((الحمَّادون))
((خطبة الجمعة 22 من صفر 1437هـ الموافق
4-12-2015م))
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ،
وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ
سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
–صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ
كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ –صلى
الله عليه وعلى آله وسلم-، شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،
وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فالجُهَّال بالله وأسمائهِ
وصفاته،المُعطِّلون لحقائقها، يبَغِّضُون الله إلى خلقهِ ويقطعون عليهم طريق محبتهِ
والتوددِ إليه بطاعتهِ من حيث لا يعلمون، ومن أمثلةِ ذلك؛ أنهم يُقرِّون في نفوسِ
الضعفاء أنَّ الله –سبحانه-لا تنفع معه طاعة؛ وإنْ طال زمانها وبالغ العبد
وأتى بها بظاهره وباطنه، وأنَّ العبد ليس على ثقةٍ ولا أمنٍ من مكره بل شأنه –سبحانه-
أنْ يأخذ المطيعَ المتقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والطاعة إلى الشرك
والمزمار، ويقلِّب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر، ويَرْوون في ذلك آثارًا
صحيحةً لم يفهموه، وباطلةً لم يقُلها المعصوم، ويزعمون أنَّ هذا حقيقةُ التوحيد،
ويَتْلون على ذلك قوله –تعالى-: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23].
وقوله –جلَّ
وعلا-: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وقوله –سبحانه-: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
ويُقيمُ هؤلاء إبليسَ حجةً
لهم على هذه المعرفة، وأنه كان طاووسَ الملائكة وأنه لم يترك في السماء رُقعةً ولا
في الأرضِ بُقعة إلا وله فيها سجدةٌ أو ركعة،ولكن جَنَا عليه جاني القدر، وسَطَا
عليه الحكم فقلب عينه الطيبة وجعلها أخبث شيء، حتى قال بعض عارفيهم: ((إنك ينبغي
أن تخاف الله كما تخاف الأسدَ الذي يثب عليك بغير جُرمٍ منك، ولا ذنبٍ أتيته
إليه)) .
ويحتجون بقول النبي –صلَّى
الله عليه وعلى آله وسلم-وهو في ((الصحيحين)): ((إن
أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقَ عليه
الكتاب، فيعملَ بعملِ أهل النار فيدخلها)).
ويروون عن بعض السلف: ((أكبرُ الكبائر الأمنُ من مكرِ الله، والقنوتُ من رحمة
الله)).
وذكر الإمام أحمد –رحمه
الله- عن عون ابن عبد الله أو غيره، أنه سمع رجلًا يدعو: ((اللهم لا تؤمِّنى مكرك))، فأنكر ذلك وقال: ((قل:
اللهم لا تجعلني ممن يأمن مكرك)).
وبنوا هذا على أصلهم الباطل
وهو إنكار الحكمة والتعليل والأسباب، وأنَّ الله لا يفعل لحكمةٍ ولا لسبب، وإنما
يفعل بمشيئةٍ مجردةٍ من الحكمة والتعليل والسبب، فلا يفعلُ لشيء ولا بشيء، وأنه
يجوز عليه أن يُعذِّبَ أهلَ طاعته أشد العذاب، ويُنَعِّم أعداءه وأهل معصيته بجزيل
الثواب، وأنَّ الأمرين بالنسبة إليه سواء، ولا يُعلم امتناع ذلك إلا بخبرٍ من
الصادقِ ألا يفعله، فحينئذٍ يُعلم امتناعه لوقوع الخبر بأنه لا يطول، لا لأنه في
نفسهِ باطلٌ وظلم، فإنَّ الظلم في نفسهِ مستحيل، فإنه غير ممكن، بل هو بمنزلةِ جعل
الجسم الواحد في مكانين في آنٍ واحد، وبمثابة الجمعِ بين الليل والنهار في ساعةٍ
واحدة، وجعْلِ الشيءِ موجودًا معدومًا معًا في آنٍ واحد، فهذا حقيقة الظلم عندهم.
فإذا رجع العامل إلى نفسه
قال: عندما يأخذُ بهذه المقولة الباطلة، ويعتقدُ هذا الاعتقادَ الذي لا دليل عليه
من الكتاب ولا من السُّنَّة، بل أدلة الكتاب والسُّنة تنسفهُ نسفًا وتمحقُهُ محقًا،
إذا رجع العامل إلى نفسه؛ قال: من لا يستقر له أمر، ولا يُؤمن له مكر، كيف يُوثق
بالتقربِ إليه، وكيف يُعوَّل على طاعتهِ واتباعِ أمرهِ وليس لنا سوى هذه المدة
اليسيرة، فإذا هجرنا فيها اللذات، وتركنا الشهوات وتكلفنا أثقال العبادات، وكنا مع
ذلك على غير ثقةٍ منه أن يُقلِّب علينا الإيمان كفرًا والتوحيد شركاً والطاعة
معصيةً والبرَّ فجورًا ويُديم علينا العقوبات، كنا خاسرين في الدنيا والآخرة.
فإذا استحكم هذا الاعتقاد في
قلوبِهم وتخمَّر في نفوسهم، صاروا إذا أُمروا بالطاعات وهجْرِ الملذات بمنزلة
إنسان جعل يقول لولد: ((معلمك؛ إنْ كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه، ربما أقام لك
حجةً وعاقبك، وإن كسِلتَ وبَطلَتَ وتعطلت، وتركت ما أمرك به، ربما قربك وأكرمك))،
فيُودِعُ بهذا القول قلب الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم ولا وعده على
الإحسان، وإنْ كبِرَ الصبي وصلح للمعاملات والمناصب قال له : ((هذا سلطان بلدنا،
يأخذ اللص من الحبس، فيجعله وزيرًا وأميرًا ويأخذ الكَيِّس المحسن ليُشغِّله ويخلِّده
في الحبس وليقتله ويصلبه))، فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانهِ وجعله علي غير ثقةٍ
من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه، وجعله يخافه مخافة الظالم، الذي يأخذ المحسن
بالعقوبة، ويأخذ البريء بالعذاب، فأفلس هذا المسكين من اعتقادِ كوْنِ الأعمال
نافعةً أو ضارةً، فلا بفِعلِ الخير يستأنس، ولا من فِعل الشرِّ يستوحش .
