((الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتِ الْوَطَنِ الرَّاهِنَةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْوَعْيَ بِقِيمَةِ الْوَطَنِ، وَبِالتَّحَدِّيَّاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا، وَبِالْمَخَاطِرِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ أَمْرٌ لَا غِنَى عَنْهُ، خَاصَّةً وَنَحْنُ فِي مَرْحَلَةٍ شَدِيدَةِ الْحَرَجِ فِي تَارِيخِ وَطَنِنَا.
مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلذَّاكِرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَنَّهَا مَلَكَةٌ مُسْتَبِدَّةٌ، وَمِنَ اسْتِبْدَادِهَا بِالْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَذَكَّرُ أُمُورًا مَرَّتْ عَلَيْهَا سَنَوَاتٌ بَلْ عُقُودٌ تَذَكُّرًا تَامًّا وَاضِحًا، كَأَنَّهُ يَحْيَاهَا، يَرَاهَا وَيَسْمَعُهَا، وَتَغِيمُ عَنْهُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ أُمُورٌ قَرِيبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ تَتَوَارَى ظِلَالُهَا فِي آفَاقِ النِّسْيَانِ، فَلَا يَعْرِفُهَا وَلَا يَتَعَرَّفُ عَلَيْهَا.
أَتَذَكَّرُ الْآنَ أَمْرًا مَرَّ عَلَيْهِ رُبُعُ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ، أَتَذَكَّرُهُ الْآنَ كَأَنِّي حَاضِرُهُ، رَائِيهِ وَسَامِعُهُ، كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ (1992م) إِبَّانَ مَا عُرِفَ بِـ(حَرْبِ الْخَلِيجِ).
وَقَدْ كَانَ مِمَّا بُثَّ وَنُشِرَ أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْحَرْبِ وَوَسَائِلِهَا الْمُسْتَخْدَمَةِ تَسْلِيطَ حُزَمٍ مِنَ الْمَوْجَاتِ الْكَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةِ بِقُوَّةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى مُدُنٍ فِي دُوَلٍ، أَوْ عَلَى قِطَاعَاتٍ مِنْهَا، أَوْ حَتَّى عَلَى دُوَلٍ بِكَامِلِهَا، مِنْ أَقْمَارٍ اصْطِنَاعِيَّةٍ فِي مَدَارَاتِهَا.
فَتُؤَثِّرُ هَذِهِ الْمَوْجَاتُ الْكَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةُ عَلَى أَنْمَاطِ التَّفْكِيرِ، وَوَسَائِلِ الْإِدْرَاكِ، وَطَرَائِقِ الْحُكْمِ عَلَى الْأُمُورِ وَالْأَشْيَاءِ تَأْثِيرًا عُضْوِيًّا مُبَاشِرًا، يَرْجِعُ إِلَى التَّأْثِيرِ الْعُضْوِيِّ الْمُبَاشِرِ عَلَى خَلَايَا الْمُخِّ وَالْأَعْصَابِ.
وَيَقَعُ تَبَعًا لِهَذَا التَّأْثِيرِ اضْطِرَابَاتٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ وَالنَّتَائِجِ، وَاخْتِلَافَاتٌ فِي الْأَنْمَاطِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ، وَتَحَوُّلَاتٌ عَقْلِيَّةٌ وَنَفْسِيَّةٌ.
وَهَذِهِ النَّتَائِجُ كُلُّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا الْمُسْتَهْدَفُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا بِحُرُوبِ الْجِيلِ الرَّابِعِ، وَتَأْثِيرَاتِ وَسَائِلِ الِاتِّصَالِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَبَثِّ الْفَوْضَى الْفِكْرِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالْمَعْلُومَاتِيَّةِ فِيمَا يُعْرَفُ بِـ(السُّوشْيَال مِيْدِيَا)؛ لِبَلْبَلَةِ أَفْكَارِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ، وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهِ فِكْرِيًّا وَعَقَدِيًّا، وَأَخْلَاقِيَّا وَسُلُوكِيًّا.
