّلامَةَ مِن
كلِّ سُوء-.
قالَ سَهْلُ بن عبد الله التَّستُريِّ -رحمهُ الله-: ((لا
يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإنْ عظَّموا هذين؛ أصلحَ اللهُ
دُنياهم وأُخْرَاهُم، وإنْ استخَّفُوا بهذيْن؛ أَفْسَدُوا دُنياهم وأُخْرَاهُم)).
وقال كعبُ الأحبار:
((مَثَلُ الإسلامِ والسلطانِ والناس مَثَلُ الفُسطاطِ والعمودِ والأطنابِ
والأوتادِ، فالفُسطاطُ الإسلامُ، والعمودُ السلطانُ، والأطنابُ والأوتادُ الناس،
ولا يصلُحُ بعضُهُ إلَّا ببعض)).
وقد عُلِمَ بالضرورةِ مِن دينِ الإسلام أنه لا دينَ
إلَّا بجماعةٍ ولا جماعةَ إلَّا بإمامة، ولا إمامةَ إلَّا بسمعٍ وطاعة.
قال الحسنُ البصريُّ –رحمه
الله- في الأمراء: ((هُم يَلُونَ مِنَّا أمورَنَا؛
الجُمُعةَ والجماعةَ والعيدَ والثغورَ والحدودَ، واللهِ لا يستقيمُ الدينُ إلَّا
بِهم وإنْ جَاروا وظَلَمُوا، واللهِ لَمَا يُصْلِحُ اللهُ بِهم أكثرَ مِمَّا
يُفسدون، مع أنَّ طاعتَهُم والله لغِبْطَة وأنَّ فُرقتَهُم لكُفْر –يعني
به كُفْرًا دونَ كُفْر-)).
لقد كان السلفُ الصالحُ –رضوان الله عليهم- يُولُونَ هذا
الأمرَ اهتمامًا خاصًّا لاسيَّمَا عند ظهورِ بوادرِ الفتنة؛ نَظَرًا لِمَا يترتبُ
على الجهلِ به أو إغْفَالِهِ مِن الفسادِ العريضِ في العبادِ والبلادِ، والعدولِ
عن سُبُلِ الهُدى والرشاد.
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ –رحمهُ
الله-: ((وأمَّا السمعُ والطاعةُ لولاةِ أمورِ المسلمين؛
فَفِيهَا سعادةُ الدنيا، وبها تنتظمُ مصالحُ العباد في معايشِهِم، وبها يستعينونَ
على إظهارِ دينِهِم وطاعةِ ربِّهِم)).
وَأَعْلَى مِن هذا الكلام ما قالَهُ عليُّ بنُ أبي
طالب –رضي
الله عنه- عن، فعن عاصم بن ضَمْرَة قال: سَمِعَ عليٌّ –رضي اللهُ عنه- قومًا يقولون: لا
حُكْمَ إلَّا لله.
قال: ((نعم؛
لا حُكْمَ إلَّا للهِ، لكنْ لا بُدَّ للناسِ مِن أميرٍ بَرٍّ أو فاجر يعملُ فيه
المؤمنُ ويستمتعُ فيه الكافرُ، ويبلغُ اللهُ فيه الأجل)).
وهو أثرٌ حَسَنٌ أخرجَهُ البيهقيُّ في ((السُّنن)).
لقد أوجبَ اللهُ –تبارك وتعالى- الأمرَ بالمعروفِ
والنهيَ عن المنكرِ، ولا يتمُّ ذلك إلَّا بقوةٍ وإمارةٍ، وكذلك سائرُ ما أوجبَهُ
اللهُ مِن الجهادِ والعدلِ، وإقامةِ الحَجِّ والجُمَعِ والأعيادِ ونصرِ المظلومِ
وإقامةِ الحدودِ، لا تتمُّ إلَّا بالقوةِ والإمارةِ، ويُقال: ستونَ سنةً مِن إمامٍ
جائرٍ أصلحُ مِن ليلةٍ واحدةٍ بلا سلطان، والتجربةُ تُبيِّنُ ذلك.
عن الأوزاعيِّ قال:
((كان يقالُ خمسٌ كان عليها أصحابُ مُحمَّد –صلى الله عليه وسلم- والتابعون
بإحسان: لزومُ الجماعة واتباعُ السُّنة وعمارةُ المساجد وتلاوةُ القرآن والجهادُ
في سبيل الله)).
أخرجَهُ أبو نُعيْمٍ في ((الحِلية))، واللالكائيُّ
في ((اعتقاد أهلِ السُّنة)) وسندُهُ صحيح.
قال شيخُ الإسلامِ –رحمهُ الله-: ((يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ وِلَايَةَ
أَمورِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ، بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ
وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا، فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ
إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ
عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ –إلى أنْ قَالَ-: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ
الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ
إلَّا بِقُوَّةِ وَإِمَارَةٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ
وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ
الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ
وَالْإِمَارَةِ; وَلِهَذَا وَرَد: ((أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ))، وَيُقَالُ: ((سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ
لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا سُلْطَانٍ))، والتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ.