وهل في التنفيرِ عن الله
وتبغيضهِ إلى عباده أكثرُ من هذا؟!
ولو اجتهد الملاحدة على
تبغيض الدينِ والتنفير عن الله؛ لمَا أتَوا بأكثر من هذا .
وصاحب هذه الطريقة يظنُّ أنه
يقرر التوحيد والقدر، ويردُّ على أهل البدع، وينصرُ الدين، ولعَمْرُ الله: العدو
العاقل أقلُّ ضررًا من الصديقِ الجاهل، وكُتُبُ الله المنزلة كلها ورسله كلهم
شاهدةٌ بضد ذلك، ولاسيما القرآن ؛ فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا إليه الله
ورسوله، الذي دعوا به الناس لصَلَح العالَمُ صلاحًا لا فسادَ معه .
فالله –سبحانه-أخبر
أنه إنما يعامل الناس بكسْبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخافُ المحسِنُ لديه ظلمًا
ولا هضمًا، ولا يخاف بخسًا ولا رهقًا، ولا يُضيع عمل المُحسن أبدًا، ولا يُضيع على
العبد مثقال ذرةٍ، ولا يظلمها {وَإِن تَكُ حَسَنَةً
يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]،
وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ جازاه بها، ولا يُضيِّعها عليه، وأنه يجزي بالسيئةِ
مثلَها، ويُحبطُها بالتوبةِ والندمِ والاستغفار والحسناتِ والمصائب، ويجزي بالحسنةِ
عشر أمثالها، ويضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرةٍ.
وهو تعالى الذي أصلحَ
الفاسدين، وأقبلَ بقلوبِ المعرضين، وتابَ على المذنبين، وهدى الضالين، وأنقذَ
الهالكين، وعلَّمَ الجاهلين، وبصَّرَ المُتحيرين، وذكَّرَ الغافلين، وآوى
الشاردين، وإذا أوقعَ عقابًا أوقعه بعد شدةِ التمرُّد والعتُّو عليه، ودعوة العبد
إلى الرجوعِ إليه، والإقرارِ بربوبيته وحقِّهِ مرةً بعد مرةً، حتى إذا أيس من
استجابتهِ والإقرارِ بربوبيتهِ ووحدانيتهِ أخذه ببعضِ كُفره، وعتُّوهِ وتمرُّدِه،
بحيث يعذرُ العبدُ من نفسه، ويعترفُ بأنه –سبحانه-
لم يظلمه، وأنَّ العبدَ هو الظالم لنفسه،كما قال تعالى عن أهل النار: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ}
[المُلك: 11].
وقال عن من أهلكهم في الدنيا
إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ فَمَا
زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 14-15].
وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لمَّا رأوها: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا
ظَالِمِينَ} [ن: 29].
قال الحسن: ((لقد دخلوا النار وإنَّ حمدَهُ لفي قلوبهم؛ ما وجدوا
عليه تعالى حجةً ولا سبيلًا))، ولهذا قال –تعالى-:
{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚوَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]، فهذه الجملة: {وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في موضع الحال، أي قُطع دابرهم حال كونه –سبحانه-محمودًا
على ذلك، فقطع دابرهم قطعًا مصاحبًا لحمده، فهو قطعٌ وإهلاكٌ يُحمد عليه الربُّ تعالى
لكمالِ حكمتهِ وعدلهِ، ووضعه العقوبةَ في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضْعُها
في الموضع الذي يقول من عَلِمَ الحال، لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليقُ
به إلا العقوبة؛ ولهذا قال عَقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى
الجنة وأهل الشقاء إلى النار: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم
بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]،
فحذف فاعل القول إشعارًا بالعموم وأنَّ الكون كله قال: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، لمَّا شاهدوا من حكمتهِ -تبارك وتعالى- وفضله
ما تُقرُّ به القلوب وتعترف به الأفئدة؛ ولهذا قال في حق أهل النار: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72]، كأن
الكون كله يقول ذلك، حتى تقوله أعضاؤهم، وأرواحهم، وأرضهم، وسماؤهم، فقد حذف فاعل
القول إشعارًا بالعموم، وهو –سبحانه- يخبر أنه إذا أهلك أعداءَه أنجى أولياءَهُ، ولا
يعمُّهم بالهلاك بمحضِ المشيئة.
ولما سأله نوحٌ نجاةَ ابنه
أخبر أنه يُغرقه بسوءِ عملهِ وكفرهِ، ولم يقل إني أغرقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا
سبب ولا ذنب، وقد ضمن –سبحانه- زيادةَ الهداية للمجاهدين في سبيلهِ ولم يُخبر
أنه يضلهم ويُبطلُ سعيَهم.
وكذلك ضَمِن زيادة الهداية
للمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يُضلُّ إلا الفاسقين الذين يَنقضون
عهده من بعد ميثاقهِ، وأنه إنما يُضِلُّ من آثرَ الضلال واختاره على الهُدى، فيطبع
ربنا –تبارك وتعالى- حينئذٍ على سمعهِ وقلبه، وأنه تعالى يُقلِّب
قلب من لم يرضَ بهداه إذا جاءه الهدى ولم يؤمن به ودفَعَه وردَّه، فيقلِّب فؤاده
وبصره عقوبةً له على ردِّه ودفْعِه لما تحققه وعرفه، وأنه –سبحانه-
لو عَلِمَ في تلك المحال التي حَكم عليها بالضلال والشقاء خيرًا لأفهمها وهداها،
ولكنها لا تصلحُ لنعمتهِ ولا تليقُ بها كرامتُهُ.
