حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ


((حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ))

فَإِنَّ حُبَّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ؛ النَّمْلُ وَالنَّحْلُ مِنَ الْحَشَرَاتِ مِثَالٌ، فَهِيَ تَبْنِي أَوْطَانَهَا، وَتَأْوِي إِلَيْهَا، وَتُدَافِعُ عَنْهَا، وَالْأَسْمَاكُ مِنْهَا مُهَاجِرٌ يَقْطَعُ الْبِحَارَ سِبَاحَةً، ثُمَّ تَؤُوبُ بَعْدُ إِلَى أَوْطَانِهَا.

وَالطُّيُورُ مِنْهَا مُهَاجِرٌ يَقْطَعُ أَلْفَ مِيلٍ فَوْقَ مِيَاهِ الْبِحَارِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى وُكْنَاتِهَا -إِلَى أَعْشَاشِهَا-، وَتَأْوِي إِلَى أَوْطَانِهَا.

وَالْحَيَوَانَاتُ تَأْلَفُ مَوَاطِنَهَا، وَتُدَافِعُ عَنْهَا، وَتَأْوِي إِلَيْهَا -حَتَّى الْحَمِيرُ-!!

قَالَ الْأُسْتَاذُ يَحْيَى حَقِّي -وَهُوَ يَرْوِي بَعْضَ مَا وَقَعَ لَهُ عِنْدَمَا كَانَ وَكِيلًا لِلنَّائِبِ الْعَامِّ فِي إِحْدَى مُحَافَظَاتِ الصَّعِيدِ-: ((أُعِيدَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ أَنْ أُحَقِّقَ فِي قَضِيَّةٍ تَنَازَعَ فِيهَا رَجُلَانِ عَلَى حِمَارٍ، كَانَ الْأَوَّلُ يَسِيرُ فِي سُوقِ الْقَرْيَةِ، فَإِذَا بِهِ يَهْجُمُ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ لَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُدِيرِيَّةِ، وَيُمْسِكُ بِخِنَاقِهِ، وَيَتَّهِمُهُ بِأَنَّ حِمَارَهُ مَسْرُوقٌ مِنْهُ هُوَ، يُقْسِمُ أَغْلَظَ الْأَيْمَانِ، وَالثَّانِي يُقْسِمُ بِأَيْمَانٍ أَغْلَظَ أَنَّ التُّهْمَةَ كَاذِبَةٌ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْحَمِيرِ كَمَا يَصِحُّ فِي النَّاسِ -يَخْلُقُ مِنَ الشَّبَهِ أَرْبَعِينَ-.

قَالَ: قُمْتُ مِنَ الْمَرْكَزِ وَمَعِي الْمُتَخَاصِمَانِ وَالْحِمَارُ حَتَّي بَلَغْنَا قَرْيَةَ الْأَوَّلِ -الْمُدَّعِي- وَوَقَفْنَا عَلَى مَشَارِفِهَا مِنْ بَعِيدٍ، ثُمَّ أَطْلَقْنَا الْحِمَارَ، فَجَرَى وَاخْتَارَ.. اخْتَارَ مِنَ الدُّرُوبِ الْيَمِينَ، ثُمَّ الْيَسَارَ، ثُمَّ مَرَقَ بَيْنَ مَنَازِلِ الْقَرْيَةِ لَا يَتَرَيَّثُ حَتَّى دَخَلَ جَرْيًا بَيْتَ الرَّجُلِ، يَكَادُ يَحْطِمُ الْبَابَ بِنَطْحَةٍ مِنْ رَأْسِهِ، وَكَانَ قَدْ مَضَى عَلَى السَّرِقَةِ أَكْثَرُ مِنَ سَنَةٍ، هَلْ بَعْدَ هَذَا دَلِيلٌ؟!!

قَالَ: شَاهِدُ الْإِثْبَاتِ الْوَحِيدُ هُوَ الْحِمَارُ.. الْحِمَارُ نَفْسُهُ، وَهَيْهَاتَ أَنْ نَسُوقَهُ لِيَقِفَ أَمَامَ الْقَاضِي، فَلَا مَفَرَّ مِنْ أَنْ أَذْهَبَ أَنَا لِلْمَحْكَمَةِ وَأَقُولَ لَهَا: أَنَا شَاهِدٌ حَاضِرٌ عَنِ الْحِمَارِ يَا أَفَنْدِم!!)).

حَتَّى الْحَمِيرُ تَأْلَفُ أَوْطَانَهَا، وَتُحِبُّهَا، وَتَأْوِي إِلَيْهَا، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ مِنَ الْبَشَرِ يُبْغِضُونَ أَوْطَانَهُمْ، وَيَسْعَوْنَ فِي هَدْمِهَا وَتَقْوِيضِ أَرْكَانِهَا وَإِحْدَاثِ الْفَوْضَى وَالْخَرَابِ فِيهَا؟!!

أَلَمْ يَبْلُغُوا -بَعْدُ- مَبَالِغَ الْحَمِيرِ؟!!

حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، وَكُلُّ سَوِيٍّ مِنَ الْبَشَرِ يُحِبُّ وَطَنَهُ، وَيَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي نَفْسِهِ.. وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي قَلْبِهِ.. مَنْ لَمْ يَجِدْ فِي ضَمِيرِهِ وَعَقْلِهِ حُبَّ وَطَنِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ، مُنْحَرِفٌ عَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ!!

لَمَّا أُخْرِجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ قَالَ.. وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَنْظُرُ مِنْ خَلَلِ دُمُوعِهِ كَأَنَّمَا تَغْسِلُ الدُّورَ غَسْلًا، بَعْدَمَا لَوَّثَ الْمُشْرِكُونَ الْأَجْوَاءَ، وَبَعْدَمَا عَاثُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.. يَقُولُ ﷺ لِمَكَّةَ: ((وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ)) .

فَرَسُولُ اللهِ يَجِدُ هَذَا الْحُبَّ فِي قَلْبِهِ لِمَكَّةَ -زَادَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شَرَفًا-، وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ لَوَاعِجُ الْحُبِّ تَلْذَعُ مَا بَيْنَ الضُّلُوعِ لَذْعًا، وَكَانُوا بِاللَّيْلِ يَتَقَلَّبُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ، أَوْ عَلَى مِثْلِ الْإِبَرِ، لَا يَهْدَأُ لَهُمْ بَالٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي هَذَا الْجَوَى اللَّاعِجِ كَالنَّارِ الَّتِي تَسْرِي فِي الْعُرُوقِ؛ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ)) .

فَكَانَ مَا طَلَبَهُ رَسُولُ اللهِ وَمَا دَعَا بِهِ اللهَ.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ حُبَّ وَطَنِهِ فِي قَلْبِهِ وَضَمِيرِهِ وَنَفْسِهِ وَعَقْلِهِ فَهُوَ شَاذٌّ عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَعَنِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، فَلْيَبْحَثْ لِنَفْسِهِ عَنْ عِلَاجٍ وَدَوَاءٍ.

أَنْتَمِي إِلَى جِيلٍ كَانَ يُرَدِّدُ كُلَّ صَبَاحٍ فِي أَفْنِيَةِ الْمَدَارِسِ فِي رُبُوعِ الْمَعْمُورَةِ -حَرَسَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ- يُرَدِّدُ كُلَّ صَبَاحٍ: ((بِلَادِي بِلَادِي بِلَادِي، لَكِ حُبِّي وَفُؤَادِي)).

وَقَدْ عَلَّمَنَا مُعَلِّمُونَا -رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى- مَعْنَى مَا نُرَدِّدُ، فَمَا كُنَّا نُرَدِّدُ تَرْدِيدَ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَلَكِنْ كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نَبْلُغَ الْمَبَالِغَ فِي الْفَهْمِ لِهَذَا الَّذِي نُرَدِّدُ، مَا كُنَّا نُرَدِّدُ مَا لَا نَفْهَمُ، وَلَكِنْ كُنَّا نُرَدِّدُ تَرْدِيدَ مَنْ يَعِي وَيَعْلَمُ، فَعَرَفْنَا مَعْنَى (بِلَادِي).

إِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الْخَائِنُونَ!!

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

فَعَرَفْنَا مَعْنَى كَلِمَةِ (بِلَادِي).. أَيَخُونُ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ وَجَدَ مَا وَجَدَ مِنْ حُبِّهِ لِمَكَّةَ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَتَّى دَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ رَبَّهُ، فَوَجَدُوا الْمَحَبَّةَ لِمَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

وَكُلُّ مِصْرِيٍّ سَوِيٍّ اغْتَرَبَ؛ حَالُهُ مَعَ وَطَنِهِ هُوَ:

شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاء

جُوعٌ إِلَيْهِ.. كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاء

شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِنَ الظَّلَامِ إِلَى الوِلَادَه

إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُون

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَه؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُون؟!!

الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِنْ سِوَاهَا، وَالظَّلَام

حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ، فَهْوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَه

وَاحَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَام

فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَه

مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَه؟

 

المصدر:الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  فَضْلُ كِبَارِ السِّنِّ -الْمُسْنِّينَ- الصَّالِحِينَ
  خَطَرُ اللِّسَانِ
  حُكْمُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ
  اتَّقُوا اللهَ فِي مِصْرَ وَاحْذَرُوا الْفَوْضَى!!
  سَعَادَةُ الْعَالَمِ وَصَلَاحُهُ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ
  مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ
  الْمَوْعِظَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((التَّوْحِيدُ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ))
  أَسْبَابُ طُولِ الْأَمَلِ
  صَيْحَةُ نَذِيرٍ مُتَجَدِّدَةٌ لِجُمُوعِ الْمِصْرِيِّينَ..
  مِصْرُ أُمَّةٌ لَهَا تَارِيخٌ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْإِسْلَامِ
  الْبِرُّ الْحَقُّ بِالْأَبَوَيْنِ
  الْإِسْلَامُ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ
  الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ
  فَوَائِدُ الزَّوَاجِ الْعَظِيمَةُ وَثَمَرَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
  • شارك