فالواجبُ اتخاذُ الإمارةِ دينًا وقُربةً يُتقربُ
بها إلى اللهِ، فإنَّ التَّقرُّبَ إليه فيها بطاعتِهِ وطاعةِ رسولِهِ مِن أفضلِ
القُرُبات، وإنما يفسُدُ فيها –أي في
الإمارةِ- حالُ أكثرِ الناسِ لابتغاءِ الرياسةِ والمال، فإذا فُهِمَ هذا؛ عَلمْنَا
أنَّ المصالحَ الدينيةَ والدنيويةَ لا انتظامَ لَهَا إلَّا بالإمامةِ والجماعةِ.
قالَ مُحمد بن عوفِ بن سفيان الحِمْصيِّ: سمعتُ
أحمدَ بن حنبلٍ يقول:
((الفتنةُ إذا لم يكن إمامٌ يقومُ بأمرِ الناس)).
قال أبو بكرٍ المروزيِّ: سمعتُ أبا عبد الله –يعني الإمامَ أحمد- وذَكَرَ الخليفةَ المتوكل –رحمهُ الله- فقال: ((إني لأدعو له بالصلاحِ والعافية)).
وقال: ((لئن حدَثَ بها حَدَثٌ لتنظرُنَّ ما يحلُّ
بالإسلامِ)).
أخرجهُ الخلَّالُ في ((السُّنَّةِ)) بإسنادٍ صحيح.
السمعُ والطاعةُ لولاةِ أمرِ المسلمين أصلٌ مِن
أصولِ العقيدة، قلَّ أنْ يَخْلوَ كتابٌ فيها مِن تقرِيرِهِ وشرحِهِ وبيانِهِ؛ وما
ذلك إلَّا لبالغِ أهميتِهِ وعظيمِ شأنِهِ؛ لأنه بالسمعِ والطاعةِ لَهُم تنتظمُ
مصالحُ الدينِ والدنيا معًا، وبالافتياتِ عليهم قولًا أو فِعلًا؛ فسادُ الدينِ
والدنيا.
وفي ذلك قال الشيخُ عبد اللطيف بنُ عبد الرحمن بن
حسنٍ آل الشيخ –رحمَ
اللهُ الجميع- قال في كلامٍ مكين يكشفُ شيئًا مِن الشُّبَهِ المُلَبِّسَةِ في هذا
الباب ويرُدُّ على مَن أشاعَها من الجُهَّال:
((ولم يَدْرِ
هؤلاءِ المَفتونون أنَّ أكثرَ ولاةِ أَهْلِ الإسلامِ –مِن عَهْدِ يزيدَ
بن معاوية- حَاشَا عُمَرُ بن عبد العزيز ومَن شَاءَ اللهُ مِن بَني أُميَّة– أنَّ هؤلاء
قَد وَقَعَ مِنْهُم مِن الجَرَاءَةِ والحوادثِ العِظَامِ والخروجِ والفَسَادِ في ولايةِ
أَهْلِ الإسلامِ، وَمَعَ ذلك فَسِيرةُ الأئمةِ الأعلامِ والسَّادَةِ العِظَامِ مَعَهُم
معروفةٌ مشهورةٌ، لا يَنزعونَ يَدًا مِن طاعةٍ فيمَا أَمَرَ اللهُ به ورسولُهُ مِن
شرائِعِ الإسلامِ وواجباتِ الدِّينِ.
وأَضْرِبُ لَكَ
مَثَلًا بِالحَجَّاجِ بن يُوسفَ الثَّقَفيِّ، وَقَد اشتُهِرَ أَمْرُهُ في الأُمَّةِ
بالظلمِ والغَشْمِ، والإسرافِ في سَفْكِ الدِّمَاءِ وانتهاكِ حُرُمَاتِ اللهِ –جَلَّ وعلا-،
وَقَتْلِ مَن قَتَلَ مِن ساداتِ الأُمَّةِ كسعيدِ بن جُبيْر، وَقد حَاصَرَ ابنَ الزُّبير،
وَقَد عَاذَ بالحَرَمِ الشَّريفِ، واستباحَ الحُرْمَةَ، وَقَتَلَ بن الزُّبيْر في
حَرَمِ اللهِ تعالى الآمِنِ –مَعَ أنَّ ابنَ
الزُّبيْر قَد أَعْطَاهُ الطاعةَ وبَايَعَهُ عامةُ أَهْلِ مَكَّة والمدينةِ واليَمن
وأكثرِ سَوَادِ العِرَاق، والحَجَّاجُ نَائِبٌ عَن مَرْوَان، ثُمَّ عَن وَلَدِهِ عَبْد
المَلِك -بل كان نائبًا عن عبد الملك وحدَهُ- وَلَم يَعْهَد أَحَدٌ مِن الخُلفاءِ إلى
مَرْوَان ولم يُبَايعهُ أَهْلُ الحَلِّ وَالعَقْدِ، وإنما استولى على الخلافةِ
بالسَّيفِ، ومع ذلك لَمْ يتوقف أَحَدٌ مِن أهلِ العِلْمِ في طاعتِهِ والانقيادِ له
فيما تَسوغُ طاعتُهُ فيه مِن أركانِ الإسلامِ وواجباتِهِ.