وقد أزاح –سبحانه-
العلل وأقام الحجج ومكَّنَ من أسباب الهداية وأنه لا يُضلُّ إلا الفاسقين
والظالمين، ولا يطبعُ إلا على قلوبِ المعتدين ولا يُرِكسُ في الفتنةِ إلا
المنافقين بكسبهم، وأن الرَّيْنَ الذي غطَّى به قلوب الكفار هو عينُ كسبهم
وأعمالهم كما قال –جلَّ وعلا-: {كَلَّا بَلْ رَانَ
عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. وقال عن
أعدائه من اليهود: {ووَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ
طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وأخبر أنه لا يُضل
من هداه حتى يُبيِّنَ له ما يتقى، فيختار لشقوته وسوء طبيعته الضلال على الهدى
والغي على الرشاد، ويكون مع نفسه وشيطانه وعدوِّ ربه عليه .
وأما المكرُ الذي وصف تعالى به
نفسه, فهو مجازاته للماكرين بأوليائه ورُسله, فيقابلُ مكرَهم السيئ بمكرِه الحسن,
فيكون المكرُ منهم أقبحَ شيء, ومنه أحسنَ شيء لأنه عدلٌ ومجازاة، وكذلك المخادعةُ
منه جزاءٌ على مخادعةِ المخادعين لرُسله وأوليائه, فلا أحسنَ من تلك المخادعة
والمكر.
وأما كَوْنُ الرجل يعملُ
بعمل أهل الجنة حتى ما يكونَ بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب, فإنَّ هذا
عِمَلَ بعملِ أهل الجنةِ فيما يظهر للناس, ولو كان عملًا صالحًا مقبولًا للجنةِ قد
أحبه الله ورضيه لم يُبطله عليه.
وقوله: ((لم يبق بينه وبينها إلا ذراع)): يُشْكل على
هذا التفسير, فيقال: لمَّا كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عملهِ
حتى يتمَ له, بل كان فيه دسيسةٌ كامنة, وآفةٌ كامنةٌ في قلبهِ وروحهِ وضميره،
ولكنه خُذِلَ بها في آخرِ عُمُرِه, فخانته تلك الآفةُ والداهيةُ الباطنة في وقتِ
الحاجة, فرجع إلى موجبها وعملت عملَها, ولو لم يكن هناك غِشٌ وآفةٌ لم يَقلب الله تعالى
إيمانه, لقد أورده مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سببٍ منه يقتضي إفساده عليه, والله
يعلمُ من سائر العباد ما لا يعلمهُ بعضهُم من بعض.
وأما شأن إبليس: فإن الله –سبحانه-قال
للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
[البقرة: 30], فالربُّ تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما
لا يعلمهُ الملائكة, فلما أُمِروا بالسجود, ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة
والخشية والانقياد, فبادروا إلى الامتثال, وظهر ما في قلبِ عدوه من الكِبر والغش
والحسد, فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
وأما خَوف أوليائه من مكرهِ
فحق, فإنهم يخافون أنْ يخذلَهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء, فخوفُهم من
ذنوبِهم ورجاؤهم لرحمتهِ -جلَّ وعلا-, وأما قوله: {أَفَأَمِنُواْ
مَكْرَ اللّهِ}, إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يَعصي
ويأمنُ مقابلة الله له على مكرِ السيئات بمَكْرهِ به إلا القومُ الخاسرون، والذي
يخافه العارفون بالله من مكرهِ أن يؤخرَ عنهم عذاب الأفعال فيحصُلُ منهم نوعُ
اغترار, فيأنسوا بالذنوب, فيجيئهم العذاب على غِرِّةٍ وفترة.
وأمرٌ آخر: وهو أن يغفلوا عنه وينسوا ذكره فيتخلى عنهم إذا تخلوا
عن ذِكرهِ وطاعته, فيُسرع إليهم البلاء والفتنة، فيكون مُكْرُه بهم تخليَّهُ عنهم.
وأمرٌ آخر: أنْ يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم,
فيأتيهم المكرُ من حيث لا يشعرون.
وأمرٌ آخر: أنْ يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه, فيُفتنون
به, وذلك مكر.
والمقصود من هذا: أنه لابد من النظرِ إلى الأعمال والصدق فيها، وأنَّ
المرء إنما يُجازى على ما قَدَّم من خيرٍ أو شر، وينبغي على العبد أن يجتهدَ على
معرفة ربه بأسمائه وصفاته،كما دلَّ على ذلك كتاب ربه، وما ثبت من سُنة نبيه –صلَّى
الله عليه وآله وسلم- وبابُ الأسماء والصفات من أرسخِ وأكملِ وأتمِ وأشملِ أبواب
الدين.
واللهُ رب العالمين أخبر أنه
خلق سبع سماوات وخلقَ من الأرضِ مثلهن وجعلَ الأمر الكوني والأمر القدري متنزلًا
بين السماوات والأرض؛ ليعلمَ الناس أنَّ الله –تبارك
وتعالى- هو على كل شيءٍ قدير، فالله –جلَّ وعلا- إنما
خلقَ هذا الخلق كلَّه من أجل عبادته، والخلْقُ لا يعبدونه حق عبادته حتى يعرفوه؛بل
الناس أعداء ما جهلوا، وهم لا يعرفونه إلا بأسمائه وصفاته.
والحمدُ الذي هو من مقتضياتِ
محبة الله –جلَّ وعلا- لا يمكن أن يتحصل عليه المرء إلا بمعرفة
الأسماءِ الحسنى والصفات العُلى، والحمدُ أوسع الصفات وأعمُّ المدائح، والطرقُ إلى
العلمِ به في غايةِ الكثرة، والسبيلُ إلى اعتباره في ذرَّاتِ العالَمِ وجزئياته،
وتفاصيل الأمر والنهى واسعةٌ جدًا؛ لأنَّ جميعَ أسمائهِ تعالى حمدٌ، وجميع صفاته
حمدٌ، كما أنَّ أفعالَه حمدٌ، وأحكامَهُ حمدٌ، وعدلَهُ حمدٌ، وانتقامَهُ من أعدائه
حمدٌ، وفضلَهُ في إحسانه إلى أوليائه حمدٌ، فكما أنَّ الخلق والأَمر إِنما قام
بحمده ووُجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هي حَمْدُه، فحمدُه سبب ذلك وغايته
ومظهره وحامله، فحَمْدُه
تعالى روح كل شيء، وقيام كل
شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره فيها أَمرٌ مشهودٌ بالأَبصار
والبصائر.
