«تفريغ خطبة: الإشاعات وهدم المجتمعات»
خطبة الجمعة 29 من رجب 1437هـ الموافق 6-5-2016م
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ
أَمَّا بَعْدُ:
فقد توعدَ اللهُ -جلَّ وعلا- أهلَ الشَّرِّ بقولِه -سبحانه-: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: 60] أي: مرضُ شَكٍّ أو شهوة
﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ أي: المخَوِّفون المُرهبونَ الأعداء، المُتحدثونَ بكثرتِهم وقوتِهم وضعفِ المسلمين.
ولم يذكر المعمولَ الذي ينتهون عنه، ليَعُمَّ ذلك كلَّ ما تُوحي به أنفسُهم إليهم، وتوسوسُ به، وتدعو إليه من الشرِّ مِن التعريضِ بسَبِّ الإسلامِ وأهلِهِ، والإرجافِ بالمسلمين، وتوهينِ قواهم، والتعرُّضِ للمؤمنات بالسُّوءِ والفاحشة، وغيرِ ذلك من المعاصي الصادرةِ مِن أمثالِ هؤلاء.
﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ أي: لنأمرنَّك بعقوبتِهم وقتالِهم، ولنُسلطنَّك عليهم، ثم إذا فعلنا ذلك، لا طاقة لهم بك، وليس لهم قوةٌ ولا امتناع، ولهذا قال ﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: لا يجاورونك في المدينةِ إلا قليلًا، بأنْ تقتلَهم أو تنفيَهم.
وهذا فيه دليلٌ لنفي أهلِ الشرِّ، الذين يُتضرَرُ بإقامتِهم بين أظهرِ المسلمين، فإنَّ ذلك أحسمُ للشر وأبعدُ منه، ويكونون ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ أي: مُبْعَدين حيث وجدوا، لا يحصُلُ لهم أمن، ولا يَقَرُّ لهم قرار، يخشَون أن يُقتلوا أو يُحبسوا أو يُعاقبوا.
إنَّ الأراجيفَ والشائعات التي تنطلقُ من مصادر شَتَّى ومنافذَ متعددة إنما تستهدفُ التآلف والتكاتُف، وتسعى إلى إثارةِ النعرات والأحقاد، ونَشْرِ الظنونِ السيئة وتُرويجِ السلبيات وتضخيمِ الأخطاء.
الإشاعاتُ والأراجيف سلاحٌ بيدِ المُغرضين وأصحابِ الأهواء والأعداءِ والعُملاء، يسلكُهُ أصحابُهُ لزعزعةِ الثوابت وهَزِّ الصفوف وخلخلةِ تماسُكِها.
والمُرجفون: هم الذين ينشرون الشائعات الكاذبة، أو يبالغونَ في تعظيمِ قوةِ الأعداءِ وقدراتهم، واستحالةِ هزيمتِهم وكَسْرِ شوكتِهم، من أجلِ تخذيلِ المؤمنين وتخويفِهم من أعدائِهم، وقد لَعَنَهم اللهُ حيثما وُجِدوا، وتَوعدَهم بأنْ يُسَلِّطَ عليهم مَن يستأصلُ شأفتَهم ويقطعَ دابرَهم.
وقد بيَّنَ اللهُ -جلَّ وعلا- أنَّ هذا هو ديدنُ المنافقين في المواجهات التي تقعُ بين المؤمنين والكافرين، وتَوعدَهم على ذلك بالعذابِ الشديد، وحذَّرَ المؤمنين من السماعِ لهم وتصديقِهم، وإشاعةِ تخويفاتِهم وأراجيفِهم، فقال -جلَّ وعلا-: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: 60-61].
وقال -جلَّ وعلا- كاشفًا حقيقةَ هؤلاء المنافقين ومُبيِّنًا أثرَهم في الإرجافِ والتخويف والتعويقِ والتخذيل ونَشْرِ الفتنةِ بين أبناءِ المجتمعِ الواحد: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ ]الأحزاب: 18].
وقال -سبحانه-: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ ]التوبة: 47
فبَيَّنَ أنَّ وجودَهم في صفِّ المؤمنين لا يزيدُ المؤمنين إلا شَرًّا وفسادًا، وضعفًا وهوانًا، وفتنةً وفُرْقة، ويَعْظُمُ البلاء حين يكونَ في المسلمين جهلةٌ سُذَّجٌ، يسمعون لهؤلاء المنافقين المفتونين، فيتأثرونَ بإشاعاتِهم، ويستجيبونَ لتخويفاتِهم، ويُصبحون أبواقًا لهم، وببغاواتٍ يُرَدِّدونَ أراجيفَهم، وينشرون فِتَنَهم، ولهذا قال -جلَّ وعلا-: ﴿وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾، فيتولدُ من سَعْي أولئك المنافقين، وقَبولِ هؤلاء الساذَجين من الشرِّ والبلاء وتوهينِ عزائمِ المؤمنين وإرعابِهم ما هو مِن أعظمِ البلاءِ على أُمَّتِهم، وأكبرِ المددِ لأعدائِهم.
وقد أرشدنا الله -جلَّ وعلا- إلى ما يجبُ علينا تجاه هذه الشائعات التي تُخِلُّ بالأمن، وتجلبُ الوهن، وتحقِّقُ مُرادَ الأعداء في تركيعِ المؤمنين واستضعافِهم، وكَسْرِ شوكتِهم وتيئسيهم وقَتْلِ روحِ المقاومةِ في نُفوسِهم، فقال ـجلَّ وعلا-: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].
فأنكرَ اللهُ -تعالى- عليهم خَوْضَهم في الأمورِ العامة المتعلقةِ بالأمنِ والخوف، وإذاعتَهم لأخبارِها قبلَ أنْ يتبيَّنوا حقيقتَها، ويتأملوا في آثارِها وعواقبِها، ثم حَثَّهم على ردِّ الأمرِ إلى ولاةِ الأمر منْ العلماءِ والأمراء، فهم بِحَسَبِ فِقْهِهم بالشرعِ ومعرفتِهم بالواقع أقدرُ على إدراكِ الحقائق، والنظرِ في عواقبِ الأمورِ ومآلاتِها، وما ينبغي نَشْرُهُ وإعلانُهُ، وما يحسُنُ السكوتُ عنه وكتمانُهُ.
والإنسانُ لا يخسرُ بالسكوتِ شيئًا، كما يخسرُ حين يخوضُ فيما لا يُحسنُهُ أو يتدخلُ فيما لا يعنيه، والسلامة لا يعدلُها شيء، وقد قال النبي -صلى اللهُ عليه وآله وسلم-: «مَن كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
وفي «الأدب المفرد»: عن عليٍّ -رضي اللهُ عنه- قال: «لا تكونوا عُجُلًا مذاييع بُذُرًا، فإنَّ مِن ورائِكم بلاءًا مُبرِّحًا مُبْلِحًا وأمورًا متماحِلةً رُدُحًا».
وهو صحيح الإسناد.
لا تَكُونُوا عُجُلًا: جمع عَجول، لا تكن عجولًا، كُن حليمًا ذا أناة، كُن وَرِعًا متثبتًا، والعجلةُ داءٌ عظيم، والمؤمن ذو تثبُّتٍ وأناة.
لا تَكُونُوا عُجُلًا مذاييع، مَذاييعَ: جمع مذياع، وهو المبالغُ في نَشْرِ الأخبارِ، وهُم الذين يُشيعون الفاحشة، ومَذاييعَ: بناءُ مبالغة كلما سمعَ كلامًا رَدَّدَهُ وبَثَّهُ وأَذَاعَهُ.
بُذُرا: جمع بَذور، الذي لا يستطيع أنْ يكتمَ سِرَّهُ، يعني المُفشين للأسرار، يُقال: بذرتُ الكلامَ بين الناس، أي: أفشيتَهُ وفَرَّقْتَهُ
مُبرِّحًا: مِن البَرَحِ، وهو الشِّدةُ والشر والعذابُ الشديد والمشقَّة
بلاءًا مُبرِّحًا: أي شديدًا باقيًا
مُبلِحًا: مِن بَلَحَ الرجل بُلوحًا إذا أعياه، وفي رواية مُكْلِحًا: أي يكلحُ الناسَ لشدتِهِ، والكلوحُ: العبوس
وأمورًا متماحِلةً: أي فِتَنًا طويلة المدى، والمُتماحلُ من الرجالِ: الطويل
رُدُحًا: جَمْعُ رَدَاحٍ، وهو الجَمَلُ المُثْقَلُ حِمْلًا، يريدُ الفتنَ الثقيلةَ العظيمة.
أي: لا تستعجلوا في إذاعةِ الأشياءِ والأخبارِ والفواحشِ ولا تُفشوا الأسرار، فهناك بلاءٌ شديدٌ شَاق ينتظرُكم وفِتَنٌ ثقيلةٌ تترقبُكم، فلا تُسهِموا في صُنْعِ الفتنِ والرَّزايا، فحذارِ أنْ تكونوا عيَّابين بإشاعةِ وإفشاءِ الأسرارِ؛ لأنه يصعُبُ الرجوعُ عنها ولا تزدادُ الفتنُ بها إلا تَوقدًا وشدة.