وكان ابنُ عُمَر
وَمَن أَدْرَكَ الحَجَّاجَ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ –صلى الله
عليه وسلم- لا يُنازعونَهُ، ولا يمتنعونَ مِن طاعتِهِ فيمَا يقومُ به الإسلامُ، ويُكَمَّلُ
به الإيمان)).
وكان
الحَجَّاجُ مع ذلك ظَلومًا عسوفًا غَشومًا، يقتلُ على الظِّنَّةِ والرِّيبةِ، وما
أكثرَ ما قَتَلَ ومَن قَتَلَ مِن أهلِ الإسلامِ وعاثَ في الأرضِ فسادًا، حتى إنه
ضربَ الكعبةَ بالمِنجنيق، وحُرِّقَت، وقُتِلَ ابنُ الزُّبير في حَرَمِ اللهِ تعالى
الآمنِ، وأَمَرَ بصَلْبِ عبد الله بن الزُّبير مَنْكُوسًا، وبقيَ كذلك عِدَّةَ
أيام –رضي الله عنه وعن أبيه-.
النبيُّ –صلى الله
عليه وآله وسلم- كان يُبايعُ على هذه الجُملةِ: ((وأَثَرَةٍ علينا))، مع
أنه لم تكُن دولةٌ بعدُ، وإنما كان –صلى الله عليه
وسلم- ينطقُ بالوحي المعصوم: سيكونُ أمراء يستأثرونَ عليكم بالمال وبالمناصب، فإذا
فعلوا؛ عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم ما حُمِّلْتُم، فعليكم أنْ تتقوا اللهَ وألَّا
تنزعوا يدًا مِن طاعة.
((كذلك مَن
كان في زمنِ الحجَّاجِ مِن التابعين، كابن المُسَيِّب والحَسَن البصريِّ وابن سِيرين،
وإبراهيم التيميِّ، وأشباهِهِم ونُظَرائِهِم مِن سادات الأُمَّةِ وأئمتِهَا، واستمرَ
العملُ على هذا بينَ عُلماءِ الأُمَّةِ مِن سَادَاتِ الأُمَّةِ وأئمتِهَا، يأمرونَ
بطاعةِ اللهِ ورسولِهِ والجهادِ في سبيلِهِ مَعَ كلِّ إمامٍ بَرٍّ أو فَاجِر -كما هو
مَعروفٌ في كُتُبِ أصولِ الدينِ والعَقَائِدِ-.
وكذلك بنو العبَّاس
استولَوْا على بلادِ المُسلمين قَهْرًا بَالسيَّفِ، لَم يُسَاعدْهُم أَحَدٌ مِن أهلِ
العِلْمِ والدين، وَقَتَلُوا خَلْقًا كثيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا مِن بَني أُميَّة وأُمَرَائِهِم
ونُوَّابِهِم، وَقَتَلُوا ابن هُبيْرَة أميرَ العِرَاق، وَقَتَلُوا الخليفةَ الأُمويَّ
مَرْوَان، حتى نُقِلَ أنَّ السَّفَاحَ قَتَلَ في يومٍ واحدٍ نحوَ الثَّمانينَ مِن بَني
أُميَّة، وَوَضَعَ الفُرُشَ على جُثَثِهِم وَجَلَسَ عليها، وَدَعَا بالمَطَاعِمِ والمَشَارِبِ.
وَمَعَ ذلك فَسِيرَةُ
الأئمةِ كالأوزاعيِّ، ومَالِكٍ، والزُّهريِّ، والليثِ بن سَعْد، وَعَطَاءِ بن أبي رَبَاح،
مع هؤلاء المُلوك لا تَخْفَى على مَن لَهُ مُشَارَكَةٌ في العلمِ واضطلاع.
والطبقةُ الثانيةُ
مِن أهلِ العِلمِ: كأحمدَ بن حَنْبَل، ومُحَمَّد بن إسماعيل
البخاريّ، ومُحَمَّد بن إدريس الشافعيِّ، وأحمدَ بن نُوح، وإسحقَ بن رَاهُويَة، وإخوانِهِم؛
وَقَعَ في عَصْرِهِم مِن الملوكِ مَا وَقَعَ مِن البدعِ العِظَامِ وإنكارِ صفاتِ
الرحيمِ الرحمن، ودَعَوْا إلي ذلك، وامَتَحَنُوا فيه وقُتِلَ مَن قُتِلَ، كأحمدِ بن
نَصْر، ومع ذلك فَلا يُعْلَمُ أنَّ أَحَدًا منهم نَزَعَ يَدًا مِن طَاعَةٍ، ولا رَأَى
الخروجَ عليهم)).
عن علقةَ بن
وائلٍ الحَضرميِّ عن أبيه قال: سألَ سَلَمَةُ بن يزيد الجُعفيِّ رسول الله –صلى الله
عليه وسلم- فقال: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا
أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا فَمَا تَأْمُرُنَا؟
فأعرضَ عنه،
ثم سألَهُ فأعرضَ عنه، ثم سألَهُ فأعرضَ عنه، فجذبَه الأشعثُ بن قيسٍ وقال:
((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ)).