فمن الطُّرق الدالة على شمول
معنى الْحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفةُ أَسمائهِ وصفاته، وإقرارُ العبدِ
بأَن للعالم إِلهًا حيًا جامعًا لكلِّ صفةِ كمال واسمٍ حسن وثناءٍ جميل وفِعلٍ
كريم، وأَنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة، والعِلم المحيط، والسمع الذي
وسع الأَصوات، والبصر الذي أَحاط بجميعِ المُبصرات، والرحمةُ التي وسعت جميع
المخلوقات، والمُلكُ الأَعلى الذي لا يخرجُ عنه ذرةٌ من الذرات، والغنى التام
المطلق من جميعِ الجهات، والحكمةُ البالغةُ المشهودُ آثارها في الكائنات، والعزَّةُ
الغالبةُ بجميع الوجوه والاعتبارات، والكلماتُ التاماتُ النافذات التي لا يجاوزهن
برٌ ولا فاجرٌ من جميع البريَّات، واحدٌ لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته، ولا
شبيه له في ذاتهِ ولا في صفاتهِ ولا في أَفعالهِ، وليس له من يَشْرَكه في ذرةٍ من
ذرات ملكه، أَو يخلفُهُ في تدبير خلقه، أَو يحجبهُ عن داعيه أو مؤمِّليه و سائليه،
أَو يتوسطُ بينهم وبينه بتلبيسٍ أَو فِريةٍ أَو كَذِب كما يكون بين الرعايا وبين
الملوك، ولو كان كذلك لفسدَ نظامُ الوجود وفسد العالَمُ بأَسْره: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:
22].
فلو كان معه آلهةٌ أُخرى كما
يقول أَعداؤه المبطلون؛ لوقع من النقص في التدبير وفساد الأَمر كله ما لا يَثبُت
معه حال، ولا يصلُحُ عليه وجود.
ومن أَعظمِ نعمهِ علينا وما
استوجب حمد عباده له أَن جعلنا عبيدًا له خاصة، ولم يجعلنا ربُّنا منقسمينَ بين
شركاءَ متشاكسين.
والله –سبحانه-
لكمال أَسمائهِ وصفاتهِ؛ موصوفٌ بكلِّ صفة كمال، منزهٌ عن كل نقص، له كل ثناءٍ حَسن
ولا يَصْدُرُ عنه إِلا كلُّ فعلٍ جميلٍ، ولا يُسمى إِلا بأَحسن الأَسماءِ، ولا يُثنى
عليه إِلا بأَكملِ الثناءِ، وهو المحمود المحبوب المعظَّم ذو الجلال والإِكرام على
كل ما قدَّره وخلقه، وعلى كلِّ ما أَمر به وشرَعَهُ.
ومَن كان له نصيبٌ من معرفةِ
أَسمائه الحُسنى واستقرارِ آثارِها في الخلقِ والأَمر، رأَى الخلقَ والأَمر مُنتظميْن
بها أَكمل انتظام، ورأَى سريان آثارِها فيهما، وعَلِم بحسبِ معرفته بالأسماء
والصفات ما يليق بكماله وجلاله أَنْ يفعله وما لا يليق، فاستدل بأَسمائه على ما
يفعله وما لا يفعله، فإِنه لا يفعل خلاف مُوجب حمده وحكمته.
وكذلك يعلمُ ما يليق به أَن
يأْمر به ويُشرِّعَهُ مما لا يليق به، فيعلم أَنه لا يأْمرُ بخلافِ مُوجب حمده
وحكمته، فإِذا رأَى بعض الأَحكام جورًا وظلمًا أَو سفهًا وعبثًا ومفسدةً أَو ما لا
يوجب حمدًا وثناءً؛ فليعلم أَنه ليس من أَحكامهِ ولا دينه، وأَنه بريءٌ منه
ورسوله، فإِنه إِنما أَمر بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا بالمفسدة، وبالحكمة لا
بالعبث والسَّفه، وإِنما بعث رسولَهُ بالحنيفية السَّمْحَة لا بالغلظة والشدة،
وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإِنه أَرحم الراحمين، ورسولهُ رحمةٌ مهداةٌ إِلى
العالمين، ودينهُ كلُّه رحمة، وهو نبي الرحمة وأُمته الأُمة المرحومة، وذلك كله مُوجَبُ
أَسمائه الحسنى وصفاته العُليا وأفعاله الحميدة، فلا يُخبرُ عنه إِلا بحمده ولا يُثنى
عليه إِلا بأَحسن الثناءِ كما لا يُسمَّى إِلا بأحسن الأسماءِ.
وقد نبَّه –سبحانه-
على شمولِ حمدهِ لخلقهِ وأَمره؛ بأن حَمِدَ نفسه في أَول الخلق وآخره وعند الأَمر
والشرع، وحمِدَ نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمِدَ نفسه على تفرّده بالإلهية وعلى
حياتهِ، وحمِدَ نفسَهُ على امتناع اتصافه بما لا يليق بكلامه من اتخاذِ الولد
والشريك وموالاةِ أَحدٍ من خَلْقِهِ لحاجته إِليه، وحمِدَ نفسَهُ على علُّوِهِ
وكبريائه، وحَمِدَ نفسه في الأُولى والآخرة، وأخبر عن سريانِ حمدهِ في العالمِ العلوي
والعالم السفلى، ونبَّه على هذا كله في كتابه وحمد نفسه عليه، فنوَّع حمده وأسباب
حمده، وجمعها تارة وفرقها أُخرى؛ ليتعرفَ إِلى عباده وليُعرَّفَهم كيف يحمدونه
وكيف يثنون عليه، وليتحببَ إليهم بذلك، ويُحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.
