((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَتَقْدِيمُ حَقِّ الْأُمِّ))
عِبَادَ اللهِ! الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .
وَالْبِرُّ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ:
*أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».
وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْانِي الْبِرِّ: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
فَالْبِرُّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ؛ كَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ؛ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَعَلَى الطَّاعَاتِ؛ كَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ.
وَقَدْ يَكُونُ جَوَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ شَامِلًا لِهَذِهِ الْخِصَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللَّهِ الَّتِي أَدَبَّ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «كَانَ خُلُقُهُ ﷺ الْقُرْآنَ»، يَعْنِي: أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ، وَيَتَجَنَّبُ نَوَاهِيَهُ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ لَهُ خُلُقًا كَالْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ لَا يُفَارِقُهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجْمَلُهَا.
وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خُلُقٌ)).
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ هُمَا أَوْلَى النَّاسِ بِبِرِّ الْإِنْسَانِ؛ فَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، وَالْبِرِّ بِهِمَا، وَالتَّلَطُّفِ عَلَيْهِمَا، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ لَهُمَا.
إِنَّ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ لِلْأُمِّ مِنَ الْبِرِّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبِرِّ، وَذَلِكَ لِمَا تَحَمَّلَتْهُ مِنَ الْمَشَاقِّ مِنْ بِدَايَةِ الْحَمْلِ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ؛ مُدَّةَ حَيَاتِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْوِلَادَةِ، وَفِي الرَّضَاعَةِ، وَفِي التَّرْبِيَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْعُقَلَاءِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَتَى رَجُلٌ نَبِيَّ اللهِ ﷺ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟
فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ فقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ فقَالَ «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ «بِرَّ أَبَاكَ». وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أُمَّكَ».
قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أُمَّكَ».
قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أُمَّكَ».
قُلْتُ: مَنْ أَبَرُّ؟
قَالَ: «أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ». وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -أَيْضًا- فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَبُو دَاودَ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَ«الْبِرُّ»: هُوَ الْإِحْسَانُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَقْدِيمُ رِضَا الْأُمِّ عَلَى رِضَا الْأَبِ، والْأُمُّ تَفْضُلُ عَلَى الْأَبِ فِي الْبِرِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ تَعَبَ الْحَمْلِ، وَمَشَقَّةَ الْوَضْعِ، وَمِحْنَةَ الرَّضَاعِ، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التَّرْبِيَةِ.
النَّبِيُّ ﷺ قَدْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أَمَّكَ».
وَكَرَّرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ «ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ»؛ أَيْ: مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ فَحَقُّ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَالِدِ فِي الزِّيَادَةِ مَعْلُومٌ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَدَّتْهُ لَا يَكُونُ مَنْظُورًا؛ مِمَّا وَجَدَتْهُ مِنْ أَلَمِ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ، وَمَا كَانَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ فِي الصِّغَرِ.
فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ الْمَرْءُ إِذَا عَلَتْ بِهِ السِّنُونَ، وَإِنَّمَا يَرَى الرِّعَايَةَ مِنْ أَبِيهِ قَائِمًا، وَيَرَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ سَارِيًا، فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي حَقِّ الْأُمِّ حِينَئِذٍ، فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَشَيْءٌ آخَرُ: لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَقَدْ يَكُفُّ الرَّجُلُ أَذَاهُ عَنْ أَبِيهِ خَوْفًا مِنْ قُوَّتِهِ وَتَوَقِّيًا لِبَطْشِهِ.
وَأَمَّا الْأُمُّ.. فَلِضَعْفِهَا، وَلِأُنُوثَتِهَا، وَلِرِقَّتِهَا؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَا ضَابِطٍ مَا يَضْبِطُهُ، وَلَا كَافٍّ يَكُفُّهُ، فَنَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَشَيْءٌ آخَرُ؛ هُوَ: أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ عُقُوقِ أَبِيهِ فِي مَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ؛ خَوْفَ الْمَلَامَةِ مِنْهُمْ، وَحَيَاءً مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَسْتَفْظِعُهُ النُّفُوسُ السَّوِيَّةُ، وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُسْتَقِيمَةُ.
وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ فِي سِتْرٍ تَحُفُّهَا جُدْرَانُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُقَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا أَنْ يَلُومَهُ، نَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.
وَشَيْءٌ آخَرُ؛ وَهُوَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ ضَعِيفَةً، وَكَانَتْ لِأُنُوثَتِهَا رَقِيقَةً، وَقَدْ تَكُونُ سَرِيعَةَ الْغَضَبِ، فَإِذَا مَا عَقَّهَا لَمْ تَتَمَاسَكْ، وَلَمْ تَتَجَلَّدْ، وَأَسْرَعَتْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى ابْنِهَا الَّذِي عَقَّهَا أَوْ أَسَاءَ إِلَيْهَا.
فَرَاعَى النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الطَّبِيعَةَ، وَأَمَرَ الْوَلَدَ بِأَنْ يُحْسِنَ صَحَابَتَهَا مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً؛ حَتَّى لَا يُلْجِئَهَا إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَتُصَادِفَ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقْتًا يَسْتَجِيبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ، وَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهَا وَأَسَاءَ إِلَيْهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهَا فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُ نَدَمٌ، وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ حَوْلٍ وَلَا حِيلَةٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيمِ.
المصدر:بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