صِلْ مَنْ قَطَعَكَ
*حَضَّنَا النَّبِيُّ ﷺ عَلَى أَنْ نَصِلَ مَنْ قَطَعَنَا:
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ.
قَالَ: «لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «الصَّحِيحِ».
وَ«الْمَلَّ»: بِفَتْحِ الْمِيمِ الرَّمَادُ الْحَارُّ.
«تُسِفُّهُمُ»: تَطْرَحُ لَهُمْ كَأَنَّمَا تُطْعِمُهُمْ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْأَلَمِ بِمَا يَلْحَقُ آكِلُ الرَّمَادِ الْحَارِّ مِنَ الْأَلَمِ وَلَا شَيْءَ عَلَى هَذَا الْمُحْسِنِ، بَلْ يَنَالُهُمُ الْإِثْمُ الْعَظِيمُ فِي قَطِيعَتِهِ وَإِدْخَالِهِمُ الْأَذَى عَلَيْهِ.
«وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ»؛ أَيْ: مُعِينٌ وَنَصِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنْ إِحْسَانِكِ وَإِسَاءَتِهِمْ.
الْأَصْلُ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ الْإِحْسَانُ وَالصَّبْرُ وَطَلَبُ الْمَعَاذِيرِ، وَلَا يَكُونُ مُعَامَلَةَ الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، هَذَا لَيْسَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَامْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ سَبَبُ عَوْنِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَوفِيقِهِ: «وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ..»، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ أَلَمٌ وَعَذَابٌ فِي الدُّنْيَا «كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ» -وَهُوَ التُّرَابُ الْحَارُّ- وَسَبَبُ خِزْيٍ وَنَدَامَةٍ فِي الْآخِرَةِ.
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَحْتَسِبَ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ ﻷ فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى ذَوِي الْقُرْبَى وَغَيْرِهِمْ، فَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ، كَهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ» هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ وَإِنَّمَا هَذَا يَطْلُبُ مُقَابِلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّلَةُ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَظِرَ مَعْرُوفًا مِنْ أَحَدٍ؛ أَدِّ مَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكَ، قُلْ كَلِمَتَكَ وَامْشِ، وَلَا تَلْتَفِتْ لِأَحَدٍ، أَحْسِنْ وَلَا عَلَيْكَ مِنْ إِسَاءَةِ الْمُسِيئِينَ؛ يَعْنِي: إِذَا ابْتُلِيتَ بِمُهَارِشٍ مُهَارِجٍ مُخَاصِمٍ مُعَانِدٍ فَأَنْتَ تُحْسِنُ إِلَيْهِ وَيُسِيءُ إِلَيْكَ، فَلَقِيتَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ- لَا يَضُرُّكَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْكَ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ هُوَ لَا عَلَيْكَ، فَإِذَا لَمْ يَرُدَّ فَقَدْ ضَرَّ نَفْسَهُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُحَارِبٍ لِدِينِ اللهِ ﻷ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَوَبَالُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَعَاقِبَةُ الْخِزْيِ وَالنَّدَامَةِ إِنَّمَا هِيَ عَائِدَةٌ إِلَيْهِ، وَحَاصِلَتُهَا رَاجِعَةٌ عَلَيْهِ.
فَالْإِنْسَانُ يُحْسِنُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِسَاءَةِ الْمُسِيئِينَ، كَمَا قَالَ هَذَا الصَّحَابِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ، قَالَ: «لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ».
إِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْقَطِيعَةَ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ.
1وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
لَيْسَ الْوَاصِلُ مَنْ يَتَفَضَّلُ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوفِ، بَلْ يُعْطِي مَنْ مَنَعَهُ مِنْ مَعْرُوفِهِ.
وَالْمُكَافِئُ: مَنْ يَصِلُ وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا يَأْخُذُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَصِلُ كَمَا يُوصَلُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُعْطِي كَمَا أَخَذَ، فَهَذَا مُكَافِئٌ؛ مَنْ زَارَهُ زَارَهُ، ومَنْ أَعْطَاهُ أَعْطَاهُ، ومَنْ بَرَّهُ بَرَّهُ، هَذَا لَيْسَ بِوَاصِلٍ لِلرَّحِمِ فَلَا يَدْخُلْ فِي تِلْكَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ص الَّتِي يُحَصِّلُهَا وَاصِلُ الرَّحِمِ؛ هَذَا الْمُكَافِئُ.
قَوْلُهُ ﷺ: «الْوَاصِلُ»: «الْ» لِلْجنْسِ، فَالْمُكَافِئُ لَا يَدْخُلُ فِي جِنْسِ وَاصِلِ الرَّحِمِ وَإِنَّمَا هَذَا مُكَافِئٌ.
فَإِذَنْ؛ وَاصِلُ الرَّحِمِ هُوَ الَّذِي يَصِلُ مَا قُطِعَ مِنْهُ، لَا الَّذِي يُكَافِئُ عَلَى الْوَصْلِ يُوصَلُ هُوَ بِهِ وَإِنَّمَا تُقْطَعُ رَحِمُهُ فَيَصِلُهَا هُوَ، فَهَذَا هُوَ وَاصِلُ الرَّحِمِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَبْدَأَ فِي صِلَةِ أَرْحَامِه وَيَسْتَمِرَّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يُقَابِلُوا صَنِيعَهُ بِالْإِحْسَانِ وَالْوَصْلِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا للهِ، فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِأَوامِرِ اللهِ وَأَوَامِرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَثَوَابًا مِنْ أَحَدٍ، كَلَّفَهُ اللهُ وأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ فَهُوَ يَصِلُهَا.
كَمَا جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، وَأُعْطِيهِمْ وَيَحْرِمُونَنِي، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ.
لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَإِنَّمَا الْوَاصِلُ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا.
قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
وَذِي رَحِمٍ قَلَّمْتُ أَظْفَارَ حِقْدِهِ
بِحِلْمِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حِلْمُ
يُحَاوِلُ رَغْمِي لَا يُحَاوِلُ غَيْرَهُ
وَكَالْمَوْتِ عِنْدِي أَنْ يَحِلَّ بِهِ الرُّغْمُ
وَيَشْتُمُ عِرْضِي في الْمُغَيَّبِ جَاهِدا
وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي هَوَانٌ وَلا شَتْمُ
إِذَا سُمْتُهُ وَصْلَ الْقَرَابَةِ سَامَنِي
قَطِيعَتَهَا تِلْكَ السَّفَاهَةُ وَالإِثْمُ
فَمَا زِلْتُ فِي لِينِي لَهُ وَتَوَدُّدِي
عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو عَلَى الْوَلَدِ الأُمُّ
لأَسْتَلَّ مِنْهُ الضِّغْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُهُ
وَقَدْ كَانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيقُ بِهِ الْحِلْمُ
فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَقْطَعَ الْخَيْرَ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ أَوْ عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهِ بِمِثْلِ مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ ابْتِغَاءَ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى لَا يَنْتَظِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْلِصُ حَقًّا.
المصدر :صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