أَمْرُ النَّبِيِّ ﷺ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَتَرْغِيبُهُ فِيهَا


أَمْرُ النَّبِيِّ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَتَرْغِيبُهُ فِيهَا

*النَّبِيُّ يَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَيُرَغِّبُ فِيهَا، وَيُخْبِرُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَتُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ:

(1فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

وَالرَّحِمُ: الْمُرَادُ بِهَا مَنْ يَمُتُّ إِلَيْهِمْ بِصِلَةٍ مِنْ جِهَةِ الْأُبُوَّةِ أَوِ الْأُمُومَةِ؛ فَكُلُّ قَرِيبٍ لِلشَّخْصِ يُعْتَبَرُ رَحِمًا لَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ.

* وَالرَّحِمُ الَّتِي تُوصَلُ:

1- عَامَّةٌ: وَهِيَ رَحِمُ الدِّينِ وَتَجِبُ مُوَاصَلَتُهَا بِالتَّوَادُدِ، وَالتَّنَاصُحِ، وَالْعَدْلِ، وَالْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ.

2- خَاصَّةٌ: فَمَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي تَعْرِيفِ الرَّحِمِ، وَتَزِيدُ النَّفَقَةَ عَلَى الْقَرِيبِ، مَعَ تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِ.

وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي «صِلَةِ الرَّحِمِ» هُوَ: أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ إِيصَالُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَفْعُ مَا أَمْكَنَ مِنَ الشَّرِّ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- يَصِلُ مَنْ وَصَلَ الرَّحِمَ، وَيَقْطَعُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مَنْ قَطَعَهَا:

1فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ:

«قَالَ اللَّهُ : أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَاشْتَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ». وَالْحَدِيثُ «صَحِيحٌ لِغَيْرِهِ».

وَالْمَعْنَى: «قَالَ اللَّهُ : أَنَا الرَّحْمَنُ، وَأَنَا خَلَقْتُ الرَّحِمَ، «وَاشْتَقَقْتُ»: أَيْ أَخْرَجْتُ وَأَخَذَتُ اسْمَهَا «مِنَ اسْمِي»: الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ، «فَمَنْ وَصَلَهَا»: رَاعَى حُقُوقَهَا «وَصَلْتُهُ»: رَاعَيْتُ حُقُوقَهُ وَوَفَّيْتُ ثَوَابَهُ، «وَمَنْ قَطَعَهَا»: وَمَنْ قَطَعَ الرَّحِمَ «قَطَعْتُهُ»: مِنْ رَحْمَتِي الْخَاصَّةِ.

«وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ»: وَالْبَتُّ الْقَطْعُ، فَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ، وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللهُ ﻷ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ تَعْظِيمُ شَأْنِ الرَّحِمِ، وَبَيَانُ فَضِيلَةِ وَصْلِهَا وَعِظَمِ الْإِثْمِ بِقَطِيعَتِهَا.

*تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ:

 أَخْبَرَ جُبَيْرُ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ، ثُمَّ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِيَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ الشَّيْءُ، وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ عَنِ انْتِهَاكِه». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا». أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ بِطُرُقِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ»، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.

«تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ»: مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالصِّهْرِيَّةِ، وَتَعَرَّفُوا أَسْمَاءَ أَقَارِبِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، وَذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْكُمْ وَالْأَقَارِبَ، وَكَمْ مِنْ رَحِمٍ مَقْطُوعَةٍ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ! وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ يُعْتَدَى عَلَيْهِ لَا يَحْسَبُ الْمَرْءُ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ رَحِمًا! وَمَا وَقَعَ مِنْهُ هَذَا الِاعْتِدَاءُ، وَمَا صَارَ فِيهِ فِي غَلَوَائِهِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِالرَّحِمْ الَّتِي عِنْدَهُ.

فَيَقُولُ لَنَا نَبِيُّنَا وَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ عُمَرَ وَكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ صَحَّ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ ص: «احْفَظُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».

لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَحْفَظْ نَسَبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاصِلًا لِرَحِمِهِ، وَالنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَيْسَتْ عِنْدَ أُمَّةٌ سِوَى الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَالْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَحْفَظُ أَنْسَابَهَا، وَيُمْكِنُ لِلْعَرَبِيِّ -إِنْ كَانَ وَاعِيًا مُتَتَبِّعًا- أَنْ يَرْجِعَ بِنَسَبِهِ إِلَى أَسْلَافِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَرَبِ فَأَنْسَابُهُمْ مَقْطُوعَةٌ وَمُخْتَلِطَةٌ، وَلَا يَحُطُّ هَذَا مِنْ قَدْرِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَضَّلَهَا اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ.

النَّبِيُّ ص -كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا أَيْضًا- يَأْمُرُنَا بِهَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ: «احْفَظُوا أَنْسَابَكُمْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ».

فَإِذَنْ؛ «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ».

«تَعَلَّمُوا أَنْسَابَكُمْ، ثُمَّ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لِيَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ الشَّيْءُ، وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ -أَيْ: مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ-، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ -أَيْ: لَكَفَّهُ وَمَنَعَهُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِدَاخِلَةِ الرَّحِمِ- عَنِ انْتِهَاكِه -أَيْ: عَنْ نَقْضِهِ عَهْدَ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ الْعَرَبُ الْمُتَقَدِّمُونَ: «فَعَطَفَتْهُ عَلَيْهِ الرَّحِمُ».

فِي هَذَا الْحَدِيثِ:

الْحَثُّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ الْأَقَارِبِ؛ لِتَسْهِيلِ سُبُلِ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَقَارِبَهُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا حَقَّ الرَّحِمِ، بَيَانُ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَرَابَةِ تَمْنَعُ مِنَ الْقَطِيعَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فِي كَلَامِ عُمَرَ : «وَلَوْ يَعْلَمُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ دَاخِلَةِ الرَّحِمِ، لَأَوْزَعَهُ ذَلِكَ عَنِ انْتِهَاكِهِ» فَمَعْرِفَةُ الْأَنْسَابِ مَدْعَاةٌ لِصَلَةِ الْأَرْحَامِ.

فَالرَّحِمُ عَلَاقَةُ جَذْبٍ تُقَرِّبُ الْعَلَاقَةَ الْبَعِيدَةَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ الْقَرِيبُ يَكُونُ بَعِيدًا -إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ- وَالْبَعِيدُ تُقَرِّبُهُ الرَّحِمُ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا.

وَالرَّحِمُ تَنْطِقُ وَتَشْهَدُ لِلْوَاصِلِ، وَتَشْهَدُ وَتَنْطِقُ بِالْقَطِيعَةِ عَلَى الْقَاطِعِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ -وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَكَمَا خَلَقَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُنْطِقُهَا، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَلَّمَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَلَّمَتَاهُ، وَيُخْبِرُنَا اللهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: أَنَّهُ يَخْتِمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ، وَتَنْطِقُ الْجُلُودُ وَالْأَسْمَاعُ وَالْأَبْصَارُ، فَهِيَ تَنْطِقُ بِلِسَانٍ مُبِينٍ وَهِيَ مِنْ غَيْرِ لِسَانٍ.

بَلْ إِنَّ الْأَرْضَ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَنْطِقُ الْأَرْضُ مِنْ غَيْرِ لِسَانٍ. وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 فَتَأْتِي الرَّحِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ صَاحِبِهَا -إِنْ كَانَ وَاصِلًا- تَشْهَدُ لَهُ بِالصِّلَةِ، وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا تَشْهَدُ لَهُ بِالْقَطِيعَةِ.

 

المصدر :صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ: الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ
  الْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ
  الدُّعَاءُ مِنْ أَكْرَمِ الْأَذْكَارِ عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: الْأَمَانَةُ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ
  الصَّائِمُونَ الْمُفْلِسُونَ
  رَحْمَةُ الْإِسْلَامِ بِالْمُسِنِّينَ
  الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ فِي دِينِ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ وَالسَّعِيُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الْحَلَالِ
  الْإِسْلَامُ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
  مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ الْمَشْرُوعُ مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ
  الشَّبَابُ وَحَمْلُ أَمَانَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَنَمَاذِجٌ مِنْ خَيْرِ الْبَشَرِ
  تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  مَظَاهِرُ خُطُورَةِ الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  إِذَا انْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ انْهَارَ الْمُجْتَمَعُ
  • شارك