وفي روايةٍ
لمُسلمٍ أيضًا، فجذبَهُ الأشعثُ بن قيس، فقال رسولُ الله –صلى الله
عليه وسلم-: ((اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ
مَا حُمِّلْتُمْ)).
والمعنى: أنَّ اللهَ
حمَّلَ الولاةَ وأوجبَ عليهم العدلَ بين الناس، فإذا لم يَقُوموا به أَثِمُوا،
وحَمَّلَ الرعيَّةَ السمعَ والطاعةَ لهم، فإنْ أَقَامُوا ذلك وَقَامُوا به؛
أُثيبوا عليه وإلَّا أَثِمُوا.
قال
العلَّامةُ ابنُ عُثيمين –رحمهُ اللهُ
ربُّ العالمين-: ((فنحنُ حُمِّلْنَا السمعَ والطاعة، وهُم حُمِّلُوا أنْ
يحكموا فينا بالعدلِ وألَّا يظلموا أحدًا، وأنْ يُقيموا حُدُودَ اللهِ على عبادِ
اللهِ، وأنْ يقيموا شريعةَ اللهِ في أرضِ اللهِ، وأنْ يُجاهِدُوا أعداءَ الله، هذا
الذي يجبُ عليهم، فإنْ قَامُوا به؛ فهذا هو المطلوب، وإنْ لم يقوموا به؛ فإننا لا
نقولُ لهم: أنتم لم تُؤدُّوا الذي عليكم فلا نُؤدِّي الذي لكم، هذا حرام، يجبُ أنْ
نؤدي الحقَّ الذي علينا؛ فنسمع ونُطيع، ونخرجُ معهم في الجهاد، ونُصَلِّي ورائَهُم
في الجُمَعِ والأعياد، إلى غير ذلك، ونسألُ اللهَ الحقَّ الذي لَنَا.
وهذا هو الذي
دَلَّ عليه الحديث، وهو مذهبُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ –مذهبُ السلفِ
الصالح- السمعُ والطاعةُ للأمراءِ، وعدمُ عصيانِهِم فيما تجبُ الطاعةُ فيه، وعدمُ
إثارةِ الضغائنِ عليهم، وعدمُ إثارةِ الأحقادِ عليهم، هذا مذهبُ أهلِ السُّنةِ
والجماعة، حتى الإمامُ أحمد –رحمهُ اللهُ
تعالى- ضربَهُ السلطانُ، ضربَهُ وجُرَّ، وطُرِحَت عليه باريَّةٌ –أي: بِسَاطٌ-
ثم دِيسَ بالأقدام، وضُرِبَ بالسياطِ حتى أًغشيَ عليه، وهو إمامُ أهلِ السُّنة –رحمهُ اللهُ
تعالى-، ومع ذلك يدعو للسلطان ويُسميه أميرَ المُؤمنين، حتى إنهم مَنَعُوهُ ذَاتَ
يومٍ؛ فقالوا له: لا تُحَدِّث الناس –وكان يقولُ:
حدَّثَنَا فلانٌ، حدَّثَنَا فلان يبلغُ به رسولَ الله –صلى الله
عليه وسلم-، فقالوا: الزم بيتَك ولا تُحَدِّث الناس، فسَمِعَ وأطاع، ولم يُحدِّث
الناسَ جهرًا، وإنما كان يأتيه بعضُ أصحابِهِ يُحدِّثُهُم الحديثَ بعد الحديث،
وكلُّ هذا مِن أَجْلِ أَلَّا يُنَابَذَ السلطان، فَمَادَامُوا يُصلُّون؛ فإننا لا
ننابذُهُم، نسمعُ ونطيعُ ونقومُ بالحقِّ الذي علينا، وهُم عليهم ما حُمِّلُوا)).
عن عبد الله
بن مسعودٍ –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله
عليه وسلم-: ((سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟
قَالَ: ((تُؤَدُّونَ
الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ)). متفقٌ
عليه.
قال النوويُّ
–رحمهُ اللهُ-: ((هَذَا مِنْ
مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا، وَوُجِدَ
مُخْبَرُهُ مُتَكَرِّرًا، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ
الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقَّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ
عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَعُ، بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ
وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ)).
وعن ابن
عباسٍ –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه
وسلم- قال: ((مَن كَرَهَ مِن أمِيرِهِ شَيْئًا فليَصْبر عَليْه، فإنَّهُ لَيسَ
أَحَدٌ مِن النَّاسِ خَرَجَ مِن السُّلَطانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَليْه إلَّا مَاتَ
مِيتَةً جَاهِليَّةً)).
والمرادُ
بـ((خَرَجَ مِن السُّلطانِ شِبرًا)): كنايةً عن معصيةِ السلطانِ ومحاربتِهِ،
والمرادُ بالخروجِ: السعيَّ في حَلِّ عَقْدِ البَيْعَة التي حَصَلَت لذلك الأمير
ولو بِأَدْنَى شيء، فكَنَّى عنها بمقدارِ الشِّبْر؛ لأنَّ الأخذَ في ذلك يؤولً إلى
سَفْكِ الدماءِ بِغَيْرِ حقٍّ.
