((مِنْ ثَمَرَاتِ بِرِّ الْأُمِّ:
مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ))
عِبَادَ اللهِ لِلْبِرِّ ثَمَرَاتٌ يَجْنِيهَا الْبَارُّ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ؛ مِنْهَا:
*مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَالْفَوْزُ بِالْجَنَّةِ؛ فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ أَتَاهُ رَجَلٌ فَقَالَ: إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي، وَخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟
قَالَ: «أُمُّكَ حَيَّةٌ»؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: «تُبْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ».
قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟
فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ».
هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ»، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، صَحَّحَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَمَا فِي «صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»، وَكَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
قَالَ: «إِنِّي خَطَبْتُ امْرَأَةً»؛ أَيْ: دَعَوْتُهَا إِلَى الزَّوَاجِ.
«فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَنِي»؛ أَيْ: لَمْ تَقْبَلِ الْخِطْبَةَ وَأَنْكَرَتْ.
«وَخَطَبَهَا غَيْرِي فَأَحَبَّتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَغِرْتُ»؛ أَيْ: كَرِهْتُ مُشَارَكَةَ الْغَيْرِ فِيمَنْ أَحْبَبْتُهَا، وَالْغَيْرَةُ هِيَ الْأَنَفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَفِيهِ بَيَانُ خُطُورَةِ الْغَيْرَةِ؛ فَقَدْ أَدَّتْ إِلَى الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
«فَغِرْتُ عَلَيْهَا فَقَتَلْتُهَا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟»: خَطَبَ امْرَأَةً فَلَمْ تَقْبَلْهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا غَيْرُهُ فَقَبِلَتْهُ، فَغَارَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، «فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ»: فِيهِ عَدَمُ الْيَأْسِ مِنَ التَّوْبَةِ مَهْمَا كَانَ الذَّنْبُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِلرَّجُلِ الْقَاتِلِ: «أُمُّكَ حَيَّةٌ؟».
فَأَجَابَ: لَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «تُبْ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَتَقَرَّبْ إِلَيْهِ مَا اسْتَطَعْتَ».
«قَالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ»: بِحَذْفِ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ؛ أَيْ: هَلْ أُمُّكَ حَيَّةٌ حَتَّى تَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِبِرِّهَا؟ أَوْ: أَأُمُّكَ حَيَّةٌ؟
«فَذَهَبْتُ»: الذَّاهِبُ هُنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ الرَّاوِي لِهَذَا الْأَثَرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
«فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟»؛ أَيْ: لِمَ سَأَلْتَ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟
وَهَذِهِ شِدَّةُ انْتِبَاهٍ مِنْ عَطَاءٍ لِسُؤَالِ السَّائِلِ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: لِمَ سَأَلْتَهُ عَنْ حَيَاةِ أُمِّهِ؟
فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ».
إِنَّ بِرَّ الْأُمِّ يُقَرِّبُ الْإِنْسَانَ الْعَاصِيَ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- أَكْثَرَ مِنَ الطَّاعَاتِ الْأُخْرَى، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ»، فَنَصَحَ الْقَاتِلَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي بِرِّ أُمِّهِ؛ لِكَيْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُ مَا أَسْلَفَ مِنْ جَرِيمَةِ الْقَتْلِ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ لِلْمُذْنِبِ إِذَا وَقَعَ فِي ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ وَهُوَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ وَرَغِبَ فِي التَّوْبَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ إِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا الَّتِي هِيَ: تَرْكُ الذَّنْبِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ تُقْبَلُ مَهْمَا كَانَ جُرْمُهُ.
فَأَعْظَمُ الذُّنُوبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَإِذَا وَقَعَ الْمُسْلِمُ فِي الشِّرْكِ أَوِ ارْتَدَّ عَنْ إِسْلَامِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَتُوبَ، فَإِنَّهُ يُرْشَدُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُحْجَبُ عَنِ التَّوْبَةِ مُذْنِبٌ صَادِقٌ فِي تَوْبَتِهِ.
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).
قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ: ((كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ)).
وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ فِي الْجَنَّةِ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
المصدر:بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