قال-جلَّ وعلا-: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
[الفاتحة: 2-4].
وقال -جلَّ وعلا-: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ثُمَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لهُ عِوَجاً * قَيِّماً
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِين}
[الكهف: 1-2].
وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ
مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرِ} [سبأ: 1].
وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ
السَّمَواتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِى أَجْنَحَةٍ مَثْنَى
وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].
وقال تعالى: {وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا
هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].
وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إلَهَ إِلا
هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[غافر: 65].
وقال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ
وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ
تُظْهِرُونَ} [الروم: 17-18].
وأخبر عن حَمْدِ خَلْقِهِ له
بعد فصْلِهِ بينهم وبعد الحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته
بعقابه وإهانته فقال –جلَّ وعلا-: {وَقُضِى
بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيْلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الزمر: 75].
وأخبر عن حَمْدِ أهل الجنة
له وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أنَّ أهل النار لم يدخلوا النار إلا بحمده،
فقال أهل الجنة: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ
هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]، و{دَعْواهُمْ
فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلامٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ
أَن الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
وقال تعالى عن أهل النار: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ
أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً
فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم
مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص: 74-75].
وقال –جلَّ
وعلا-: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}
[المُلك: 11].
وشَهِدوا على أنفسِهم بالكُفر
وبالظلم وعلِموا أنهم كانوا كاذبين في الدنيا، مُكذبين بآيات ربهم، مشركين به
جاحدين لإلهيته، مُفترين عليه، وهذا اعترافٌ منهم بعدله فيهم، وأَخْذِهم ببعض حقه
عليهم، وأنه غير ظالمٍ لهم، وأنهم إنما دخلوا النار بعدْلهِ وحمْدِهِ، وإنما عُوقبوا
بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما تقول الجبرية.
وتفصيلُ هذه الحكمة مما لا
سبيل للعقولِ البشرية إلى الإحاطةِ به ولا إلى التعبيرِ عنه، ولكنْ بالجُملة؛ فكل
صفةٍ عُليا واسمٍ حسنٍ وثناءٍ جميل، وكلُّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيحٍ وتنزيهٍ وتقديسٍ
وجلالٍ وإكرام فهو لله -عز وجل- على أكملِ الوجوهِ وأتمِّها وأدومِها، وجميعُ ما يُوصف
به ويُذكرُ به ويُخبر عنه به؛ فهو مَحامدُ له وثناءٌ وتسبيحٌ وتقديسٌ، -فسبحانه
وبحمده- لا يُحصِي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه؛ بل هو كما أثنى على نفسهِ وفوق ما يثني
به عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخرًا حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، كما ينبغي
لكرمِ وجهه وعزِّ جلالهِ ورفيعِ مجدهِ وعلُّو جَدِّه.
فهذا تنبيهٌ على أحد نوعي
حمدهِ، وهو ((حمد الصفات والأسماء)).
والنوع الثاني:
((حمد النعم والآلاءِ)):
وهذا مشهودٌ للخليقة برها
وفاجرها، مؤمنِها وكافرها، من جزيلِ مواهبه وسعة عطاياه وكريمِ أياديه وجميلِ
صنائعه وحُسنِ معاملته لعباده، وسعةِ رحمته لهم، وبرِّهِ ولطفهِ وحنانه، وإجابتهِ
لدعواتِ المضطرين، وكشفِ كُربات المكروبين، وإغاثةِ الملهوفين، ورحمتهِ للعالمين،
وابتدائهِ بالنَّعمِ قبل السؤال ومن غير استحقاق؛ بل ابتداءً منه بمجردِ فضلهِ
وكرمهِ وإحسانهِ، ودفعِ المِحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفِها بعد وقوعها، ولطفه
تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغهِ من ذلك إلى ما لا
تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّتَهُ وعباده إلى سُبل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن
الدفاع، وحمايتهم عن مراتعِ الآثام.
وحبَّب إليهم الإيمان وزيَّنه
في قلوبهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين وكتبَ في
قلوبِهم الإيمان، وأيَّدهم بروحٍ منه، وسمَّاهم المسلمين قبل أنْ يخلقَهم، وذكرَهم
قبل أن يذكروه، وأعطاهم قبل أنْ يسألوه، وتحبَّبَ إليهم بنعمهِ مع غناهُ عنهم وتبغُضهم
إليه بالمعاصي وفقرهم إليه.
ومع هذا كله فاتخذ لهم دارًا
وأعد لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات
وأودعها من النعيم والحبرةِ والسرورِ والبهجةِ ما لا عينٍ رأت ولا أذنٍ سمعت ولا
خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرُّسل يدعونهم إليها، ثم يسَّر لهم الأسباب التي
تُوصِلَهم إليها وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسيرِ في هذه المدةِ القصيرة جدًا
بالإضافةِ إلى بقاءِ دارِ النعيم، وضمنَ لهم إن أحسنوا أن يُثيبَهم بالحسنة عشرًا،
وإن أساؤوا واستغفروه أنْ يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو عنهم ما جَنَوْه من السيئات
بما يفعلونه بعدها من الحسنات، وذَكَّرَهم بآلائه وتعرَّف إليهم بأسمائه، وأمرهم
بما أمرهم به رحمةً منه بهم وإحسانًا؛ لا حاجةً منه إليهم.
ونهاهم عما نهاهم عنه حمايةً
وصيانةً لهم، لا بُخلاً منه عليهم، وخاطبهم بألطفِ الخطاب وأحلاه، ونصحَهم بأحسنِ
النصائح، ووصَّاهم بأكملِ الوصايا، وأمرهم بأشرفِ الخصال، ونهاهم عن أقبحِ الأقوال
والأعمال، وصرَّف لهم الآيات، وضربَ لهم الأمثال، ووسَّع لهم طرق العلمِ به
ومعرفته، وفتح لهم أبوابَ الهداية، وعرَّفهم الأسبابَ التي تُدنيهم من رِضاه وتُباعدُهم
عن غضبهِ.