فتبيَّنَ
أنَّ الصبرَ عن الولاة يكونُ بلزومِ جماعة المسلمين وعدمِ الخروجِ على السُّلطان،
وقد أَمَرَ رسولُ الله –صلى الله
عليه وآله وسلم- بطاعةِ الولاةِ وإنْ جَاروا وارتَكَبُوا المَعَاصِي، فإنَّ إِثْمَ
ذلك عَليْهم.
فنسألُ اللهَ
–تبارك وتعالى- أنْ يَهْديَنَا وأنْ يهديَ المسلمينَ
أجمعين للتَّمَسُّكِ بتعاليمِ النبيِّ الأمين، ونسألُهُ تَعَالَى بأسمائِهِ الحُسنى
وصفاتِهِ العُلى أنْ يُنَجِّي وطنَنَا وجميعَ أوطانِ المسلمين إنه على كل شيءٍ
قدير.
وَصَلَّى اللهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ
الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
–صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً
وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَد أمَرَ
رسولُ اللهِ –صلى الله عليه وآله وسلم- بطاعةِ
الولاة وإنْ جَارُوا وارْتَكَبُوا المَعَاصي، فإنَّ إِثْمَ ذلك عَليْهم.
عن عُبادة بن
الصامت –رضي اللهُ عنه- قال: ((بَايَعْنَا
رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وَسَلَّم- عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ
والمَنْشَطِ والمَكْرَهِ وَعَلَى أَثَرَةٍ عَليْنَا وَعَلَى أَنْ لَا نُنَازِعَ الأَمْرَ
أَهْلَهُ؛ إِلَّا أَنْ تَرَوا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُم مِن اللهِ تَعَالَى فِيه
بُرْهَان، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لا نخافُ في اللهِ لَوْمَةَ
لائِمٍ)). مُتفقٌ عليه.
قولُه: ((في
العُسرِ واليُسر)): يعني سواءً كُنَّا مُعسرينَ في المال أو كُنَّا مُوسِرِين،
يجبُ علينا جميعًا أغنيائِنَا وفقرائِنَا أنْ نُطيعَ ولاةَ أمورِنَا ونسمعَ لهم.
وكذلك قولُهُ
–صلى الله عليه وسلم-: ((في مَنْشَطِنَا ومَكْرَهِنَا)):
يعني سَوَاءً كُنَّا كارهينَ لذلك؛ لكَوْنِهِم أَمَرُوا بِمَا لا نَهْوَاهُ ولا نُريدهُ
أو كُنَّا نَشيطينَ في ذلك لكَوْنِهِم أَمَرُوا بِمَا يُلائمُنَا ويُوَافِقنَا، المُهِمُّ
أنْ نسمعَ ونُطيعَ في كلِّ حالٍ إلَّا ما اسْتُثْنِيَ.
((وَأَثَرَةً
عليْنَا)): أَثَرَة يعني استئثارا عَليْنَا، يعني لو كانَ ولاةُ الأمرِ
يَستأثرونَ على الرعيَّةِ بالمالِ أو غيرِهِ مِمَّا يُرَفِّهُونَ به أَنْفُسَهُم ويَحْرِمُونَ
مَن وَلَّاهُم اللهُ عليهم؛ فإنه يجبُ علينا السمعُ والطاعة، لا نقولُ أنتم أَكَلْتُم
الأموالَ وأَفْسَدتمُوهَا وَبَذَّرْتمُوهَا فلا نُطيعُكُم، بَل نقولُ: سَمْعًا وطاعةً
للهِ رَبِّ العالمين ولو كان استئثارًا علينا، ولو كُنَّا نحن لا نَسْكُنُ إلَّا الأكواخ
ولا نَفْتَرِشُ إلَّا الخَلِقَ مِن الفُرُشِ، وأنتم تسكنونَ القصورَ وتتمتعونَ بأفضلِ
الفُرُشِ، لا يَهُمُّنَا ذلك؛ لأنَّ هذا كلَّهُ متاعُ الدنيا، وستزولونَ عنه أو يزولُ
عنكم، إمَّا هذا أو هذا.
والواقعُ
أنَّ الناسَ اليومَ لا يُنازعونَ إلَّا مِن أجلِ الدنيا والمَال وزيادةِ المُرتبات
ومن أجلِ الصراعِ على الكراسيِّ في الحكوماتِ والمجالسِ النيابيةِ، والبحثِ عن
السُّلطةِ والرئاسةِ، والبعضُ يطالبُ بالحريةِ والعدالةِ والديمقراطيةِ التي هي من
النُّظُمِ المستوردةِ من الكُفَّار والتي لا يجوزُ للمسلمينَ أنْ يحكموا بها؛
لأنها مخالفةً للإسلامِ جُملةً وتفصيلًا، أمَّا الدين فلا يلتفتُ إليه أحد، ولا
يجرؤ على رفعِ رايتِهِ بصِدْقٍ حتى أهلُ الدين أنفسُهُم ومَن لَبِسوا لباسَ الشرعِ
والدعوة رَكِبوا موجةَ الغوغاء، وانتحلوا أقاويلَ وشعارات أهلِ الفجورِ؛ ليُرضوا
الجميعَ وليَصِلُوا إلى الحُكمِ الذي به يُحَكِّمونَ شرعَ اللهِ بزعمهم في العبادِ
والبلادِ، ولكنْ بعد كلِّ هذه التنازلات أيُّ شيءٍ بقيَ مِن الإسلامِ حتى يحكموا
به، الغايةُ في دينِنَا لا تُبَرِّرُ الوسيلة، والشَّرُّ لا يأتي إلَّا بالشَّرِّ،
فاللهُ المستعانُ وعليه التُّكلان.