وَهُوَ مَا تَعِيشُهُ الْمُجْتَمَعَاتُ الْبَشَرِيَّةُ الْيَوْمَ كَنَتِيجَةٍ مُبَاشِرَةٍ لِلْحَرْبِ الْمَاسُونِيَّةِ الصُّهْيُونِيَّةِ الْعَالَمِيَّةِ عَلَى جُمُوعِ الْبَشَرِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجُويِيمِ أَوِ الْأُمَمِيِّينَ، حَتَّى إِنَّ الْمُجْتَمَعَاتِ الْبَشَرِيَّةَ الْمُسْتَهْدَفَةَ صَارَتْ لَا تَحْتَاجُ الْيَوْمَ إِلَى أَقْمَارٍ اصْطِنَاعِيَّةٍ تَبُثُّ مَوَجَاتٍ كَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةً لِلتَّأْثِيرِ عَلَى عُقُولِ أَبْنَائِهَا وَأَعْصَابِهِمْ.
وَلَكِنْ مَا الَّذِي جَعَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْقَدِيمَ يَطْفُو ظَاهِرًا مِنْ بَحْرِ النِّسْيَانِ لِيَلُوحَ لِي ظَاهِرًا بَعْدَ رُبُعِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ؟!!
هَلْ هِيَ فَقَطْ الذَّاكِرَةُ الْمُسْتَبِدَّةُ.. هَكَذَا! بِلَا تَفْسِيرٍ وَلَا تَعْلِيلٍ، وَهَلْ هُنَاكَ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ يَأْتِي هَكَذَا بِلَا تَفْسِيرٍ وَلَا تَعْلِيلٍ؟!!
بِالْقَطْعِ لَا، وَلَكِنْ لَا شَكَّ أَنَّنَا لَا نَمْلِكُ تَرَفَ إِنْفَاقِ الْوَقْتِ فِي بَحْثٍ كَهَذَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَقْطَعُ بِأَنَّ هُنَاكَ سَبَبًا ظَاهِرًا، أَدَّى إِلَى تَذَكُّرِ ذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الْأَعْوَامِ الطِّوَالِ، وَهُوَ وُجُودُ النَّتِيجَةِ الَّتِي كَانَ يُرَادُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا.
وَمَا الَّذِي أَعْنِيهِ بِذَلِكَ؟
الَّذِي أَعْنِيهِ بِهَذَا هُوَ: أَنَّ الْوَاقِعَ الَّذِي تَعِيشُهُ قِطَاعَاتٌ مُغَرَّرٌ بِهَا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ يَبْدُو فِي لَا مَعْقُولِيَّتِهِ -بَلْ فِي عَبَثِيَّتِهِ- شَبِيهًا.. بَلْ مُنْطَبِقًا عَلَى النَّتِيجَةِ السَّابِقَةِ.
قِطَاعَاتٌ مُغَرَّرٌ بِهَا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، تَعْبَثُ بِعُقُولِهِمْ مَقُولَاتٌ بَاطِلَةٌ، وَشَائِعَاتٌ كَاذِبَةٌ، وَتَلْعَبُ بِهِمْ لَعِبَ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ.
تَجْمُّعَاتٌ مِنَ الْخَوَنَةِ بِاسْمِ الدِّينِ تَارَةً، وَبِاسْمِ السِّيَاسَةِ تَارَةً، وَبِتَهْيِيجِ الْأَطْمَاعِ وَإِثَارَةِ الْأَحْقَادِ تَارَاتٍ.
قِطَاعَاتٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ تَتَعَامَى عَنِ الْمَاضِي الْقَرِيبِ، الَّذِي لَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ عَشْرَةُ أَعْوَامٍ، بَلْ عَنِ الْحَاضِرِ الْمَنْظُورِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَامَرَاتِ وَالْمُخَاطَرَاتِ، وَالْخُطُوبِ الْمُهْلِكَاتِ.
تَتَعَامَى هَذِهِ الْقِطَاعَاتُ الْمُغَرَّرُ بِهَا عَنْ هَذَا وَذَاكَ، وَيَتَّبِعُونَ نَاعِقِي الْبُومِ وَنَاعِبِي الْغِرْبَانِ عَلَى خَرَائِبِ السِّيَاسَةِ الْفَاشِلَةِ، وَالدِّيَانَةِ الْمُحَرَّفَةِ الْبَاطِلَةِ، وَكَأَنَّ تَأْثِيرًا عُضْوِيًّا وَفِكْرِيًّا قَدْ أَلَمَّ بِعُقُولِهِمْ، وَطَرَائِقِ اسْتِيعَابِهِمْ وَتَفْكِيرِهِمْ، فَهُمْ كُتَلٌ مِنَ اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ تُحَرَّكُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، وَيُتَصَوَّرُ لَهَا وَلَا تَتَصَوَّرُ، وَتُسْلِمُ زِمَامَ الْفِكْرِ طَائِعَةً بِلَا تَفَكُّرٍ، وَلَا تَتَفَكَّرُ!!