ويخاطبهم بألطف الخطاب ويُسميهم
بأحسنِ الأسماء كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}
[النور: 31]، {يَا عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}
[الزمر: 53]، {قَل لِعِبَادِى} [ابراهيم: 31]، {وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى} [البقرة: 186].
فيخاطبهم بخطاب
الوداد والمحبة والتلطف كقوله:
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ
مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلْأَرْضَ فِرَٰشًا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءًۭ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَأَخْرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ
رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا۟ لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21- 22].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ
هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ
فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
{يَأَيهَا الإِنْسَانُ
مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعدَلَكَ} [الانفطار: 6- 7].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
(102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ
شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ} [آل عمران:
102- 103].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا
مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ
وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ
ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ
خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا
أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ
وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
* وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن
يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
[الأنفال: 24- 26].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ
مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73- 74].
وتحت هذا الخطاب الذي قال
فيه ربنا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي
وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:
50]، تحت هذا الخطاب: إني عاديت إبليس وطردته من سمائي وباعدته من قربى إذ لم يسجد
لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداءٌ لكم.
فليتأمل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب
وشدة لصوقهِ بالقلوب والتباسهِ بالأرواح، وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه
لعباده بالتودد والتحنُّنِ واللطف والنصيحة البالغة، وأعلم –سبحانه-
عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل وأفضل المنازل وأجلَّ العلوم والمعارف.
{إِن
تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا} [المائدة: 3].
والله –سبحانه-
يتنزه إلى عباده من مواضع الظنة والتُّهَمة التي نسبها إليه من لم يعرفه حق معرفته
ولا قدره حق قدره من تكليف عباده ما لا يقدرون عليه، ولا طاقةً لهم بفعلهم البتة،
وتعليلهم إن شكروه وآمنوا به .
وخلقَ السماوات والأرض وما
بينهما لا لحكمةٍ ولا لغاية، وأنه لم يخلق خلْقه لحاجةٍ منه إليهم، ولا ليتكثر بهم
من قلة ولا ليتعزز بهم، كما قال –جلَّ وعلا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ
أَن يُطْعِمُونِ (57)} [الذاريات: 56].
فأخبر أنه لم يخلق الجن
والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جودًا وإحسانًا ليعبدوه
فيربحوا هم عليه كل الأرباح: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7].
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا
فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
[الروم: 44].
ولمَّا أمرهم بالوضوءِ
والغسل من الجنابة الذي يحط عنهم أَوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاتهم، قال –جلَّ
وعلا-: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
وقال في الأضاحيِّ والهدايا: {لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا
وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
وقال عقيب أمرهِم بالصدقة
ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ
وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [القرة: 267].
يقول –سبحانه-: إني غنيٌّ عما تنفقون أن ينالني منه شيء، حميدٌ مستحق
المحامد كلها، فإنفاقكم لا يسدُّ منه حاجة ولا يُوجب له حمدًا، بل هو الغنيُّ
بنفسه الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته وإنفاقكم إنما نفعه لكم وعائدته عليكم.
ومن المُتعينِ على من لم يُباشر
قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه، وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها، من
المُتعينِ عليه أنْ يُعالج قلبَهُ بالتقوى، وأنْ يستفرغُ منه المواد الفاسدة التى
حالت بينه وبين حظه من ذلك، وأنْ يتعرضَ إلى الأسباب التي يناله بها؛ من صِدق
الرغبة واللجئ إلى الله أن يحيى قلبه ويزكيه ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب
الميت لا يذوق طعم الإيمان ولا يجد حلاوته ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا
ولا في الآخرة .
من استقرئ الأسماء الحسنى
وجدها مدائح وثناءات تقصر بلاغات الواصفين عن بلوغ كُنهها، وتعجز الأوهام عن
الإحاطة بالواحد منها ومع ذلك فلله -سبحانه- محامدُ ومدائح وأنواع من الثناء لم
تتحرك بها الخواطر، ولا هجست في الضمائر، ولا لاحت لمتوسم ولا سنحت في الفكر.
ففي دعاء أعرف الخلق بربه –تعالى-وأعلمِهم
بأسمائه وصفاته ومحامدهِ: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ
اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ أَوْ
عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أوْ اسْتأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ
عِنْدَكَ أَن تَجْعَلَ الْقُرْآن رَبِيع قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاءَ حُزْنِي
وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّى().
وفى الصحيح عنه -صلَّى الله
عليه وآله وسلم- في حديث الشفاعة لما يسجد بين يدي ربه قال: ((فَيَفْتَحُ على من محامده بشيء لا أُحْسِنُهُ الآن))،
وكان يقول في سجوده: ((أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك
من عقوبتك وأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا
أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِكِ)).
اللهُ له الملك التام، ما
يخرج عنه شيء من الموجودات، أعيانُها وأفعالها، وله الحمدُ التام الذي وسع كل
معلوم وشمل كل مقدوم، ونسأل الله –تبارك وتعالى- أن يُعرِّفنا به بأسمائه الحسنى وصفاته
المثلى، وأن يُسكن قلوبَنا الحمد له والشكر له والإيمان به واليقين عليه، وأن يُحسن
ختامنا أجمعين.
وصلَّ الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وأصحابه ومن تَبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الحمد لله رب العالمين،
وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله –صّى الله عليه وعلى آله سلم- صلاةً وسلامًا دائمين
متلازمين إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد قال -جلَّ وعلا-: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28]، والحميد
صيغةُ مبالغةٍ على وزن فعيل، والحمدُ نقيضُ الذم، وهو أعمُّ وأصدقُ في الثناء على
المحمود من المدح ومن الشكر، وهو أوسع الصفات وأعم المدائح، ويأتي بمعنى فاعل –أي:
حامد-، وبمعنى مفعول –أي: محمود، فهو تعالى حامدٌ ومحمود.