أَمَّا نحنُ فعليْنَا
السمعُ والطاعة ولو وَجَدْنَا مَن يستأثرُ عليْنَا مِن ولاةِ الأمورِ، قالَ رسولُ
الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: ((اسْمَع
وَأَطِع وإنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ)).
واعْلَم أنكَ
سوفَ تَقتصُّ منه يومَ القيامةِ مِن حَسَنَاتِهِ، فإنْ بَقِيَ مِن حَسَنَاتِهِ شيء
وإلَّا أُخِذَ مِن سيئاتِ مَن ظَلَمَهُم ثُمَّ طُرِحَ عليه ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ
-والعياذُ باللهِ-، فالأمرُ مضبوطٌ ومُحْكَمٌ، لا يَضِيعُ على اللهِ شيءٌ، ولكنْ
أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسول.
ثُمَّ قالَ: ((وَأَلَّا
نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ)) يعني: لا نُنَازِعُ ولاةَ الأمورِ مَا وَلَّاهُم
اللهُ عليْنَا لنَأخذَ الإِمْرَةَ منهم، فإنَّ هذه المُنازعةَ تُوجِبُ شَرًّا كثيرًا
وفِتَنًا عظيمةً وتَفَرُّقًا بينَ المُسلمينَ، وَلَم يَدُم للأُمَّةِ الإسلاميةِ إلَّا
مُنازعةُ الأَمْرِ أَهْلَهُ مِن عَهْدِ عُثْمَان -رَضِيَ اللهُ عنه- إلى يومِنَا هذا،
مَا أفسدَ الناسَ إلَّا مُنَازعة الأَمْرِ أَهْلَهُ.
وهذا هو
الواقعُ في مصر، فإنَّ ما تَرَدَّت إليه الأحوالُ مِن قاعٍ بعيد وَحَمْئَةٍ
مُنْتِنَةٍ إنَّمَا كان بسببِ النزاعِ على السُّلطة، منذُ نشأَ الإخوانُ المسلمونَ
في مِصر وهُم يُنازعونَ على السُّلطة، فالذين يُنازعونَهُم على السُّلطةِ أرادوا
الحِفَاظَ على السُّلطة، فَتَحَوَّلَ الأمنُ كلُّهُ إلى أمنٍ سياسيٍّ، هُم السببُ
في الفسادِ والإفسادِ والتأخُّرِ الذي لَحِقَ بمصر، ومع ذلك يُحَمِّلونَه لغيرِهِم
بغيرِ عدلٍ ولا إنصاف، لأنهم لمَّا نَازَعُوا السُّلطانَ أَمْرَهُ وأرادوا أن
يستولوا على الحُكمِ من قديم –منذ نشأت
الثورةُ المصريةُ في الثاني والخمسين مِن القرنِ المُنصرم- منذُ ذلك الحين- وهُم يُصَارِعُونَ
على السُّلطةِ ويُريدونَ الاستئثارَ بالحُكمِ، فكان ماذا؟
أخذَ أهلُ
السُّلطة يُحَصِّنون أنفسَهُم ويحوطونَ سُلطانَهم، فَتَحَوَّلَ الأمنُ إلى أمنٍ
سياسيٍّ، ووقعَ إهمالٌ في جوانبِ الأمنِ الأخرى، فَرَتَعَ الفسادُ في البلاد، ثم وَصَلْنَا
إلى ما وَصَلْنَا إليه، ويُريدونَ بَعْدَ ذلك أنْ يُغيَّرَ هذا الوَضْعُ مِن
الضِّدِّ إلى الضِّدِّ في عامٍ أو عامين أو بضعةِ أعوام، هذا ظُلم، هذا ضِدُّ
الشرعِ وضِدُّ العقل، ضِدُّ الإنصاف وضِدُّ العدل، هل يُمكن أنْ يُصْلَحَ هذا
الفاسد وأنْ يُقَوَّمَ هذا المُعْوَجَّ بعدما غَلُظَ واشتدَّ في يومٍ وليلة، في
عامٍ أو عامين؟!!
فلِمَا لا
يساعُد هؤلاء مِن أَجْلِ إقامةَ هذا الذي مَالَ ومِن أَجْلِ إصلاحِ هذا الذي
فَسَدَ، ومِن أَجْلِ تقويمِ هذا الذي اعوجَّ، ولكنْ يَزِيدُونَ الأمرَ سوءً لكي
نصلَ مَرَّةً أُخرى إلى النقطةِ التي كُنَّا فيها قبلَ الخامس والعشرين من يناير،
فنحن نُصْلِحُ ما فَسَدَ، وهؤلاء يطالبونَ بالتقدُّمِ إلى الأمام، سنظلُّ عشرةَ
أعوام نجاهدُ ما نُجَاهِدُ مِن أجلِ الوصولِ إلى ما كُنَّا عليه قبلَ إحداثِ
الفسادِ في البلادِ والعبادِ وهُم الذين صَنَعُوهُ، فأيُّ ظُلمٍ هذا!!