وفي الأثر: النهيُ عن إشاعةِ الفاحشة وإفشاءِ أسرارِ الناس، فإذا ذكرتَ عيوبَ الناسِ وأَشعتَ الفاحشة وكُنتَ عجولًا لا تتثبت، فاعلم أنَّ مِن وراءِكَ بلاءًا مُبرِّحًا مُبلِحا، وأمورًا متماحِلة رُدُحًا وستأتي فتنٌ عظيمةٌ ثقيلة -نسأل الله العافية-
وفي الحديثِ: أنَّ الإنسانَ عليه أنْ يتثبت؛ لأنَّ عامةَ ما يُقال في زمانِ الفتنِ لا أصل له، وإنما هو من المُختلقاتِ من التُّرَّهات، وعلى الإنسان أنْ يكونَ مُتوقيًا فلا يُصدِّق كلَّ ما يسمع، فما أكثرَ الكذب في الناس.
وما أحرى المسلمين في أيامِ الفتن بالتزامِ هذا النهجِ الشريف الذي دلَّ عليه عليٌّ -رضي اللهُ عنه- وإنما هو من مشكاةِ النبوة مُقتبس، فعلى الإنسان أنْ يتثبت ولا يقول ولا يُحدِّث بكلِّ ما يسمع، كما قال رسول الله -صلى اللهُ عليه وآله وسلم-: «كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سَمِع».
أخرجه مسلم في «مقدمة الصحيح» وأبو داود في «سننه».
وكثيرٌ من الناس يُشيعون كلَّ ما يسمعونه في كلِّ مكانٍ ويدورون به على المجتمعاتِ والنوادي، بل إنه ليس شرطًا أنْ يكونَ ذلك كذلك؛ لأنَّ أهلَ الباطلِ قد غُنوا عن بَذْلِ المجهودِ في ذلك في هذا العصر لِمَا سَبَقَت الشِّقوةُ عليهم، فإنَّ الواحدَ ممكن أنْ يكونَ في خلوتِهِ مخاطبًا العالَمَ كلَّهُ وينشرُ الأكاذيبَ ويُشيعُ الفاحشةَ في الدنيا بأرجائِها عن طريقِ الوسائلِ الحديثةِ في المعلوماتِ والاتصالات
وفي حديثِ النبي -صلى اللهُ عليه وآله وسلم- الذي رواه البخاري وغيرُهُ في المرائي التي رآها النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم- في الرؤيا التي أراه اللهُ إياها: «أنه مرَّ ومعهُ جبريل برجلٍ قد استلقى لقَفَاه، ورجلٌ قائمٌ عنده وفي يَدِهِ كَلُّوبٌ- وهو حديدةٌ معقوفة كالتي يُعلَّقُ اللحمُ فيها- يُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَموقه –أي: عَيْنَهُ- إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَستدير إلى الجهة الأخرى فيصنع بِهِا مِثْلَ مَا صنعَ في هذه الجهة التي سَبَقَتْها؛ فَتَصِحُّ الأولى فيستديرُ إليها فيصنعُ بها مِثْلَ ما صَنَعَ أَوَّلَ مرَّةٍ فَتَصِّحُ الثانية وهكذا في البرزخِ إلى أنْ يشاءَ الله».
لمَّا سألَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآله وسلم- جبريل عن هذا الرجلِ وعن سببِ عقابه، قال: «هو الرجل يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ».
وأكثرُ الذين يتعاملون مع الشبكةِ العنكبوتية هُم داخلون -إن شاء الله- في هذا الوعيد إلا أنْ يتوبوا إلى الله تعالى، وأكثرُهم من أهلِ الكذبِ والبهتان، بل جُلُّهم -إلا مَن رَحِمَ اللهُ جلَّ وعلا-؛ لأنه يَنْدُرُ أنْ تجدَ رجلًا صادقًا يتعامل مع شبكة المعلومات تعاملًا يُرضي الله تعالى لا تنزلقُ قدمُهُ، ولا يَزِلُّ بصرُهُ ولا سَمْعُهُ، هيهات هيهات.
تُعدُّ الإشاعات من أهمِّ أساليبِ ووسائلِ الحربِ النفسية؛ لأنها تُستعملُ بفاعليةٍ وقتَ الحرب وكذلك وقتَ السِّلْمِ فيما يُعرفُ بالحربِ الباردة، وتتميزُ بشدةِ تأثيرِها علي عواطفِ الجماهير وقُدرتِها الكبيرة علي الانتشارِ وفاعليتِها العظيمة التي تبدأُ منذ وصولها إلي المكانِ الموجَّهة إليه.
وتختلفُ الإشاعاتُ عن الأساليبِ الأخرى في أنَّ الوسيلةَ التي تحملُها وتنقلُها وتزيدُ مِن حِدَّتِها هي المجتمعُ المُستهدفُ نَفْسُهُ، فما أنْ تَصِلَ الإشاعةُ إلى بعضِ أفرادِ المجتمعِ المُستهدَف حتى يقومَ بروايتِها وترويجِها إلى كلِّ مَن يَعرف، بل لا يقتصرُ الأمرُ عند حدِّ الرواية أو النقلِ فقط، يتعدى الأمرُ إلى أنَّ الشخصَ الذي ينقلُ الإشاعةَ غالبًا ما يضيفُ إليها ويُبالغُ فيها ورُبما اختلقَ أجزاءً كثيرةً مِن تفاصيلِها، مِمَّا يجعلُ الفائدةُ مِن الإشاعةِ أعظمَ وأقوى مِن أيِّ وسيلةٍ بالنسبةِ لمُوَجِّهِ الإشاعة؛ لأنَّ الجمهورَ المُستهدف قد حَمَلَ عِبءَ نَقْلِ الإشاعةِ إلى كلِّ فردٍ مِن أفرادِ المجتمع، مما ساعدَ على سرعةِ نَقْلِها وكذلك ساعدَ على زيادةِ فعالياتِها وتأثيراتِها؛ لأنَّ الفردَ سَمِعَ هذه الإشاعة من صديقِهِ، من حميمِهِ من داخلِ مجتمعِهِ، وهذا عَكْسُ الإشاعاتِ التي تُذاعُ أو تُنشرُ في إذاعاتِ وصُحُفِ العدو؛ لأنَّ الوسائلَ المكشوفة من جانبِ العدو غالبًا ما تكون محلَّ شكٍّ ورِيبة مِن قِبَلِ الجمهورِ المُستهدف.
مِن هذا المنطلق تتضحُ لنا العلاقةُ الوطيدةُ بين الإشاعة والحربِ النفسية، وهي علاقةُ الجزءِ بالكلِّ، فالإشاعةُ بمثابةِ الجزءِ، والحربُ النفسية بمثابة الكلِّ، وقد اتفقَ المُختصون والباحثون في هذا المجال على أنَّ الإشاعةَ تُعَدُّ أحدَ أساليبِ الحربِ النفسية، فقد وَرَدَ في جميعِ كُتُبِ الحربِ النفسية أنَّ الإشاعةَ أسلوبٌ مِن أساليبِها أو هي وسليةٌ مِن أقوى وسائلِها، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ الدعاية وغَسْلِ الدِّماغِ أو افتعالِ الفتنِ والأزمات وغيرِ ذلك من الأساليب الكثيرة.
وتلعبُ الإشاعةُ دَوْرًا خطيرًا في الحربِ النفسية، وهي وسيلةُ البلبلةِ في الحربِ والسِّلْم، والبلبلةُ الفكريةُ والنفسية مفتاحٌ لتغييرِ الاتجاهات واللعبِ بالعقول ثم السيطرةِ والتحويرِ الفِكري وغَسيلِ الأدمغة.
والإشاعةُ سلاحٌ فَعَّال بيدِ المُحترفين مِن رجالِ الحربِ النفسية يُسْتعملُ للسيطرةِ على الاتجاهاتِ الشعبية وزعزعةِ الوحدة الفكرية والانتماء والتماسكِ الاجتماعي، ولها دَوْرٌ كبيرٌ في دَعْمِ اتجاهات الجبهة الداخلية المُعادية لبثِّ روحِ الفُرقة ولبَثِّ اليأسِ بين صفوفِ وأفرادِ المجتمع، وكذلك في بَثِّ روحِ الانتقام لنَشْرِ جَوٍّ مِن الشكِّ بين القادةِ والشعب، وبين الضباطِ والجنود، وبين الأصدقاء والحلفاء
ولقد كان الألمانُ سادةَ الموقفِ في الحربِ العالمية الثانية في استخدامِ الإشاعات في الحربِ النفسية، لأنهم عَلِمُوا أنَّ حَمَلات الإشاعات من أقوى الحملات تأثيرًا على العدو، فهي تَصِلُ إلى السامع دون أنْ يبدو أنها دعايةٌ مُعادية؛ لأنه يسمعُها مِن أخيه أو صديقِهِ أو زميلِهِ في العمل، فهو يسمعُها من داخلِ مُجتمعِهِ، وكانت أيةُ أخبارٍ تُذاع على المَوجةِ القصيرةِ في ألمانيا أو أيةُ قصةٍ ينشرُها عميلٌ ألمانيٌّ في صحيفةٍ ببلدةٍ محايدة سَرْعان ما تبدو وكأنها صادرةٌ من العدو، إذ يضيعُ أصلُها الألمانيُّ تمامًا في عمليةِ تداولِها.