وأما المعنى الشرعي للحميد
الذي هو من أسماء الله –جلَّ وعلا-، فالله -تبارك وتعالى- هو الحميد، له الحمد
كله، وهو الحميدُ الذي له جميعُ المحامد والمدائح في الدنيا والآخرة، فهو المحمودُ
في ذاتهِ وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنُها ومن الصفات أكملُها ومن
الأفعال أتمُّها وأحسنها، فإنها دائرةٌ بين الفضل والعدل، ليس فيها فعلٌ خالٍ عن
الحكمة والمصلحة، فلا يجري في أفعاله الغلط ولا يعترضه الخطأ، وهو تعالى المحمود
في شرعه، فإنه أكمل الشرائع وأنفعها لكل الخلائق، لما فيها من العدل والحكمة
والرحمة التي لا نظير لها.
وهو تعالى المحمود في قضائه،
وعلى أحكامه القدريةِ والشرعيةِ والجزائية في الأولى والآخرة، يُحمد عليها؛ لأنها
كلَّها حقٌ وعدل وهُدىً ورشد، منزهةٌ عن الشرِّ والعبث والظلم والنقص، وهو المحمود
على وحدانيته، وتعاليه عن الشريك والنظير، والولي من الذل، وهو الذي يجعل من يشاء
من عباده محمودًا، فيهبه حمدًا من عنده، فيحمده الخلق ويُثنون عليه، فمن كمال حمده
يجب ألا يُنسب إليه شرٌ ولا سوءٌ ولا نقصٌ في ذاته ولا في أسماءه ولا في أفعاله
ولا في صفاته.
وهو الذي يحمَدُ من يستحق
الحمد، فهو يصف من يستحق من عباده الصفات الكاملة بما يستحقه، ولهذا أثنى على
أنبيائهِ وأثنى على أوليائهِ، وهو المحمودُ بكل لسان، وعلى كل حال، فجميعُ
المخلوقات ناطقةٌ بحمده، من الجماداتِ والناطقات في جميعِ الأوقات على آﻻئهِ
وإنعامهِ وعلى كمالهِ وجلاله.
وقد افتتح سبحانه كتابه
القرآن الكريم بالحمد، فقال –جلَّ
وعلا-: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2].
وافتتح بعض السور فيه بالحمد
فقال في أول الأنعام:
{الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَجَعَلَ الظُّلُمَات وَالنُّور ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
وقال في أول الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]. وقال
في أول سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
وقال في أول فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ
وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].
وافتتح خلقه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}
[الأنعام: 1].
واختتم الخلق بالحمد فقال
بعد ما ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ
حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ۖ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:
75]. وقال –جلَّ وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ
وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 9-10].
فالحمد له -سبحانه-
أولُّهُ وآخره، وله الحمد في الأولى والآخرة –أي:
في جميع ما خلق، وما هو خالق-.
كما قال -سبحانه-: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ
إِلَّا هُوَ ۖلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ*وَلَهُ
الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
[القصص: 70].
وقال -سبحانه-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
وهو-سبحانه-المحمود في ذلك
كله، كما يقول المُصلى: ((اللهم ربنا لك الحمد، مِلأ
السموات ومِلأ الأرض، ومِلأ ما شئت من شيءٍ بعد)).
فهذه النصوص كلُّها دالةٌ
على شمول حمده –سبحانه-لخلْقِه وأمره، فهو –سبحانه-حمِدَ
نفسَهُ في أول الخلق وآخره، وعند الأمرِ والشرع، وحمِدَ نفسه على ربوبيته
للعالمين، وحمِدَ نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع
اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولدِ والشريك، وموالاةِ أحد من خلقه لحاجتهِ
إليه.
{وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖوَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111].
وحمِدَ نفسه على علوه
وكبريائه، كما قال –سبحانه-:{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاء
فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:
36-37].
وحمدَ نفسه في الأولى
والآخرة، وأخبر عن سريانِ حمدهِ في العالمِ العلوي والعالم السُّفلى، ونبَّه على
هذا كله في كتابهِ في آياتٍ عديدة، تدلُّ على تنوعِ حمدهِ –سبحانه-،
وتعددِ أسباب حمده، وقد جمعها الله في مواطن من كتابه، وفرَّقها في مواطن أخرى، ليتعرف
إليه عباده، وليعرفوا كيف يحمدونه، وكيف يُثنون عليه، وليتحببَ إليهم بذلك، ويحبهم
إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.
وقد ورد الحمد في القرآن
المجيد في أكثر من أربعين موضعًا، جُمع في بعضها أسباب الحمد، وفي بعضها ذُكرت
أسبابه مُفصلة.
فمن الآيات التي جمع فيها
أسباب الحمد: قوله –جلَّ وعلا-: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:
2]، وقوله: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ}
[القصص: 70].
وأما الآيات التي ذكر فيها
أسباب الحمد مُفصَّلة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا
لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، ففيها حمْدُه على نعمةِ دخول الجنة.
وقوله تعالى: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 28]، ففيها حمدُهُ على النصر على الأعداءِ والسلامة من شرهم.
وقوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، ففيها حمدهُ على نعمةِ التوحيد وإخلاص
العبادة لله –جلَّ وعلا-.
فهذه بعض الأسباب المُفصَّلة
والقرآن كله حمدٌ لله –تبارك وتعالى- وثناءٌ عليه على خلقه وعلى قدَرِه، وعلى
أمره وشرعه، والله –عز وجلّ- أعظم لنا المنَّة، وأجزل لنا العطية عندما
علمنا كيف نحمده، ولولا أن عَلَّمنا ما عَلِمْنا، ولولا أنْ هدانا ما اهتدينا، وعَلِم
عجزنا وقصورنا عن إيفائهِ حقه بالحمد والثناء عليه، فحمِدَ نفسَهُ بنفسِهِ فقال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وأما سنة
نبينا –صلَّى الله عليه وسلم-:
فإن النبي –صلَّ
الله عليه وعلى آله وسلم-صاحب لواء الحمد، وهى مفخرةٌ عظمى ومكانة جُلَّى، حظي بها
–صلوات ربى وسلامه عليه-.
