((مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!))
يَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهِمْ: ((أَوْفَى مِنَ السَّمَوْأَلِ)).. فَصَارَ مَثَلًا.
((وَالسَّمَوْأَلُ هُوَ ابْنُ حَيَّانَ بْنِ عَادِيَا الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ مِنْ وَفَائِهِ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى قَيْصَرَ اسْتَوْدَعَ السَّمَوْأَلَ دُرُوعًا وَأَحِيحَةَ بْنَ الْجُلَاحِ -أَيْضًا- دُرُوعًا.
فَلَمَّا مَاتَ امْرُؤُ الْقَيْسِ غَزَاهُ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ فَتَحَرَّزَ مِنْهُ السَّمَوْأَلُ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ ابْنًا لَهُ وَكَانَ خَارِجًا مِنَ الْحِصْنِ، فَصَاحَ الْمَلِكُ بِالسَّمَوْأَلِ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَذَا ابْنُكَ فِي يَدَيَّ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ ابْنُ عَمِّي وَمِنْ عَشِيرَتِي، وَأَنَا أَحَقُّ بِمِيرَاثِهِ، فَإِنْ دَفَعْتَ إِلَيَّ الدُّرُوعَ وَإِلَّا ذَبَحْتُ ابْنَكَ.
فَقَالَ: أَجِّلْنِي.. فَأَجَّلَهُ، فَجَمَعَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَنِسَاءَهُ فَشَاوَرَهُمْ، فَكُلٌّ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الدُّرُوعَ وَيَسْتَنْقِذَ ابْنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَلِكِ وَقَالَ: لَيْسَ إِلَى دَفْعِ الدُّرُوعِ سَبِيلٌ، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ!!
فَذَبَحَ الْمَلِكُ ابْنَهُ وَهُوَ مُشْرِفٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ الْمَلِكُ بِالْخَيْبَةِ، فَوَافَى السَّمَوْأَلُ بِالدُّرُوعِ الْمَوْسِمَ فَدَفَعَهَا إِلَى وَرَثَةِ امْرَئِ الْقَيْسِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
وَفَيْتُ بِأَدْرُعِ الْكِنْدِيِّ إِنِّي=إِذَا مَا خَانَ أَقْوَامٌ وَفَيْتُ
وَقَالُوا: عِنْدَهُ كَنْزٌ رَغِيبٌ=وَلَا وَاللهِ أَغْدِرُ مَا مَشَيْتُ
بَنَى لِي عَادِيَا حِصْنًا حَصِينًا=وَبِئْرًا كُلَّمَا شِئْتُ اسْتَقَيْتُ
طِمَرًّا تَزْلِقُ الْعِقَبَانُ عَنْهُ=إِذَا مَا نَابَنِي ظُلْمٌ أَبَيْتُ
وَيُرْوَى:
إِذَا مَا سَامَنِي ضَيْمٌ أَبَيْتُ
وَقَدْ تَنَاوَلَ الْأَعْشَى هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ السَّمَوْأَلُ مِنْ مَضْرِبِ الْمَثَلِ فِي الْوَفَاءِ، فَقَالَ:
شُرَيْحٌ لَا تَتْرُكَنِّي بَعْدَمَا عَلِقَتْ=حِبَالُكَ الْيَوْمَ بَعْدَ الْقِدِّ أَظْفَارِي
كُنْ كَالسَّمَوْأَلِ إِذْ طَافَ الْهُمَامُ بِهِ=فِي جَحْفَلٍ كَسَوَادِ اللَّيْلِ جَرَّارِ
بِالْأَبْلَقِ الْفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ=حِصْنٌ حَصَينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
إِذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ=مَهْمَا تَقُلْهُ فَإنِّي سَامِعٌ حَارِ
وَحَارِ: تَرْخِيمُ حَارِثٍ.
فَقَالَ: غَدْرٌ وَثُكْلٌ أنْتَ بَيْنَهُمَا=فَاخْتَرْ وَمَا فِيْهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ
فَشَكَّ غَيْرَ طَوِيلٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ=اذْبَحْ أَسِيْرَكَ إِنِّي مَانِعٌ جَارِي
هَذَا لَهُ خَلَفٌ إِنْ كُنْتَ قَاتِلَهُ=وَإنْ قَتَلْتَ كَرٍيمًا غَيْرَ خَوَّارِ
فَقَالَ تَقَدِمَةً إِذْ قَامَ يَقْتُلُهُ=أَشْرِفْ سَمَوْأَلُ فَانْظُرْ لِلدَّمِ الْجَارِي
أَأَقْتُلُ ابْنَكَ صَبْرًا أَوْ تَجِيءُ بِهِ=طَوْعًا؟ فَأَنْكَرَ هَذَا أَيَّ إنْكَارِ
فَشَكَّ أَوْدَاجَهُ وَالصَّدْرُ فِي مَضَضٍ=عَلَيْهِ مُنْطَوِيًا كَاللَّذْعِ بِالنَّارِ
وَاخْتَارَ أَدْرَاعَهُ أَلَّا يُسَبَّ بِهَا=وَلَمْ يَكُنْ عَهْدُهُ فِي غَيْرِ مُخْتَارِ
وَقَالَ لَا أَشْتَرِي عَارًا بِمْكرُمَةٍ=فَاخْتَارَ مَكْرَمُةَ الدُّنْيَا عَلَى الْعَارِ
وَالصَّبْرُ مِنْهُ قَدِيمًا شِيمَةٌ خُلُقٌ=وَزَنْدُهُ فِي الْوَفَاءِ الثَّاقِبُ الْوَارِي
وَقَدْ كَانَ فَتًى لَبِيبٌ يَخْدُمُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ مَرْوٍ عِنْدَهُ كِلَابٌ جَوَارِحُ يَرْمِي إِلَيْهَا بِمَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِ مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَخَافَ ذَلِكَ الْفَتَى أَنْ يَتَنَكَّرَ لَهُ الْمَلِكُ يَوْمًا؛ فَأَخَذَ يُحْسِنُ إِلَى تِلْكَ الْكِلَابِ حَتَّى ارْتَاضَتْ لَهُ وَأَلِفَتْهُ، وَصَحَّ ظَنُّهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ يَوْمًا، وَأَمَرَ أَنْ يُرْمَى بِهِ إِلَى تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ الْجَارِحَةِ السَّفَّاكَةِ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ بِهِ سُوءًا وَلَا أَصَابَتْهُ بِأَذًى!!
وَحِينَ تَعَجَّبَ ذَلِكَ الْمَلِكُ مِنْ أَمْرِهِ، أَجَابَهُ الْفَتَى هَذِهِ الْإِجَابَةَ الْقَاسِيَةَ: طَالَمَا أَطْعَمْتُ هَذِهِ الْكِلَابَ فَغَدَتْ لِي صَدِيقًا، وَقَدْ أَمْضَيْتُ عَشْرَ سَنَوَاتٍ لَكَ غُلَامًا فَأَسْلَمْتَنِي إِلَى الْكِلَابِ لِهَفْوَةٍ ظَنَنْتَهَا بَدَرَتْ مِنِّي!!
الْكِلَابُ رَحِمَتْنِي حَيْثُ لَمْ تَرْحَمْنِي، وَرَعَتْ حَقِّي حَيْثُ لَمْ تَرْعَ، وَالْكِلَابُ تُسَالِمُ مِنْ أَجْلِ عَظْمَةٍ تُرْمَى لَهَا، وَالْخَسِيسُ لَا يَفِي وَلَوْ فَدَيْتَهُ بِالرُّوحِ!!
المصدر:الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