والحقيقةُ أنَّ السامعَ لا يمكنُ أنْ يُطالِبَ بالدليل؛ لأنَّ الذي يَعرِضُ مِثْلَ هذه الأخبار لا يَزعُم أنَّ لديه أيَّ دليل، بل يوضحُ منذ البداية أنَّ ما يقوُلُه ما هو إلا مجردَ كلامٍ سمعه، وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «بئسَ مطيةُ الرجلِ زعموا»، يقول: زعموا كذا وكذا، يقولون: كذا وكذا، إنهم يروِّجون كذا وكذا، مَن هؤلاء؟
لا يدري عنهم شيئًا.
الحقيقةُ أنَّ السامعَ لا يمكنُ أنْ يُطالَبَ بالدليل ولا أنْ يُطَالِبَ بِه، لأنَّ الذي يَعرِضُ مِثْلَ هذه الأخبارِ لا يَزعُم أنَّ لديه أيَّ دليل، بل يوضحُ منذ البداية أنَّ ما يقولُهُ ما هو إلا مجردَ كلامٍ سمعه، وعلى هذا الأساس يُكَرِّره ويُعيد تَكراره.
إنَّ التصديق في مِثْلِ هذه الحالات أسهلُ مِن الكذب، لاسيما إذا كان الأملُ أو الخوفُ يُعَضِّدُ الإشاعة.
وهناك بعضُ الأساليبِ المهمة التي تقوم الإشاعاتُ مِن خلالِها بدورٍ فاعلٍ في الحرب النفسية.
من أهم هذه الأساليب:
*الاستخدام بقصد التفتيت: يمكن أنْ يُقصدُ بالتفتيتِ: الروحَ المعنوية أو تفتيتَ الصفوف وَزَرْعَ الفتنةِ والفُرقةِ بينها، وبهذه الوسيلة تقومُ الإشاعةُ بدَوْرِها في تدميرِ القوى المعنوية وتفتيتِها.
*ومِن الأساليب استخدامُ الإشاعة كسِتارةِ دُخَان -أي للخداع-:
وهذا الأسلوبُ يعتمدُ على حقيقة أنَّ الإشاعات يُمكن أنْ تُخفِيَ الحقيقة، فيقوم أحدُ الجانبين بالسَمَاح بتَسَرُّبِ بعض المعلومات، وبذلك يصعبُ على الجانبِ الآخرِ معرفةُ الأسرارِ الحقيقيةِ من الأخبارِ الكاذبة، ولقد كان الألمانُ سادةً في هذا الأسلوب، فقد كانوا يُطلقون الكثيرَ مِن الأنباءِ المُتناقضة من داخلِ ألمانيا إلى البلادِ التي يريدون أنْ يُحْدثوا فيها اضطرابًا وفوضى بين الناس.
*ومن الأساليب الحَطُّ مِنْ شأن مصادر الأنباء:
يقومُ هذا الأسلوبُ على أساسِ خداعِ الخصم بالإيحاءِ إليه ببعضِ الأخبارِ والمعلوماتِ الخاطئة، وما أنْ يذيعَ الخَصمُ هذه الأخبارَ والمعلومات حتى يتمَّ توضِيحُ الأمر للرأي العام حتى تصبحَ لديهم قناعة بكذبِ مصادرِ أنباء العدو.
ومن الأمثلة على ذلك: في السنةِ الثانيةِ للحربِ العالمية الثانية، حاولَ البريطانيون أنْ يُدَمِّروا محطةَ السككِ الحديدية الرئيسة في برلين عدة مرات، ولكنهم لم ينجحوا في محاولاتِهم تلك، وقامَ الألمانُ بنَشْرِ تقاريرِ غير مؤكدة توحي بأنَّ الإنجليزَ قد نجحوا في محاولاتِهم، عندما وصلت هذه الإشاعات إلى بريطانيا، اعتبرها الإنجليز تأكيدًا وإثباتًا لنجاحِ محاولاتِهم وسَرعان ما أذاعوا الخبرَ بطريقةٍ رسمية.
حينئذ أخذت وزارة الدعاية الألمانية بعض الصحفيين الأمريكيين إلى المحطةِ الرئيسة لإثباتِ كَذبِ الإذاعةِ البريطانية، وبذلك استطاع الألمانُ أنْ يحطُّوا مِنْ شأنِ الإذاعةِ البريطانية على أساسِ أنَّ أنباءها كاذبة.
*ومن الأساليب استخدامُ الإشاعة كطُعْمٍ يُقصدُ به إيضاحُ الحقيقة:
خَيْرُ مِثالٍ لذلك ما قامَ به اليابانيون في الحربِ العالمية الثانية، إذ رَوَّجُوا إشاعاتٍ مُبَالغًا فيها عن خسائرِ الأمريكيين في الاشتباكاتِ البحرية.
كانوا يعرفون حقيقةَ ما صنعوا، ولَكِنَّهُم لا يَعرفون حقيقةَ خسائرِ الأمريكيين، وكان اليابانيون يهدِفُون من وراءِ ذلك أنْ يُثيروا الأمريكيين، فيقوموا بدَوْرِهم بنَشْرِ حقيقةِ خسائرِهم، وبالفعل نجحت هذه الوسيلة؛ إذ أنَّ انتشارَ هذه الإشاعات أَثَّرَ تأثيرًا بالغًا في معنوياتِ الشعبِ الأمريكي، مِمَّا جَعَلَ الحكومةَ الأمريكية تُسرع في إذاعةِ الحقائقِ عن الخسائر، رغبةً منها في دَعْمِ الروحِ المعنوية، وبذلك استطاع اليابانيون أنْ يعرفوا الحقائقَ التي تَهُمُّهُم.
وتقومُ الإشاعةُ في الحروب على استراتيجيةٍ وتكتيكٍ مُعيِّنين، ليست عملًا ارتجاليًا ولا عملًا فوضويًا يقوم به فردٌ هاوٍ أو جماعة، لتحقيقِ مقاصد قريبةٍ أو بعيدة.
تُستخدمُ الإشاعةُ في المجالِ الاستراتيجي ضِمْن مفهومٍ عام يكون بمثابةِ الدليل لاستخدامها، كما تُستخدمُ الإشاعةُ في المجالِ التكتيكي وذلك كما تقتضي ظروفَ الوضعِ الراهن ومُعطياتِ الوقائع في زمانٍ ومكانٍ مُحددين، وذلك لتُصِيب وتَبلُغ الأهداف المَرسُومة لها بدقةٍ لا تُخطئها.
فالإشاعةُ أصبحت عِلْمًا من العلومِ المُنضَبطة ذات المناهجِ والقواعدِ والأُسس،
وإنَّ مَنْ أطلق الإشاعة له أهدافٌ مُحددة ومُخططٌ ثابتٌ واضحٌ لها، لذا فإنَّه يَسلُك في تحقيقها طريقًا منضبطة؛ من شأنه أنْ يُوصِّلَ إلى المُراد ويُصِيبَ الأهدافَ بدقة،
وليس هذا يعني بضرورةِ الحال أنَّ كُلَّ إشاعة هي بهذه المثابة والتفكير، فليس هنالك نفيٌ لوجودِ العملِ الفوضوي والإشاعةِ الفوضوية، وإنَّمَا المراد أنَّ مَنْ أراد دراسةَ الإشاعة عِلْمًا واضحًا منضبطًا أمكنه ذلك.
فهي حربٌ مُنَظَّمة مِن أجلِ تفكيكِ الروابطِ بين أبناءِ المجتمعِ الواحد وإشاعةِ البلبلة وبثِّ روحِ الفُرقةِ والانقسامِ في المجتمع الواحد.
إذن؛ الإشاعةُ مِن أخطرِ الأسلحةِ الفتَّاكةِ والمُدمِّرة للأشخاصِ والمجتمعات، ولقد لجأ إليها الأعداءُ كوسيلةٍ مِن وسائلِ الهدمِ والتدميرِ للمجتمعِ الإسلامي، فكم أقلقت الإشاعةُ مِن أبرياء، وحَطَّمَت مِن عظماء، وقَطَّعت من وشائج، وتسببت في جرائم، وفَكَّكَت من علاقاتٍ وصداقات، وكم هزمت من جيوش، والمثال على ذلك في حياةِ الرسول -صلى اللهُ عليه وسلم- أعني حادثةَ الإفك وهذا الحادث يُعتبرُ حَدَثَ الأحداثِ في حياةِ رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم-، لم يُمْكَر بالمسلمين مَكْرٌ أشدَّ مِن تلك الوَقْعَة وهي مجردُ فِرْية وإشاعةٍ مُختلقة بيَّنَ اللهُ كَذِبَها في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة.