وَاحَسْرَتَاهُ!!
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا، وَاحْذَرُوا أَنْ تُفْلِتَ فُرْصَتُكُمُ الدَّانِيَةُ الْقَرِيبَةُ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَقَدْتُمُوهَا لَنْ تُدْرِكُوهَا!!
فَلَا تَتَّبِعُوا كلَّ مُخرِّبٍ خَائِنٍ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُضَ عُرَى دَوْلَتِكُمْ، وَأَنْ يُشَتِّتَ جُمُوعَكُمْ، تَتَكَفَّفُونَ الدُّوَلَ وَالْمُنَظَّمَاتِ الَّتِي تَرْعَى الْحَيَوَانَاتِ وَلَا تَرْعَى الْبَشَرَ، وَتَأْسَى عَلَى الْكِلَابِ الضَّالَّةِ وَالْقِطَطِ الشَّارِدَةِ، فَتُوَفِّرُ مَأْوًى وَغِذَاءً وَدَوَاءً، وَتُبِيدُ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ مُدُنًا -بَلْ دُوَلًا- قَتْلًا بِدَمٍ بَارِدٍ، أَوْ وَأْدًا لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي رِمَالِ الِاحْتِقَارِ، وَصَحْرَاوَاتِ النَّفْيِ مِنْ حَيَاةِ الْبَشَرِ؛ لِيُعَامَلَ الْمَرْءُ أَدْنَى مِنْ مُعَامَلَةِ الْحَيَوَانِ!!
أَيُّهَا الْمِصْرِيُّونَ! اتَّقُوا اللهَ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ.
تَمَاسَكُوا، وَتَعَاضَدُوا، وَاجْعَلُوا الْغَايَاتِ الصَّغِيرَةَ، وَالْأَهْدَافَ الرَّخِيصَةَ، وَالِاهْتِمَامَاتِ الزَّائِفَةَ.. تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، وَاحْرِصُوا عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا لِوَطَنِكُمْ.
فَاسْتِقْرَارُ وَطَنِكُمُ اسْتِقْرَارٌ لِدِينِكُمْ، وَتَقَدُّمُهُ تَمْكِينٌ لِأُصُولِهِ وَمَبَادِئِهِ؛ لِيُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَنْعَمَ النَّاسُ بِالْحَيَاةِ الْحَقَّةِ فِي أَفْيَائِهِ وَشَرَائِعِهِ.
دَرْسٌ مُهِمٌّ مِنْ دُرُوسِ التَّارِيخِ يَجِبُ حِفْظُهُ، الْأَغْبِيَاءُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ أَخْطَاءَهُمْ.
الْإِنْسَانُ يَعِيشُ فِي جَمَاعَةٍ.. وَالْفِيلُ أَيْضًا، وَيَتَمَتَّعُ بِالذَّكَاءِ.. وَالثَّعْلَبُ أَيْضًا، وَالْإِنْسَانُ يَمْتَلِكُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَلَامِ.. وَالْبَبَّغَاءُ قَدْ يَبْدُو كَذَلِكَ، وَالْإِنْسَانُ يُفَكِّرُ.. وَقَدْ يُفَكِّرُ الْكَلْبُ أَيْضًا، وَالْإِنْسَانُ يَضْحَكُ.. وَقَدْ يَبْدُو الْقِرْدُ ضَاحِكًا، وَلَكِنَّ فَارِقًا فَارِقًا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى؛ وَهُوَ التَّارِيخُ.
الْإِنْسَانُ كَائِنٌ لَهُ تَارِيخٌ، يَسْتَفِيدُ مِنْ أَخْطَائِهِ، يَتَعَلَّمُ مِنْهَا وَيَتَجَاوَزُهَا.
إِنَّ الْفَأْرَ يَقَعُ فِي الْمَصْيَدَةِ مُنْذُ آلَافِ السِّنِينِ بِقِطْعَةِ الْجُبْنِ الشَّهِيَّةِ ذَاتِهَا دُونَ تَغْيِيرٍ.