لن يكونَ
هناك استقرار إنْ سَقطَت الدولةُ وأُزِيحَ النِّظَامُ، وَعَلَى كلِّ مصريٍّ أنْ يَتَّقِيَ
اللهَ –تبارك وتعالى- في دينِهِ، وأن يَتَّقِيَ
اللهَ تعالى في وطنِهِ، فإنَّ حِفَاظَهُ على وطنِهِ جزءٌ أصيلٌ مِن حِفاظِهِ على
دينِهِ بل على أُمَّتِهِ؛ لأنه قَدَّرَ اللهُ تعالى وقَضَى –كما هو ظاهرٌ
مُشاهَدٌ مَعلومٌ- أنَّ أمرَ هو أمنُ أهلِ الإسلامِ في هذا العصر، فإنْ زَالَ هذا؛
فقَد سَقَطَ الحائطُ وَجَاءَت الشهواتُ والشُّبُهات وَحَادَ الناسُ عن دينِ الله.
إنَّ التَّحَوُّلَ
الذي وقعَ في مِصْر بعد الخامسِ والعشرين من يناير في الدين وفي الأخلاقِ وفي
السلوكيات وفي كلِّ أحوالِ الحياة ينبغي أنْ يَلْفِتَ نَظَرَ كلَّ مُصْلِحٍ مِمن
يتشدقونَ بالإصلاح، لماذا لا تثورونَ مِن أجلِ إصلاحِ هذا الفاسد الذي وَقَعَ مِن
دينِ اللهِ –تبارك وتعالى- فيه ما وَقَعَ، هذا فَسَادٌ
عريض، ولَكِنَّ القوم أَصْحَابُ أهواء، وأكثرُهُم إنما يُحَرَّكَ مِن دَاخِلٍ أو
مِن خَارِجٍ خِيَانَةً لهذا الدين، وخِيَانَةً لهذا الوطن، وخيانةً للهِ –جلَّ وعلا-
مِن قَبْلُ ومِن بَعْد، وخَيِانَةً لدينِ اللهِ ربِّ العالمين.
كان السلفُ
الصالحُ يُولُونَ هذا الأمرَ وهو وجوبُ السمعِ والطاعةِ لولاةِ أمورِ المسلمين،
يُولُونَهُ اهتمامًا خاصًا، خاصةً عند ظهورِ بَوَادرِ الفتنة، واهتمامُهُم به
تحملُهُ صورٌ كثيرة منها ما وَقَعَ للإمامِ أحمد –إمام أَهْلِ
السُّنَّةِ-، كان مثالًا للسُّنةِ في معاملةِ الولاة.
تبَنَّى
الولاةُ والخلفاءُ في زمنِهِ أحدَ المذاهبِ الفكريةِ السيئةِ، وحملوا الناسَ عليه
بالقوةِ والسيفِ، وأُهريقت دماءُ جَمٍّ غفيرٍ مِن العلماء بسببِ ذلك، وفُرِضَ
القولُ بخَلْقِ القرآنِ على الأُمَّة، وقُرِّرَ ذلك في كتاتيب الصبيان، ومُنِعَ
العلماءُ والقضاةُ والمُفتونَ والذين يُراعونَ شئونَ القرآنِ في مكاتبِ المسلمين؛
مُنِعُوا مِن تَوَلِّي الوظائف وأُبعِدوا جانبًا، ومُنِعَت عنهم رواتبُهُم وما
يصلُ إليهم، حتى يقولوا إنَّ القرآنَ مخلوق، وإنَّ اللهَ لا يُرَى بالأَعْيُنِ في
الآخرةِ إلى غيرِ ذلك مِن الطَّاماتِ والعظائم، ومع ذلك كلِّهِ فالإمامُ أحمد لا يَنْزِعُهُ
هوى ولا تستجيشُهُ العَوَاطِفُ العَوَاصِفُ، بَل يَثْبُتُ على السُّنة؛ لأنها خيرٌ
وأهدى، فيأمرُ بطاعةِ وليِّ الأمر ويجمعُ العامةَ عليه، ويقفُ كالجبلِ الشامخِ في
وجهِ مَن أرادَ مخالفةَ المنهجِ النبويِّ والسيرِ السلفيةِ في مِثْلِ هذا المَوْطنِ
انسياقًا وراءَ العواطف المُجردة مِن قيودِ الكتابِ والسُّنة أو المذاهبِ الثوريةِ
الفاسدة.
قال أحمدُ
أبو الحَارِث: سألتُ أبا عبد الله –يعني الإمامَ
أحمد- في أمرٍ كانَ حَدَثَ ببغداد، وهَمَّ قَوْمٌ بالخُرُوجِ على الخليفةِ.