ولولا عنايتُهُ تعالى لبيتِ نبيِّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- لكادت هذه الإشاعة أنْ تَعصفَ بالأخضرِ واليابس، ولا تُبقي على نَفْسٍ مستقرةٍ مُطمئنة، ولقد مَكَثَ مجتمعُ المدينة بأكملِهِ شهرًا كاملًا، وهو يَصْطَلي نارَ تلك الفِرية، وتعصرُهُ الإشاعةُ الهوجاء حتى نَزَلَ القرآنُ يغسلُ آثارَ تلك الفتنة، ويَعتَبِرُهَا دَرسًا تربويًا نَجَحَ فيه أقوامٌ وَرَسَبَ فيه آخرون، وليَبقى هذا الدرس لكلِّ مجتمعٍ بعد المجتمع المدني إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأرض ومن عليها قال تعالى ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: 11].
وللإشاعةِ قدرةٌ على تفتيتِ الصفِّ الواحد والرأي الواحد وتوزِيعِه وبعثرتِهِ، فالناسُ أمام إشاعة بين مُصَدِّقٍ ومُكَذِّبٍ، ومُترددٍ ومُتبلبل، ومُتناقضٍ ينظرُ الى هذه الأخبار أمام ناظريه وسَمْعِهِ؛ فيجدُ هذا ينفي وذاك يُثبت وذاك يُشَكِّكُ ويَجِدُ آخرَ يؤكِّد، فكم من حيٍّ قد قيل إنَّه مَيت، وكم مِن ميتٍ زعموا حياتَهُ، وكم من ضالٍ شاع أمره بأنَّه من الأولياءِ وأصحابِ الكرامات، وكم من رجلٍ صالحٍ شاعَ أَمْرُهُ أنه نَكَص على عقبيه وفَعَلَ الأفاعيل، وكم من بريءٍ قد اتُّهِم وكم من مُتَّهمٍ حولَهُ قرائنُ كثيرةٌ تدلُّ على جريمتِهِ؛ تأتي الإشاعةُ فتبرِّئُهُ حتي يصيرَ كالشمسِ في كبد السماء، يختلطُ الحابلُ بالنابل، والصحيحُ بالمريض، والسليمُ بالعليل، والأحمرُ بالأسود.
إنَّ أسلوبَ الإشاعةِ مِن أخطرِ أساليبِ الحربِ النفسية، إنَّه يُثيرُ البلبلة في نفوس الناس، ويُضعِفُ روحَهم المعنوية، فينهزمون داخل نفوسهم، وبذلك ينهزمون في كلِّ شيء، فهزيمةُ النَّفسِ هي الهزيمةُ الحقيقية التي يَتْبَعُها الانهيارُ والاندحار.
وكلُّ خبرٍ هام يُشَكُّ في صحتهِ، ويتعذرُ التحققُ من أصلِهِ فهو إشاعة، لتحققِ الشرطين الرئيسين لها، وهما: الغموض، والأهمية.
القلق والحبُّ، والكُره والحِقد، والخوف والأمل، والانتقامُ والتشفِّي، كلُّها دوافعُ نفسيةٌ إنسانية يتمُّ التركيزُ عليها عند إطلاقِ الإشاعات.
فالإنسانُ القَلِقُ مِن فَشَلِهِ مَثَلًا، يكونُ أكثرُ ميلًا من غيرِهِ لتصديقِ خبرٍ عن فَشَلِ أعدادٍ كبيرةٍ من الناس، ثم لنَشْرِ هذا الخبر، والشخصُ الذي يكرهُ آخرَ أو مجموعةً من الناس مَثَلًا، يُسارعُ إلى تصديقِ أو نَشْرِ أي خبر يُسِيء إلى ذلك الشخص أو إلى تلك المجموعة.
ووضعُ اليدِ على هذه الاتجاهاتِ في المجتمعات قد توصلَ إليها الأعداءُ مجانًا في هذا العصر، بطواعيةٍ وأريحية مِن المجتمعات نَفْسِها، وهي مستهدفةٌ في وجودِها وذلك عن طريق «مواقع التواصل الاجتماعي»، تُبَثُّ الأسرار وتُذاع الهموم، ويَسْرُدُ كلٌّ منهم ما لديه ويَنثُرُ مكنونَ صدرِهِ، وهنالك مَن يراقب مِن أجلِ أنْ يشيعَ الشائعات على قَدْرٍ مُنضبطٍ مع ما تعانيه المجتمعات إلى غيرِ ذلك مِن تلك الضروبِ التي هي في حقيقتِها من الحربِ النفسية على المجتمعات، ولكنَّ الناسَ للأسف يَهدِمون أوطانَهم بأيديهم ويُدمِّرون ذواتَهم بأيديهم أيضًا، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
المحورُ الذي تهدفُ إليه الإشاعة: هو إضعافُ الروحِ المعنوية للخَصم، تمهيدًا لانهيارِها، وبالتالي إجبارِ هذا الخَصم على الاستسلامِ وتنفيذِ الشروط التي تُملَى عليه، وتعريضِهِ لهزيمةٍ الانكسارٍ، أو للخسارةِ الكبرى، وهذه الهزيمة هي النتيجةُ النهائية لجملةٍ من الأهداف تحققُها الإشاعة في صفوفِ الخصم أو العدو. ومن هذه الأهداف:
تفريقُ الصفوف، وتوسيعُ الثغرات، وتبديدُ الإمكانات، والتشكيكُ في كل عملٍ أو حركةٍ يقوم بها الخَصم، خاصةً في عدالةِ الهدفِ الذي يسعى إليه، أو في أهميته أو دوافعِهِ ومُبرراتِهِ، مع بثِّ عواملِ الضعفِ والوهن، وفي طليعةِ ذلك زعزعةُ ثِقةِ الخَصمِ بنفسه، وبعواملِ قوتِهِ وتماسكِهِ.
إنَّ الإشاعةَ سلاحٌ يستخدمه العدو في الداخلِ وفي الخارج على السواء، فما هي مضاداته؟ وكيف يمكن أنْ تُدفَع شروره؟
إنَّ النَّفسَ الإنسانيةَ تميلُ دومًا إلى تنظيمِ المعلومات بطريقةٍ تحققُ أكبرَ قَدْرٍ مِن الوضوحِ والانتظامِ والكمال، وعندما يسمعُ الإنسانُ خبرًا غامضًا يميلُ فورًا إلى تبسيطِهِ ليكونَ واضحًا، وفي حالِ عدم توفرِ معلوماتٍ كافيةٍ لذلك، يميلُ إلى سدِّ هذه الثُّغرَة وتعويضِ هذا النقصِ في المعلومات، وإذا لم يستطع تحصيلَ ذلك من المصادرِ الموثوقة؛ يستعينُ بمصادرَ أخرى مِن أوساطِ الناسِ والمجتمع، أو مِن وكالاتِ الأنباءِ المختلفة وغيرِها؛ مِن وسائلِ الإعلام المتعددة، وهذه الأوساطُ كُلُّها قد تكونُ بؤرًا لبَثِّ الأخبارِ الملفَّقةِ الكاذبةِ وترويجِ الإشاعات، مما يؤدي إلى نتيجتين سيِّئتين هما:
*تصديقُ الإشاعة أو الخبر الكاذب أولًا.
*والثانية: المشاركةُ في نَشْرِ ذلك، وتوسيعُ دائرةِ انتشارِهِ في المجتمع.
انطلاقًا من المفهومِ العلمي النِّفسيِّ الذي مَرَّ، فإنَّ مقاومةَ الإشاعةِ تعتمدُ بشكلٍ رئيسٍ على:
أولًا: نَشْرُ الحقيقة أو تصحيحُ المعلومات المغلوطة بأسلوبٍ يتَّسمُ بالسهولةِ والوضوحِ ما أمكن ذلك، والانتظامُ في تزويدِ الناسِ بالمعلوماتِ أولًا بأوَّل، مع تقديمِ المعلوماتِ الكاملة حول الموضوع الذي يتخِذُهُ الخَصمُ مادَّةً لإشاعتِهِ بين الناس والجماهير، وذلك بما لا يتعارضُ مع مبدأِ السِّريَّةِ والكتمانِ والحفاظِ على الأمنِ القومي.
ثانيًا: تحليلُ الإشاعةِ ودراستُها، ثم السعيُ لكَسْرِ حلقةِ نَشْرِها، مع كَشْفِ محاولاتِ التخذيلِ فيها، و تتبُّعِ سَيْرِها للوصولِ إلى مُرَوِّجِيها وَكَشْفِ حقيقتِهم وحقيقةِ مُطْلقيها الأصليين.