في ((الترمذي)) بإسناد صحيح
عن أبي سعيد –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلَّى
الله عليه وسلم-: ((إنا سيد ولد آدم يوم القيامة
ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي،
وأنا أول شافعٍ وأول مُشَفَّعٍ ولا فخر)).
لما كان أحمد الخلائق لله،
وأكملهم قيامًا بحمده، أُعطى لواء الحمد، ليأوي إلى لواءه الحامدون الحمادون لله
من الأولين والآخرين،وإلى هذا أشار-صلَّى الله عليه وسلم-كما قال: ((وما من نبي يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي))،
وهو لواءٌ حقيقي يحمله النبي-صلَّى الله عليه وسلم- يوم القيامة بيده، ينضوي تحته،
وينضم إليه جميع الحمَّادين من الأولين والآخرين، وأقربُ الخلق إلى لوائه أكثرهم
حمدًا لله وذِكرًا له وقيامًا بأمره، وأمته –صلَّى
الله عليه وسلم- خير الأمم، وهم الحمَّادون الذين يحمدون الله –جلَّ
وعلا- على السراء وعلى الضراء.
وجاء في أثرٍ يروى عن كعب،
قال: ((نجده مكتوبًا
محمدٌ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، لا فَظٌّ وَلا غَلِيظٌ، وَلا سَخَّابٌ بالأَسْوَاقِ،
وَلا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، لَكِنَّه يَعْفُو وَيَغْفر، وأُمَّتُهُ
الْحَمَّادُونَ، يُكَبِّرُونَ اللهَ عَلَى
كُلِّ نَجْدٍ، ويَحْمَدُونَه فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ)). رواه الدارمي في ((المقدمة)).
وفي الجنة بيتٌ يُقال له بيت
الحمد، خُصَّ بالذين يحمدون الله في السراء والضراء ويصبرون على مُرَّالقضاء.
روى الترمذي بإسنادٍ حسنٍ عن
أبي موسى –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((إذا مات ولدُ العبد؛ قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد
عبدى؟
فيقولون: نعم.
فيقول: قبضتم
ثمرةَ فؤاده؟
فيقولون: نعم.
فيقول: ماذا
قال عبدي؟
فيقولون: حَمِدَك
واسترجع.
فيقول الله تعالى:
ابنوا لعبدي بيتًا في الجنةِ وسمُّوه بيتَ الحمد)).
فهذا حمدٌ لله على الضرَّاء،
لما أتوا به؛ نالوا بحمدِهم الرتبةَ العالية.
فعلى الإنسانِ أنْ يجتهدَ في
معرفةِ نعمةِ الله عليه، وأنْ ينظرَ إلى ما آتاه الله وأنعمَ به عليه، لا إلى ما آتى
الله –تبارك وتعالى- غيرَه، مما أنعم به على غيرهِ ابتلاءً له،
واختبارًا وامتحانًا، وكل ما يَقضى به اللهُ رب العالمين للعبد فهو خيرٌ له.
جاء رجلٌ إلى يونس ابن عبيد –رحمه
الله- يشكو ضيق الحال والفقر، فقال له يونس:
((أَيَسُرُّكَ بِبَصَرِكَ هَذَا
مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟
قَالَ: الرَّجُلُ لا.
قَالَ: فَبِيَدَيْكَ مِائَةُ أَلْفٍ؟
قَالَ: لا.
قَالَ: فَبِرِجْلَيْكَ مِائَةُ أَلْفِ؟
قَالَ: لا.
قَالَ: فَذَكَّرَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ
يُونُسُ: أَرَى عِنْدَكَ مِئِينَ الأُلُوفٍ وَأَنْتَ تَشْكُو الْحَاجَةَ)).
وعن سلمان-رضي الله عنه- قال: ((إن رَجُلا بُسِطَ لَهُ من الدُّنْيَا فَانْتُزِعَ مَا
فِي يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ
لَهُ فِرَاشٌ إِلا بَارِيَّة -وهى البِساطُ الذي يكون في البيت يُداس عليه-.
قال: فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ.
وَبُسِطَ لآخَرَ من
الدُّنْيَا، فَقَالَ لِصَاحِبِ الْبَارِيِّ: أَرَأَيْتَكَ أَنْتَ؛ عَلامَ تَحْمَدُ
اللَّهَ؟
قَالَ: أَحْمَدُهُ عَلَى مَا
لَوْ أعطيت بِهِ ما أُعطِي الْخَلْقُ لَمْ أُعْطِهِمْ إِيَّاهُ.
قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالَ: أَرَأَيْتَ كبَصَرَكَ؟
أَرَأَيْتَ كلِسَانَكَ؟ أَرَأَيْتَ كيَدَيْكَ؟ أَرَأَيْتَ كرِجْلَيْكَ؟))
انظر إلى ما آتاك ولا تنظر
إلى ما أعطى غيرَك، وقد حرمهُ أيضًا مِن كثيرٍ مما آتاك، وإذا آتاكَ الإيمانَ
والحمد والشُّكر والإيمان والذِّكر، فما الذي تريد بعد؟
أسأل الله أن يُقنِّعنا بما
رزقنا، وأنْ يُوزعنا شكره على ما أنعم به علينا، وأنْ يجعلنا من الحمَّادين، وأن يُحيينا
على ذلك وأن يقبضنا عليه.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى
وصفاته المثلى أنْ يجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم
اجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا،
وانصرنا على من عادانا، وانصرنا على من عادانا، اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فاجعل كيدهِ
في نحره، وأدر الدائرة عليه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل تدبيره تدميره، اللهم
اقصم ظهره، اللهم اقصف عمره، اللهم أعمي بصره، وشُلَّ يده ولسانه واكفنا شره،
واجعله آية للعالمين، وصلَّى الله وسلم علي نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم
بإحسانٍ إلى يوم الدين .