فقلتُ: يا أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ.
فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الدِّمَاءَ، الدِّمَاءَ، لَا أَرَى
ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ؛
تُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَتُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَتُنْتَهَكُ فِيهَا
الْمَحَارِمُ والأَعْرَاضُ، وَتُقْطَعُ فِيهَا السُّبُلُ، وَتُعَطَّلُ فِيهَا
الجُمَعُ والجَمَاعَات، أَمَا عَلِمْتَ مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ، يَعْنِي أَيَّامَ
الْفِتْنَةِ.
قال: قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ،
أَلَيْسَوا فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟
هذا يُقال،
والناسُ اليوم أليسوا في فتنة؟!!
قَالَ
الإمامُ أحمد: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا
وَقَعَ السَّيْفُ؛ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى
هَذَا وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ.
وَرَأَيْتُهُ
يُنْكِرُ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ: الدِّمَاءَ الدِّمَاءَ، لَا أَرَى
ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ بِهِ.
قال أبو
الحسن: قال الإمامُ الحسنُ بن عليٍّ البربهاريِّ أبو مُحمَّد –رحمهُ اللهُ
تعالى-: ((إذا رأيتَ الرَّجُلَ يدعو على السُّلطانِ، فاعلم أنه
صاحبُ هوى، وإذا سَمعتَ الرَّجُلَ يدعو للسلطانِ بالصلاحِ؛ فاعلم أنه صاحبُ
سُنَّةٍ –إن شاء اللهُ تعالى-)).
قال الفُضْيَلُ
بن عِياضٍ –رحمهُ الله-: ((لو كانَ
لي دعوةٌ مُستجابة؛ ما جعلتُها إلَّا في السلطان)).
فأُمرنَا أنْ
ندعو لهم بالصلاحِ، ولم نُؤْمَر أنْ ندعو عليهم وإنْ جاروا وظلموا؛ لأن جَوْرَهُم
وظُلمَهُم على أنفسِهِم، وينالُ المسلمينَ منه ما هو معلوم، وصلاحُهُم لأنفسِهِم
وللمسلمين، فقَد أجمعَ العلماءُ على وجوبِ طاعةِ الأمراءِ في غيرِ معصيةٍ للهِ –جلَّ وعلا-.
وترى موقفَ
السالفينَ من علمائِك الجبال الشوامخ، ترى مَوْقَفَهُم، مع أنه لم تكن تنوشُ
الأُمَّةَ في وقتِهِم مؤامراتٌ خارجيةٌ تَعْبَثُ بأصابِعِها الخفيَّة داخلَ
الدولةِ الإسلامية، وأمَّا اليوم فالناسُ جميعًا يعلمونَ كَمَّ المؤامرات وكَمَّ
الحقدِ على هذه الدولة –على الدولةِ
المصرية- وعلى الأُمَّةِ الإسلاميةِ، وهُم يعلمونَ أنَّ مِصر هي الجائزةُ الكُبرى؛
لأنها إذا سَقَطَت –نسألُ اللهَ أنْ يُسَلِّمهَا وجميعَ
بُلدان المسلمين مِن كلِّ سوء-، إذا سَقَطَت؛ سَقَطَت الأُمَّةُ جَاثِيَةً على
رُكَبِهَا أمامَ أولئك الأعجامِ الأغْتَامِ الذين لا هَمَّ إلَّا أنْ يُحاربوا
الإسلام بكلِّ وسيلةٍ وبكُلِّ نظام، فيستخدمون لذلك كلَّ الوسائلِ الشيطانية.
فعلى
المِصريينَ وعلى المسلمينَ في عمومِ الأرضِ وفي مُختلفِ أَرْجَائِهَا أنْ يتقوا
اللهَ، وأنْ يعرفوا ما يُحاكُ لهم ويُدَبَّرُ بليْل، فإنه صارَ ظاهرًا على قَارِعَةِ
الطريق، والسعيدُ مَن وُعِظَ بغيرِهِ، ألَا ترَونَ مَن حولَكُم؟!!
اتقوا اللهَ
ربَّكُم وحافظوا على البقيَّةِ الباقيةِ ممَّا بين أيديكم، ولا تُضَيِّعُوا
الموجود مِن أَجْلِ وَهْمِ الحصولِ على المفقود، فلن تَجِدُوا لا هَذَا ولا هَذَا،
ولن يستطيعَ الواحدُ منكم أنْ يُحافظَ على عِرضِهِ وهو يُنتهكُ تحت عينيْهِ؛ لأنها
الحربُ الأهلية.
اتقوا اللهَ
ربَّ العالمين في بلدِكم؛ في دينِكُم، في وطنِكُم، في أحفادِكُم، فيمن يأتي
بعدَكُم؛ لأنكم إنْ فرَّطتُم سَتَلْعَنُكُم الأجيالُ إلى يومِ القيامة.
نسألُ اللهَ
أنْ يُسَلِّمَ بلدَنَا وجميعَ بُلدان المسلمين مِن كلِّ سوء، إنه تعالى على كلِّ
شيءٍ قدير.
وصلى الله وَسَلَّم
على البشيرِ النذيرِ نبيَّنا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.