ثالثًا: التماسك على الصعيدِ الاجتماعي، وما ينتجُ عنه من وعيٍ وإدراك، وترابطٍ وثقةٍ متبادلةٍ بين أبناء المجتمع، مما يؤدي لردِّ كلِّ إشاعةٍ إلى أولي الأمر لوضعِ الحلِّ المناسب لها.
وتأمل كيف تعامَلَ القرآنُ الكريم مع الإشاعات:
*تعامل مع الإشاعات بالردِّ الحاسم السريع الذي يبيِّنُ الحقيقةَ بكلِّ وضوح:
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس:38].
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين﴾ [هود:13].
*تعاملَ القرانُ مع الإشاعةِ بالحثِّ على عدمِ إذاعةِ أي خبر -أمنًا كان أو خوفًا -، بل يكون التعامل برَدِّهِ إلى أولي الأمر أولًا لاستنباطِ ما فيه من خيرٍ أو شرٍّ، ثم يَعْقُبُ ذلك اتِّخاذُ القرارِ المناسب بشأنه:
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [النساء:83].
*تَعامَل القرآنُ مع الإشاعة بتنميةِ إيمانِ المؤمنين، وتقويةِ روابطِهم باللهِ ربِّ العالمين، وبوَضْعِ حدٍّ فاصلٍ واضحٍ بين الحق والباطل:
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175].
*وبالتحذيرِ مِن أهلِ الكُفْرِ والشركِ والأعداء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ ﴾ [آل عمران:100].
*وبالتحذيرِ مِن المنافقين وأشباهِهم، الذين يسعَونَ دومًا لبَثِّ الإشاعاتِ التي تُفَتِّتُ الصفوف، وتُفَرِِِِّقُ المؤمنين وتُبعدُهم عن هدفِهم، وتَفُتُّ في أعضادِهم وعزائمِهم:
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لأنفال:49].
﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة:47].
*وبالتحذيرِ مِن ترديدِ الإشاعاتِ مِنْ غيرِ علمٍ أو وعيٍ وإحاطةٍ بأبعادِها وأهدافِها:
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [النور:15-17].
وأمَّا كيف تعامَلَ الرسول -صلى اللهُ عليه وآله وسلم- مع الإشاعة؟
فببثِّ الثقةِ والأملِ والتفاؤلِ بنَصْرِ اللهِ وتأييدِهِ وتسديدِهِ مهما كانت الأحوال، كما فَعَلَ يومَ ا لخندق رَدًّا على الشائعات المُرْجفة التي كان يُطلقها المنافقون: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾[سورة الأحزاب: 12].
فقد كان رَدُّ رسول الله -صلى اللهُ عليه وآله وسلم- على المُرجفين بمخاطبةِ أصحابِهِ – رضي اللهُ عنهم: «أبشِرُوا بفَتْحِ اللهِ ونَصْرِهِ».
وعاملَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآله وسلم- الإشاعةَ باستنفارِ الطاقاتِ، وتجميعِ القُوى والإمكانات حول هدفٍ واحدٍ مُحدَّد، مع السرعةُ في اتخاذِ الإجراءات بعد أيِّ إشاعة، وقبلَ أنْ تفعلَ فِعْلَها المُدمِّر في الصفِّ المسلم.
فكان – صلى الله عليه وسلم - يُوجِّهُ حالات الاستفزازِ والاحتقانِ نحو الإيجابيةِ والاستثمارِ الأمثل، قبلَ أنْ تتوجَّهَ بشكلٍ ارتجاليٍّ عشوائيٍّ نحو أهدافٍ أخرى غير محسوبةِ النتائج؛ كما حصل يوم الحديبية بعد أنْ سَرَت إشاعةٌ تفيدُ بأنَّ عثمانَ قد قُتل بمكةَ –قتلته قريش-، فدعا رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- إلى بيعةِ الرضوان التي كانت بيعةً على الموت، فوَجَّهَ بذلك الطاقات وَرَفَعَ مِن الروحِ المعنوية للمسلمين واستثمرها بشكلٍ منظمٍ وهادف، وعاملَ الشائعات بإشغالِ الناسِ بأمرٍ مفيد رَيْثَمَا تتهيأ الأحوال لوضعِ الحلول المناسبة لبعض الإشاعات التي قد تشغلُ المجتمع وتحاولُ تفتيتَهُ، كما حصل بعد غزوة بني المصطلق عندما أطلق زعيمُ المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول إشاعتَهُ وفِرْيَتَهُ التي بدأت تسري بين المسلمين إذ قال: ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ﴾ [المنافقون: 8].
فمشى رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم- بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتَهم حتى أصبح، وإنما فَعَلَ ذلك -صلى اللهُ عليه وسلم- ليشغلَ الناس عن الحديث الذي كان بالأمس –من حديث عبد الله بن أُبيِّ-.
تُعامل الشائعاتُ بمَنْعِ إطلاقِها أو المشاركةِ في نَشْرِها حتى لو كانت صحيحة درءً لخلخلةِ المجتمعِ والصفِّ المسلم أو التأثير على الروحِ المعنوية كما حصل يوم الخندق بعد أنْ بلغَ رسولَ الله -صلى اللهُ عليه وسلم- أنَّ بني قريظة قد نقدوا العهد الذي كان بينهم وبينه -صلى اللهُ عليه وسلم-، فقال –وائدًا لتلك الشائعة في مَهْدِها-: «لا تَفُتُّوا في أعضاضِ الناس»؛ يعني: لا تتكلموا في هذا.
وأما المؤمنونَ مِن الأصحابِ والأخيارِ مِن بعدِهم؛ فإنهم تعاملوا مع الإشاعة بالإيمان القوي الذي لا يمكن زعزعته، وبأنَّ العلاقة مع الله تفوقُ كلَّ علاقة، وأنَّ التوكلَ عليه سبحانه هو الأصل والأساس: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22].
وعاملَ الصحابةُ والأخيارُ مِن بعدِهم الشائعات بالتماسُكِ والتلاحُمِ والثقةِ غير المحدودة بإسلامِهم وبإخوانِهم وبقادتِهم ورؤسائِهم وبالوعي التام للمخططاتِ –مخططات العدو والمرجفين-، وبمحاكمةِ الإشاعاتِ بموضوعيةٍ وعِلميةٍ ومنطقٍ سليم.
وقد ورد في السيرة النبوية بعد خبرِ الإفك أنَّ أبا أيوب -رضي اللهُ عنه-، قالت له امرأته أم أيوب –رضي الله عنها-: يا أبا أيوب؛ ألم تسمع ما يقولُ الناسُ في عائشة؟
قال: بلى، وذلك الكذب، أكنتِ أنتِ يا أم أيوب فاعلة؟
قالت: لا والله، ما كنتُ لأفعل.
قال: فعائشةُ والله خيرٌ منكِ.
انظر كيف فنَّدَ هذا الفِرية بهذا المنطقِ السديد –رضي الله تعالى عنه-.
أسألُ اللهَ أنْ يُسَلِّمَ مجتمعَنا وجميعَ مجتمعات المسلمين في جميعِ بقاعِ الأرض، إنه تعالى على كل شيءٍ قدير وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ وَحدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعدَهُ.
أَمَّا بَعدُ:
فإنَّ الإسلامَ قد حرَّم إشاعةَ أسرارِ المسلمين وأُمورِهِم الداخلية ممَّا يَمَسُّ أمنَهُم واستِقرارَهُم؛ حتَّى لا يَعلَم الأعداءُ مَواضِع الضعفِ فِيهِم فَيستَغلُّوهَا, أو قُوَّتهُم فَيتَحصَّنوا مِنهُم.
الإسلامُ يُحرِّمُ إشاعَةَ مَا يَمَسُّ أعرَاضَ النَّاسِ وَأسرَارَهُم الخَاصَّة.
قَالَ تعَالَى فِي مُحكَمِ التَّنزِيل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [النور: 19], هَذا هُوَ الحُكمُ الأُخرَويُّ.
وَبالنسبَةِ للحُكمِ المُترَتِّب علَى الشَّائعَةِ الكَاذِبةِ؛ فهُوَ حَدُّ القَذفِ إنْ تَوفَّرَت شُروطُهُ وَإلَّا فَالتعذِير, قَالَ تَعالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:4 ].
وَقَالَ تَعالَى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾ [الأحزاب: 58].
وَمُطلِقُوا الشائعَاتِ سَمَّاهُم القُرآنُ مُرجِفِين, وَالإرجَافُ فِي اللُّغَةِ: الاضطِرابُ الشديدُ، وَيُطلَقُ أَيضًا علَى الخَوضِ في الأخبَارِ السَّيئَةِ وذِكْرِ الفِتَن؛ لأنَّهُ يَنشَأُ عَنهُ اضطِرابٌ بَينَ النَّاس.