وَمُنْذُ وَقَعَ أَوَّلُ أَسَدٍ فِي شَبَكَةِ أَوَّلِ صَيَّادٍ وَحَفَدَةُ الْأَسَدِ يَقَعُونَ فِي الشَّبَكَةِ ذَاتِهَا دُونَ تَعَلُّمٍ، وَيَسْهُلُ جَرْجَرَةُ فِيلٍ إِلَى حَدِيقَةِ حَيَوَانٍ بِقَلِيلٍ مِنَ الْخُضْرَةِ كَمَا حَدَثَ مَعَ جَدِّهِ الْأَوَّلِ دُونَ خِبْرَةٍ.
أَمَّا الْإِنْسَانُ؛ فَكُلُّ تَجْرِبَةٍ تَمُرُّ بِهِ تُكْسِبُهُ مَعْرِفَةً، وَكُلُّ مَأْسَاةٍ يَتَعَرَّضُ لَهَا يَجِبُ أَلَّا يُكَرِّرَهَا، وَكُلُّ جُحْرٍ لُدِغَ مِنْهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَمُدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى إِلَّا إِذَا كَانَ حَيَوَانًا، مُنْتَهَى الْإِهَانَةِ لِلْحَيَوَانِ!!
الْأَغْبِيَاءُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ يُكَرِّرُونَ أَخْطَاءَهُمْ.. وَالْمِصْرِيُّونَ أَذْكِيَاءُ، وَلَنْ يُكَرِّرُوا أَخْطَاءَهُمْ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--، وَلَنْ يَدَعُوا أَحَدًا يُرِيدُ الْعَبَثَ بِعُقُولِهِمْ وَالتَّأْثِيرَ عَلَى قَرَارِهِمْ.
وَلَا سَبِيلَ لِلْمِصْرِيِّينَ لِلْخُرُوجِ مِنَ النَّفَقِ، وَتَجَاوُزِ الْأَزْمَةِ.. إِلَّا بِالِالْتِفَافِ حَوْلَ قِيَادَتِهِمْ، وَتَفْوِيتِ الْفُرْصَةِ عَلَى أَعْدَاءِ دِينِهِمْ وَوَطَنِهِمْ، وَمُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِمْ.
وَمِصْرُ فِي حَالَةِ حَرْبٍ حَقِيقِيَّةٍ، يَخُوضُهَا الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ الْبَاسِلُ فِي جَبَهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَظْهَرُهَا أَرْضُ الْفَيْرُوزِ -شِبْهُ جَزِيرَةِ سَيْنَاءَ- وَمَا تَمُوجُ بِهِ مِنَ التَّحَدِيَّاتِ وَالْمَخَاطِرِ، وَمَا تَزْخَرُ بِهِ مِنْ صُنُوفِ الْحَاقِدِينَ عَلَى مِصْرَ وَجَيْشِهَا وَأَمْنِهَا، وَشَعْبِهَا وَقِيَادَتِهَا، فِي مُحَاوَلَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ مُسْتَمِيتَةٍ لِإِسْقَاطِ الدَّوْلَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَقْوِيضِ بُنْيَانِهَا، وَهَدْمِ بِنَائِهَا.
وَيُعَاضِدُهُمْ بِطَرِيقَةٍ مُبَاشِرَةٍ وَغَيْرِ مُبَاشِرَةٍ أَقْوَامٌ مِنَ الْخَوَنَةِ الْمُنْتَمِينَ لِهَذَا الْبَلَدِ، يُهَاجِمُونَ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ، وَيَفْتَرُونَ الْأَكَاذِيبَ، مُتَوَهِّمِينَ أَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ جُزْءٌ مِنَ النِّظَامِ، مَعَ أَنَّ الْجَيْشَ الْمِصْرِيَّ جُزْءٌ مِنَ الدَّوْلَةِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنِ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ يَوْمًا جُزْءًا مِنَ النُّظُمِ الْحَاكِمَةِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْجُيُوشُ تُولَدُ مِنْ رَحِمِ الدُّوَلِ الْمُتَطَوِّرَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، فَإِنَّ الدَّوْلَةَ الْمِصْرِيَّةَ خَاصَّةً وُلِدَتْ مِنْ رَحِمِ الْمُؤَسَّسَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ الْقَوِيَّةِ.