والإرجَافُ حَرامٌ، وَتَركُهُ وَاجِبٌ؛ لِمَا فِيهِ مِن الإِضرَارِ بالمُسلِمينَ، وَفَاعِلُهُ يَستَحِقُّ التَّعزِير.
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إلا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً﴾ [الأحزاب: 60-61].
قال القرطبي: «﴿لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ﴾: لَنُسَلِّطنَّكَ عَليهِم؛ فَلَتَستَأصِلَنَّهُم بِالقَتلِ».
وَبلغَ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ نَاسًا مِن المُنافِقينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنهُ فِي غَزوَةِ تَبُوك؛ فَبَعثَ إِليهِم طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ فِي نَفَرٍ مِن أَصحَابِهِ، وَأَمرَهُم أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيهِمُ البَيت، فَفَعَلَ طَلحَةُ ذَلِكَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ-.
مُرَوِّجُ الشَّائعَة: عُضوٌ فَاسدٌ، يَسرِي فَسادُه في المُجتمَعِ سَريَانَ النَّارِ فِي الهَشيمِ، يَتَلوَّنُ كَالحِربَاء، وَيَنفُثُ سُمومَهُ كَالحَيَّةِ الرَّقطَاء، دَيدَنُهُ الإِفسَادُ وَالهَمزُ، وَسُلوكُه الشَّرُّ وَاللَّمزُ، وَعَادَتُهُ الخُبْثُ وَالغَمْزُ.
مُرَوِّجُ الشَّائعَةِ لَئِيمُ الطَّبعِ، دَنِيءُ الهِمَّة، مَريضُ النَّفس، مُنحَرِفُ التفكِير، صَفِيقُ الوَجْهِ، عَدِيمُ المُروءَة، ضَعِيفُ الدِّيَانَة، يَتَقَاطَرُ خِسَّةً وَدَنَاءَةً، قَد تَرسَّبَ الغِلُّ فِي أَحشَائِه، فَلَا يَستَرِيحُ حتَّى يُرغِيَ وَيُزبِد، وَيفُسِدَ وَيُؤذِي، فَتَّانٌ فَتَّاكٌ، سَاعٍ فِي الأَرضِ بِالفَسادِ لِلبِلادِ وَالعِبَاد.
الشائعَات جَريمَةٌ ضِدَّ أَمْنِ المُجتمَع، وصَاحِبُهَا مُجرمٌ فِي حَقِّ دِينِهِ وَمُجتَمَعِهِ وَأُمَّتِهِ، مُثِيرٌ للاضطِرابِ وَالفَوضَى فِي الأُمَّةِ، وَقَد يَكُونُ شَرًّا مِن مُرَوِّجِ المُخدِّرات، كَلَاهُمَا –أَعنِي: مُرَوِّجَ الشائعَات وَمُرَوِّجَ المُخدِّرات- يَستَهدِفُ الإنسَان، لَكِنَّ الاستِهدافَ المَعنَويَّ بالشَّائعَاتِ أَخطَرُ وَأَعْتَى, وَإِنَّكَ لَتَأسَفُ أَشدَّ الأَسف مِمَّن يَتَلَقَّى الشَّائعَاتِ المُغرِضَةِ عَلَى أَنَّهَا حَقَائقُ مُسَلَّمَةٌ؛ فيُلَطِّخُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ مِنَ الشَّائعَاتِ البَاطِلَةِ.
لَقَد عَدَّ الإسلامُ ذَلكَ سُلُوكًا مَرذُولًا، مُنَافيًا لِلأخلَاقِ النَّبيلَةِ, وَالسَّجَايَا الكَريمَة, وَالمُثُلِ العُليَا الَّتِي جَاءَ بِهَا وَالَّتِي حَثَّ عَليهَا مِن الاجتِمَاعِ وَالمَحبَّةِ وَالمَودَّةِ وَالإِخَاءِ، وَالتَّعاوُنِ وَالتَّراحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالصَّفَاءِ، وَهل الشَّائعَةُ إلَّا نَسْفٌ لِتِلكَ القِيَمِ وَمِعوَلُ هَدمٍ لهَذِهِ المُثُل؟!
مَا استُبِيحَ دَمُ أَميرِ المُؤمِنينَ عُثمَان إِلَّا بِالشَّائعَاتِ, الَّتي حَمَلَت الكَذِبَ وَالافتِرَاءَ وَالطَّعنَ عَلَيهِ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهُ-, إِلَى أَمثَالٍ كَثِيرَةٍ تُضَمُّ إِلَى هَذَا المَثَل.
لَقَد حَذَّرَ الإِسلامُ مِنَ الغِيبَةِ وَالوَقِيعَةِ فِي الأَعرَاضِ، وَمِنَ الكَذِبِ وَالبُهتَانِ وَالنَّمِيمَةِ، وَهَل الشَّائعَةُ إِلَّا كَذَلِك؟!
وَأَمَرَ الإِسلامُ بِحِفظِ اللِّسَان، وَأَظهَرَ خُطُورَةَ الكَلِمَة، وَحَرَّمَ القَذفَ وَالإِفكَ، وَتَوَعَّدَ مُحِبِّي رَوَاجِ الشَّائعَاتِ بِالعَذابِ الأَلِيمِ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [النور: 19].
علَى المُسلِمِ أَنْ يُقَدِّمَ حُسنَ الظَّنِ بِأَخِيهِ المُسلِم, ﴿لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ [النور: 12].
وَالشَّائعَاتُ مَبنِيَّةٌ علَى سُوءِ الظَّنِّ بِالمُسلِمِينَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:12 ].
وَقَد أَخرَجَ الشَّيخَانِ فِي «صَحِيحَيهِمَا» عَن أَبي هُرَيرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يَرفَعُه: «إيَّاكُم وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيث، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».
لَقَد حَثَّ الإِسلَامُ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ فِي نَقلِ الأَخبَارِ، وَأَنْ يَطلُبَ المُسلِمُ الدَّلِيلَ البُرهَانِيَّ عَلَى أَيِّ خَبَرٍ يَسمَعُهُ, ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
وَقَد أَخبَرَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الإِنسَانَ مَسْئولٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَمُحَاسَبٌ عَن كُلِّ صَغِيرٍ وَجَلِيلٍ: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق:18].
نَهَى الإِسلَامُ أَتبَاعَهُ أَنْ يُطلِقُوا الكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِه، وَيُلغُوا عُقُولَهُم عِندَ كلِّ كَلَامٍ وَشَائعَةٍ، وَيُجَانِبُوا تَفكِيرَهُم عِندَ كُلِّ ذَائعَةٍ، وَنَهَاهُم أَنْ يَنسَاقُوا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ، نَهَاهُم أَنْ يُصَدِّقُوا كُلَّ دَاعٍ مَارِقٍ.
أَخرَجَ الإِمَامُ مُسلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ عَن رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَفَى بِالمَرءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِع»، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَفَى بِالمَرءِ إِثْمًا».
جَعَلَ الإِسلَامُ الأَمرَ مَرجُوعًا إلى أَهلِ الاختِصَاص: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء:83].
وَأُولُوا الأَمرِ: هُم العُلَمَاءُ وَالأُمَرَاءُ.
عَلَى المُسلِمِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي عَواقِبِ الإِشاعَةِ, وَأَنْ يَعُودَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّات إِلَى آيَةِ سُورَةِ الحُجُرَات: ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
كُلُّ خَبَر يَنشُرُهُ الإِنسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الفِتنَةَ أَوْ الغَوغَاءَ, أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ, أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنسَانٍ بَغَيرِ وَجهِ حَقٍّ, أَوْ يُنَبِّهُ بَعضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِن أَبوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنهُ غَافِلِين, لَا يُجُوزُ نَشرُهُ وَنَاشِرُهُ آثِمٌ, يَحمِلُ إِثمَ كُلَّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.
وَاللهُ تَعَالَى ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ لِلأخبَارِ التِي تُزَعزِعُ أَمْنَ النَّاسِ, وَتُثِيرُ الخَوفَ وَتَدعُوا إِلَى الفَوضَى فِي المُجتَمَعِ؛ لِأَنَّ السُّوقَةَ وَعَامَّةَ النَّاس لَا يَصلُحُونَ لِمِثلِ هَذهِ الأُمور, وَلَا لِأُمورِ السِّيَاسَة, وَلَيسَ لِعَامَّةِ النَّاس أَنْ يَلُوكُوا أَلسِنَتَهُم بِسِيَاسَةِ وُلَاةِ الأُمُور.
السِّيَاسَةُ لهَا نَاسُهَا, وَلَو أنَّ السياسَةَ صَارَت تُلَاكُ بَينَ أَلسُنِ عَامَّةِ النَّاس لَفَسَدَت الدُّنيَا؛ لِأَنَّ العَامِيَّ لَيسَ عِندَهُ عِلمٌ وَلَيسَ عِندَهُ عَقلٌ، العَامَّة لَيسُوا كَأُولِي الأَمرِ, وَأُولِي الرَّأيِ وَالمَشُورَة, فَلَيسَ الكَلَامُ فِي السِّياسَةِ مِنَ المَجَالَاتِ العَامَّةِ التِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا أَفرَادُ المُجتَمَعِ جَمِيعًا!!
مَن أَرَادَ أَنْ تَكُونَ العَامَّة مُشَارِكَةً لِوُلَاةِ الأُمُور فِي سِياسَتِهَا وَفِي رَأيِهَا وَفِكْرِهَا؛ فَقَد ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا, وَخَرَجَ عَن هَديِ الصَّحَابَةِ –رَضِيَ اللهُ عَنهُم-.
هَذَا يَدُلُّ علَى أنَّ الإنسَانَ لَا يَنبَغِي لهُ أنْ يَكُونَ مُذِيعًا, كُلَّمَا سَمِعَ عَن خَبَرٍ مِن خَوفٍ أَوْ أَمنٍ أَذَاعَهُ, بَلْ قَد يَكُونُ مِن الخَيرِ أَنْ يَكتُمَ هَذا الخَبرَ الذِي حَصَل.
إِنَّ النَّبيَّ –صلى الله عليه وآله وسلم- أَمَرَنَا بِحِفظِ مَنطِقِنَا وَبحِفظِ أَلسِنَتِنَا؛ لِأنَّ إِذَاعَةَ الأَخبَارِ وَالشائعَاتِ بَينَ صُفوفِ النَّاسِ ممَّن لَا يَعنِيهِم الخَبَرُ أَوَّلًا, ثُمَّ يُشارِكونَ فِيهِ علَى أَنَّهُم مِنَ الخُبَراءِ كمَا هُو وَاضِحٌ فِي المُجتَمَعِ المِصرِيِّ...عِندَنَا تِسعُونَ مِليُونًا مِنَ المُحَلِّلِينَ الاستِرَاتِيجِيِّينَ, وَالسِّيَاسِيِّين, وَالعَسكَرِيِّين, وَالاقتِصَادِيِّين, وَالأَمنِيِّين, وَالاجتِمَاعِيِّين... كُلُّ مِصرِيٍّ صَارَ مُحَلِّلًا!!
أمسِك لِسَانَك, اتَّقِ اللهَ رَبَّك, خَف عَلَى بَلَدِك.
تَأمَّل فِيمَا صَنَعَت الحَربُ النَّفسِيَّةُ بِالمُسلِمِينَ أَيَّامَ غَزوِ التَّتَار!!
قَالَ ابنُ الأَثِير –المُتَوَفَّى سَنَةَ ثَلاثِينَ وَسِتِّمِئة, وَهُوَ يَستَعرِضُ وَقَائعَ العَامِ السَّابِع عَشَر بَعدَ السِّتِّمِئة وَيَسطُرُ بِدايَاتِ خُرُوجِ المَغُول إِلَى بِلادِ الإِسلَام-؛ يَقُولُ:
«لَقد بَقِيتُ عِدَّةَ سِنِين مُعرِضًا عَن ذِكرِ هَذهِ الحَادِثَة، استِعظَامًا لهَا، كَارِهًا لِذِكْرِهَا؛ فَأَنَا أُقَدِّمُ إِلَيهِ رِجْلًا، وَأُؤَخِّرُ أُخرَى. فَمَن الذِي يَسهُلُ عَلَيهِ أَنْ يَكتُبَ نَعيَ الإِسلَامِ وَالمُسلِمِين؟! وَمَن الذِي يَهُونُ عَلَيهِ ذِكْرُ ذَلِك؟! فَيَا لَيتَ أُمِّي لَمْ تَلِدنِي!! وَيَا لَيتَنِي مِتُّ قَبلَ حُدُوثِهَا وَكُنتُ نَسيًا مَنسِيًّا!!».
كَمَا تَرَى اليَوم فِي استِبَاحَةِ دِيَارِ المُسلِمِينَ, وَفِي تَقتِيلِهِم كَالجِرذَان, بَلْ كَالبَعُوضِ!! مَعَ تَتَبُّعِهِم بِكُلِّ مَكانٍ بِحِقدٍ صَلِيبِيٍّ آثِمٍ لَا يَفطِنُ إِلَيهِ المُسلِمُونَ أَنفُسُهُم!!
حَلب... حلبُ الشَّمَّاءُ الصَّهبَاء، حَلبُ العِلم، حَلَبُ الأدَب، حَلَبُ الشِّعر، حَلَبُ المَواهِب، تُدمَّرُ!! تُسوَّى بالأرضِ بحِقدٍ صَليبيٍّ أثِيمٍ!! وَبأيدِي بَعضِ أبنَاءِ المُسلمِينَ مِمَّن خَانُوا دِينَهُم، وخَانُوا كِتَابَ ربِّهِم، وخَانُوا نَبيَّهُم -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-!!
ثمَّ انتقَلَ القَصفُ إلى دِمَشق، يَتَتبَّعُونَ الحَواضِرَ الإسلامِيةَ التي نَمَت فِيهَا حَضارَةُ الإِسلامِ العَظِيم، وَتَرسَّخَت أُصولُهَا، وتَأسَّسَت علَى أُسُسِهَا.
دِمَشق... بَغدَاد, بَغدادُ الرَّشيد, ثُمَّ العَينُ علَى القَاهِرَة، فَهذِهِ هي الحَواضِرُ الثَّلاث عند المُسلِمين فِي المَشرِقِ العَربي الإسلَامِي، المُسلمُونَ لَا يَلتفِتون؛ فَلْتُهدَمُ دِمَشقُ علَى رُؤوسِ أبنَائهَا، يُخوِّنُونَ وَيتكَلَّمُون وَيَهرِفُونَ بمَا لَا يَعرِفون، إنَّهُ مَجدُكُم... تُراثُكُم... يُدَمَّرُ تَدمِيرًا؛ حتَّى لَا تَكُونَ لكُم جُذور، وكُلُّ أُمَّة لَا مَاضِيَ لهَا فَلَا مُستَقبَل لهَا, حَاضِرُهَا ضَائع, مُبَعثرٌ مُبدَّدٌ, وأمَّا مُستقبَلُهَا فَغَائِمٌ لَا يُمكِنُ الوصُولُ إِلَيهِ!! أَينَ أَنتُم؟! وَأَينَ عُقُولُكُم؟!
يُدَمِّرونَ حَلَب، يَقتُلونَ الأطفَال، يَستَخرِجونَ الأجِنَّةَ مِن بُطونِ الحَوامِل!!
يُروِّعُونَ الشِّيوخَ وَالعَجَائزَ, كَأنَّ بَينَهُم وَبينَ جُدرَانِ أَبنِيَتِهَا ثَأرًا!!
وَاحَلبَاه.... أَينَ المُسلِمون؟!!
مُنشَغِلُونَ بِأزمَةٍ هُنَا وَأَزمَةٍ هُنَاك، بأُمورٍ تَافِهَةٍ رَخِيصَةٍ, وَتَارِيخُهُم يُسْحَق!! يُدَمَّر!! يُنسَف!! وَهُم لَا يَأبَهُون!! بَلْ رُبَّمَا تَجدُوا فِيهِم كَثيرًا مِن الفَرِحِين؛ لِسُوءِ نِيَّةٍ أَوْ لِفَسَادِ طَوِيَّةٍ!!
ثُمَّ انتَقَلُوا إِلى دِمَشق، وَمَا الذِي بَقِيَ فِي دِمَشق؟!!
دِمَشقُ الحَاضِرةُ الأُمَويَّةُ العَربيَّةُ الخَالِصَةُ فِي عُرُوبَتِهَا, مَعَ إسلَامِيَّتِهَا السَّوِيَّة.
حِقدٌ دَفِينٌ، وَاليَهود يَعقِدُونَ مَجلِسَ وُزَرَائهِم بِاجتِمَاعِهِ في الجُولَان, وَيَقُولُ رَئيسُ وُزَرائهِم: «الجُولَانُ إِسرائيلِيَّةٌ إِلَى الأَبَد!!»
وَا حُزنَاه... لَيتَ أُمِّي لَم تَلِدنِي -كَمَا قَالَ ابنُ الأَثِير-, لَيتَ أُمِّي لَم تَلِدنِي؛ حتَّى لَا أَشهَدَ مِثلَ هَذهِ الأَحدَاث...
مِن قَبل بَغدَاد، وَالآن فِي قَبضَةِ الرَّوافِض بمَعرِفَةِ الحُلفَاء الذِينَ دَمَّرُوهَا أَولًا, ثُمَّ العَينُ عَلَى القَاهِرَة، وَمَاذَا بَعدُ؟!!
كُلُّ الحَضَارَاتِ القَدِيمَةِ فِي لِيبيَا يُعْبَثُ بِهَا، تُنسَفُ تَارَة... تُشَوَّهُ تَارَة... تُدَمَّرُ تَارَة... ثُمَّ مَاذَا بَعدُ؟!