وَأَمَّا شِعَارُهُمُ الْفَاجِرُ: ((لَا لِحُكْمِ الْعَسْكَرِ))، فَلَا هُمْ يَعْرِفُونَ تَارِيخَهُ، وَلَا هُمْ يَدْرُونَ مَبْعَثَهُ، وَلَا هُمْ يَفْقَهُونَ مَعْنَاهُ.
وَالْمُؤَكَّدُ أَنَّ هَذَا الشِّعَارَ مُسْتَوْرَدٌ مِنْ أَمْرِيكَا اللَّاتِينِيَّةِ، وَعَبَّرَتْ عَنْهُ كِتَابَاتُ (غَارْسِيَا مَارْكِيز) الَّتِي أَثَّرَتْ فِي الْأَجْيَالِ الَّتِي نَضَجَتْ مَعَ دُوَلِ الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، دُونَ أَنْ تَعْرِفَ هَذِهِ الْأَجْيَالُ أَنَّ بِدَايَةَ الْجِنِرَالَاتِ فِي أَمْرِيكَا اللَّاتِينِيَّةِ كَانَتْ قِيَادَةَ عِصَابَاتِ الْمُخَدِّرَاتِ، لَبِسَتْ -بَعْدَ أَنْ كَوَّنَتْ ثَرْوَاتٍ- ثِيَابَ الْقَادَةِ، وَوَضَعَتِ الرُّتَبَ وَالنَّيَاشِينَ.
ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي مَرْحَلَةٍ لَاحِقَةٍ عُمَلَاءَ لِوَكَالَةِ الْمُخَابَرَاتِ الْأَمْرِيكِيَّةِ، فَلَا هُمْ يَنْتَمُونَ بِجُذُورٍ وَتَقَالِيدَ عَسْكَرِيَّةٍ إِلَى الْعَسْكَرِيَّةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَمُوا إِلَيْهَا، وَلَا هُمْ عَرَفُوا الِانْتِمَاءَ وَالْوَطَنِيَّةَ.
عَلَيْنَا -نَحْنُ الْمِصْرِيِّينَ- أَنْ نَحْذَرَ الْحَذَرَ كُلَّهُ مِنْ مُؤَامَرَاتِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَصِيبَةِ، وَلْنَأْخُذْ بِالْأَسْبَابِ أَخْذًا صَحِيحًا، مُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللهِ تَعَالَى؛ لِنَجْتَازَ هَذِهِ الْفَتْرَةَ الْخَطِرَةَ مِنْ تَارِيخِنَا، مُحَافِظِينَ عَلَى دِينِنَا؛ لِنَبْنِيَ وَطَنَنَا عَلَى تَوْحِيدِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ، وَاتِّبَاعِ نَبِيِّنَا الْكَرِيمِ ﷺ.
وَمِمَّا يَتَوَجَّبُ أَنْ يُدَافِعَ الْمُسْلِمُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَدُوَّ الَّذِي يُحَاوِلُ اغْتِصَابَهَا وَاحْتِلَالَهَا، وَأَنْ يُجَاهِدَ دُونَهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ احْتِفَاظًا بِمَالِ أَهْلِهَا فِي وَطَنِهِمْ، مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَتَقْلُّبِهِمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَصَوْنِ حَرِيمِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي مَعَائِشِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ.
وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ، فَيَقْضِيَ عَلَى شَرَفِ دِينِهِمْ، وَيَمْنَعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَمُقْتَنَيَاتِهِمْ، وَيَهْتِكَ حُرَمَهُمْ، وَيَمْحُوَ تَارِيخَ مَجْدِهِمْ، وَيُفْنِيَ لُغَتَهُمْ وَعُلُومَهُمْ فِي رَطَانَتِهِ وَعَوَائِدِهِ.
فَكُلُّ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ مِمَّا يَنْوِيهِ الْعَدُوُّ الْغَاصِبُ لِلْوَطَنِ تِلْقَاءَ أَهْلِهِ؛ وَلِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ دُونَهُ لِوَجْهِ اللهِ وَفِي سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَتَحَابُّوا وَلَا يَتَعَادَوْا، وَأَنْ يَتَنَاصَرُوا وَلَا يَتَخَاذَلُوا، وَأَنْ يَأْتَلِفُوا وَلَا يَخْتَلِفُوا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ دِينِهِمْ، وَحِفْظَ أَعْرَاضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَذْمُومَةِ؛ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْجِنْسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ.
أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: ((أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ)).
فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، إِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ)).
وَمِيزَانُ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ التَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
المصدر: بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