لَن يَبقَى لنَا سِوَى مَكَّةَ وَالمَدِينَة، مَا المُخَطَّطُ لِذلِك؟
تَدوِيلُهُمَا, وَهِي خِطَّةٌ مَعرُوفَةٌ؛ أَنْ يَكُونَ عِندَ المُسلِمين فَاتِيكَانٌ إِسلَامِيٌ كمَا عِندَ الكَاثُولِيك!! بِمَعنَى: أَنْ تَصِيرَ مَكَّةُ وَالمَدِينَة مُدَوَّلَتين, لَا تَخضَعَانِ لِسُلطَةٍ بعَينِهَا!! وتُتَنَاوَبُ عَلَيهَا سُلُطَاتُ المُتَعَاقِبينَ عَلَى السُّلطَةِ فِيهَا, وَتُفتَحُ مَكَّةُ وَالمَدِينَة كَالمَزارَاتِ السِّياحِيَّة!!
كمَا يَذهَبُونَ إِلَى المَوالِد!! وَيَدخُلُ إِليهَا مَن شَاءَ مِنْ مُسلِمٍ وَغَيرِ مُسلِم وَلَو كَانَ وَثَنِيًّا!! وَلَو كَانَ مُلحِدًا!!
مَا هَذا العَبَث؟! أَينَ أَنتُم؟!!
يَقُولُ: «لَقد بَقِيتُ عِدَّةَ سِنِين مُعْرِضًا عَن ذِكْرِ هَذهِ الحَادِثَة، استِعظَامًا لهَا، كَارِهًا لِذِكرِهَا؛ فَأَنَا أُقَدِّمُ إِلَيهِ رِجْلًا، وَأُؤَخِّرُ أُخرَى. فَمَن الذِي يَسهُلُ عَلَيهِ أَنْ يَكتُبَ نَعيَ الإِسلَامِ وَالمُسلِمِين؟! وَمَن الذِي يَهُونُ عَلَيهِ ذِكْرُ ذَلِك؟! فَيَا لَيتَ أُمِّي لَمْ تَلِدنِي!! وَيَا لَيتَنِي مِتُّ قَبلَ حُدُوثِهَا وَكُنتُ نَسيًا مَنسِيًّا!!
إِلَّا أَنَّهُ حَثَّنِي جَمَاعَةٌ مِنَ الأَصدِقَاءِ عَلَى تَسطِيرِهَا، وَأَنَا مُتَوَقِّفٌ، ثُمَّ رَأيتُ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ لَا يُجدِي نَفعًا.
فَنَقُولُ هَذَا الفِعلُ يَتَضَمَّنُ ذِكرَ الحَادِثَةِ العُظمَى وَالمُصِيبَةِ الكُبرَى التِي عَقُمَت الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي عَن مِثْلِهَا، عَمَّت الخَلَائِق، وَخَصَّت المُسلِمِين.
فَلَو قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ العَالَمَ مُذْ خَلَقَ اللهُ -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- آدَم إِلَى الآن –إِلَى وَقتِهِ- لَمْ يُبتَلُوْا بِمِثلِهَا، لَكَانَ صَادِقًا، فَإِنَّ التَّوارِيخَ لَمْ تَتَضَمَّن مَا يُقَارِبُهَا وَلَا مَا يُدَانِيهَا».
وَأَقُولُ: رَحِمَكَ اللهُ بَلْ جَدَّ بَعدُهَا مَا جَدَّ مِمَّا يَجعَلُهَا أَثَرًا مِن بَعدِ عَين, كَأَنَّهَا عَبَثُ الأَطفَال!!
الذِي يَقَعُ لِلمُسلِمِينَ فِي بُورمَا, وَالذِي يَقعُ لِلمُسلِمِينَ فِي العِراقِ, وَمِن قَبلُ فِي أفغَانِستَان, وَاليَوم فِي سُورِيَّا, وَالذِي يَقَعُ لِلمُسلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ فِي بِقَاعِ الأَرضِ, أَعظَمُ وَأَعظَمُ مِنَ الهَجمَةِ التَّتَرِيَّةِ الأُولَى، فَأَينَ المُسلِمُون؟!
مُنشَغِلُونَ بِأزمَةٍ هُنَا وَحُرِّيَّةٍ هُنَالِك, وَثَوْرَاتٍ مُتَعَاقِبَات!! لَا يَلتَفِتُونَ إِلَى صَالحِهِم, وَلَا يُرَكِّزُونَ علَى مُستَقبَلِهِم, وَتَأَمَّل...
يَقُولُ ابنُ الأَثِير مُبَيِّنًا أَنَّ الاكتِسَاحَ المَغُولِيَّ مَنَحَ المُغِيرِينَ مِنَ التَّتَر سِلَاحًا نَفسِيًا خَطِيرًا؛ الرُّعبُ الذِي كَانَ يَنقَضُّ علَى خُصُومِهِم مِنَ الدَّاخِلِ فَيَهزِمُهُم قَبلَ أَنْ تَلتَمِعَ السُّيوف أَمَامَ عُيونِهِم!!
إِنَّ الرُّعبَ وَالخَوفَ السَّيفُ الأَكثَرُ حِدَّة, الذِي كَانَ يَذبَحُ فِيهِم القُدرَةَ علَى الحَرَكَةِ.
قَالَ الرَّجُل مُؤَرِّخًا:
«حَكَى لِي عَنهُم حِكَايَاتٍ يَكَادُ سَامِعُهَا يُكَذِّبُ بِهَا الثِّقَات؛ مِنَ الخَوفِ الذِي أَلقَى اللهُ سُبحَانَهُ فِي قُلوبِ النَّاسِ مِنهُم، حَتَّى قِيل: إِنَّ الرَّجُلَ الوَاحِدَ مِنَ التَّتَرِ كَانَ يَدخُلُ القَريَةَ أَوْ الدِّربِ، وَبِهِ جَمعٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَا يَزالُ يَقتُلُهُم وَاحِدًا بَعدَ وَاحِد، لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إِلَى ذَلِكَ الفَارِس مَعَ كَثرَتِهِم!!
لَقَد بَلَغَنِي أَنَّ إِنسَانًا مِنهُم أَخَذَ رَجُلًا مِنَ المُسلِمِينَ، وَلَم يَكُن مَعَ التَّتَرِيِّ مَا يَقتُلُهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: ضَع رَأسَكَ علَى الأَرضِ وَلَا تَبرَح –إِيَّاكَ أَنْ تَقُوم!!-؛ فَوَضَعَ رَأسَهُ عَلَى الأَرضِ، وَمَضَى التَّتَرِيُّ فَأَحضَرَ سَيفًا، وَقَتَلَهُ بهِ وَهُو يَنتَظِرُهُ!!
وَحَكَى لِي رَجُلٌ قَالَ: كُنتُ أَنَا وَمَعِي سَبعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فِي طَريقٍ، فَجَاءَنَا فَارِسٌ مِنَ التَّتَرِ، وَقَالَ لَنَا: حتَّى يُكَتِّفَ بَعضُنَا بَعضًا، فَشَرَعَ أَصحَابِي يَفعَلُونَ مَا أَمَرَهُم!!
فَقُلتُ لَهُم: هَذَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَلِمَ لَا نَقتُلُهُ وَنَهرُبُ؟
فَقَالُوا: نَخَاف
فَقُلتُ: هَذَا يُريدُ قَتلَكُم السَّاعَة، فَنَحنُ نَقتُلُه، لَعَلَّ اللهَ يُخَلِّصُنَا، فَوَاللهِ مَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَفعَلَ، فَأَخَذتُ سِكِّينًا وَقَتَلتُه، وَهَرَبنَا فَنَجَونَا», مِن أَثَرِ الشَّائعَات, لَبَثِّ الرُّعبِ فِي قُلوبِ أَبنَاءِ المُجتَمَع!!
أمْسِكُوا أَلسِنَتَكُم يَرحَمُكُم الله, أَقبِلُوا علَى شَأنِكُم
ابذُلُوا المَجهُودَ لِرِفعَةِ وَطَنِكُم وَالحِفَاظِ عَليهِ, إِنَّهُ يُغَرَّب!!
وَطَنُكُم يُغَرَّب!! يُقصَدُ مَحوُ هُوِيَّتِهِ الإِسلَامِيَّة, مَحوُهَا تَمَامًا؛ لِكَي يَكُونَ مُجتَمعًا جَدِيدًا علَى نِظَامٍ جَدِيدِ يتبَعُ لِلنِّظَام العَالَمِي الجَدِيد... أَلَا تَنتَبِهُون؟!
وَيحَكُم أَلَا تُبصِرُون؟!! مَا لَكُم تَنظُرُونَ وَلَا تُبصِرُون؟!!
اتَّقُوا اللهَ رَبَّ العَالمِينَ, وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ علَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِين.