ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ


  ((ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ- وَمَغْضَبَةٌ لِلشَّيْطَانِ.

* وَالْمُسَارَعَةُ فِي الْخَيْرَاتِ تَرْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ حَيْثُ النَّعِيمُ الْمُقِيمُ وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا...} [الإنسان: 8-12].

وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِمْ لِلطَّعَامِ وَقِلَّتِهِ، وَتَعَلُّقِ شَهْوَتِهِمْ بِهِ، وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ.. يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، وَصَغِيرًا لَا أَبَ لَهُ يَكْتَسِبُ لَهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَأَسِيرًا بِيَدِ الْأَعْدَاءِ أَوْ مَسْجُونًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ.

يَقُولُونَ لِمَنْ أَطْعَمُوهُمْ: مَا نُطْعِمُكُمْ إِلَّا لِأَجْلِ وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى- وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ، لَا نُرِيدُ مُكَافَأَةً وَلَا طَلَبَ حَمْدٍ وَثَنَاءٍ مِنْكُمْ.

إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا شَدِيدًا تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنْ هَوْلِهِ وَشِدَّتِهِ، كَرِيهًا تَتَقَطَّبُ فِيهِ الْجِبَاهُ مِنْ فَظَاعَةِ أَمْرِهِ وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ.

فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَخَافُونَهُ، وَأَعْطَاهُمْ بَدَلَ عُبُوسِ الْكُفَّارِ وَحُزْنِهِمْ حُسْنًا فِي وُجُوهِهِمْ وَسُرُورًا فِي قُلُوبِهِمْ، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ جَنَّةً عَظِيمَةً، وَأَلْبَسَهُمْ حَرِيرًا نَاعِمًا مِنَ السُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ.

 ((وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا.

قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)) .

* وَالسَّبْقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَرَسُولَهُ! ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا فِي صَلَاتِكُمْ، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَاكْسَبُوا بِإِرَادَاتِكُمْ كُلَّ عَمَلٍ قَلْبِيٍّ أَوْ جَسَدِيٍّ يُحَقِّقُ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا بَاقِيًا وَسَعَادَةً خَالِدَةً وَثَوَابًا حَسَنًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ شَاقًّا أَوْ مُضْنِيًا أَوْ مُؤْلِمًا؛ رَغْبَةً مِنَّا فِي أَنْ تَسْعَدُوا وَتَفُوزُوا بِالْجَنَّةِ.

* وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ نَوْعًا مِنَ التَّنَافُسِ الْحَمِيدِ الَّذِي يَرْقَى بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي مُجْتَمَعِهِمْ.

* وَالسَّابِقُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ يُدْرِكُونَ مَقَاصِدَهُمْ وَلَا يَرْجِعُونَ خَائِبِينَ أَبَدًا، وَيَدْخُلُونَ إِذَا مَا سَابَقُوا إِلَى الْخَيْرَاتِ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، الْمُسَارَعَةُ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ وَالذَّهَابُ إِلَيْهَا فِي السَّاعَةِ الْأُولَى يُعَظِّمُ الْأَجْرَ وَيُجْزِلُ الثَّوَابَ.

* وَالْمُبَادَرَةُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْفِتَنِ؛ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ، وَكَذَلِكَ فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَشْغَلُ الْإِنْسَانَ وَتُلْهِيهِ؛ مِثْل: الْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَالْغِنَى الْمُطْغِي، أَوِ الْهَرَمِ -يَعْنِي بُلُوغَ أَقْصَى الْعُمُرِ-.

وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَعَدَمُ التَّخَلُفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْأُولَى يَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي فَضِيلَةٍ يَسْبِقُ بِهَا المُتَخَلِّفِينَ فِي أَبْعَدَ مِمَّا هُوَ بَيْنَ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ.

* مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ: شَرْحُ الصَّدْرِ؛ فَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ: ((الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ.

فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا.

وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ضَارِبًا المَثَلَ لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -: ((كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ؛ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ)). فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدِّقِ، وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ، وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ)) .

* وَمِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ: أَنَّ اللهَ لَا يُخْزِي الْقَائِمَ بِهِ، وَيَقِيهِ مَصَارِعَ السُّوءِ؛ فَالنَّبيُّ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ!».

قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا» .

عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:

* الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ- جَعَلَهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَالتَّعْبِيرُ بِـ «عَلَى» وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ فِي بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.

* وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.

قَالَتْ: «لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»؛ إِذَنْ.. مَا دُمْتَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ: تَقْيِيدُ النِّعَمِ عِنْدَ الْعَبْدِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ- مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ» .

وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْمُعْجَمِ الْأَوْسَطِ».

وَهُوَ حَدِيثٌ مُهِمٌّ جِدًّا: «إِنَّ لِلهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُمْ؛ مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ».

فَهَذِهِ النِّعَمُ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِنْدَ أَقْوَامٍ إِنَّمَا جَعَلَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضُوا بِهَا حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ: أَلَّا يَمَلُّوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ طَلَبِهِمْ، وَألَّا يُصِيبَهُمُ الْمَلَلُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ إِخْوَانِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ الَّتِي عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ تِلْكَ النِّعَمَ عِنْدَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضُوا بِهَا حَوَائِجَ الْمُسْلِمِينَ «مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ».

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلهِ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ». وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّ أَقْوَامًا اخْتَصَّهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالنِّعَمِ لِيَكُونُوا سَاعِينَ فِي مَنَافِعِ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، وَيُقِرُّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فِي تِلْكَ النِّعَمِ مَا بَذَلُوهَا لِعِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا مَنَعُوا النِّعَمَ أَنْ تُبْذَلَ لِأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ وَفِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ؛ نَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النِّعَمَ عَنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ.

وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَمَشِيئَتِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُعْطَى الْيَوْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْطِيًا غَدًا، وَالَّذِي يَأْخُذُ الْيَوْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُعْطِيًا فِي غَدٍ، وَالَّذِي يَكُونُ لَهُ الْيَدُ الْعُلْيَا فِي يَوْمٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ السُّفْلَى فِي يَوْمٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعِزُّ وَيُذِلُّ.

وَلَيْسَ أَحَدٌ بِمُسْتَحِقٍّ لِنِعْمَةٍ يُوَصِّلُهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ جُودٍ لَا بَذْلُ مَجْهُودٍ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي يُعْطِي، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتِي الْبِرَّ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ الْخَيْرَ عِنْدَ أَقْوَامٍ، فَإِنْ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِمْ زَادَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنْعَامًا، وَثَبَّتَ النِّعَمَ لَدَيْهِمْ.

وَإِذَا مَا جَحَدُوهَا فَلَمْ يَبْذُلُوهَا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُرَاعُوا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمْ يَخْتَصَّهُمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ لِأُمُورٍ جَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُتَعَلِّقَةً بَالْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَرْضِهِ، إِذَا لَمْ يُرَاعُوا ذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِاسْتِحْقَاقٍ عِنْدَهُمْ؛ فَشَأْنُهُمْ كَشَأْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي ظَنَّ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا آتَاهُ وَأَعْطَاهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ بِقُدُرَاتِهِ قَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ، فَنَزَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ النِّعْمَةَ، وَخَسَفَ بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَيُحَذِّرُ النَّبِيُّ ﷺ وَيُنذِرُ، وَيُبَيِّنُ لَنَا ﷺ هَذَا الْأَمْرَ الْكَبِيرَ، فَيَقُولُ ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتَبَرَّمَ؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ»

يَتَبَرَّمُ مِنَ النَّاسِ وَيَرُدُّهُمْ، وَلَا يُحْسِنُ اسْتِقْبَالَهُمْ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهُ الْمَلَلُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ، وَيُغْلِظُ فِي الْكَلَامِ الْوَاصِلِ إِلَيْهِمْ، وَيَخْشُنُ فِي مُعَامَلَتِهِ مَعَ الْخَلْقِ فِي أَرْضِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا جَعَلَهُ مُوَصِّلًا لِلنِّعْمَةِ إِلَى الْخَلْقِ فِي الْأَرْضِ.

وَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ الْأَمْرَ مَحْضَ بَذْلٍ لِلجُّودِ مِنْ لَدُنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- وَهُوَ صَاحِبُ الْبِرِّ، فَإِذَا تَبَرَّمَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَإِذَا مَا تَمَلْمَلَ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ؛ فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ.

* وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْقَائِمِ بِالْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ، السَّاعِي فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ اللهَ يُعِينُهُ، وَيُيَسِّرُ لَهُ أُمُورَهُ، وَيَسْتُرُهُ، وَيُفَرِّجُ هَمَّهُ، وَيَرْفَعُ كَرْبَهُ، وَيَكْشِفُ غَمَّهُ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ» .

وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» وَغَيْرِهِ-: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ فِي الدُّنْيَا؛ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا؛ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُسَارَعَةَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَابَقَةَ فِي تَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الرُّشْدِ، وَأَنْ يُخْلِصَ نِيَّاتِنَا وَقَصْدَنَا، وَأَنْ يُحَسِّنَ أَقْوَالَنَا وَأَعْمَالَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمَقْبُولِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  سُبُلُ مُقَاوَمَةِ الشَّائِعَاتِ شَرْعِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْجُودِ وَالْكَرَمِ
  مِنْ سُبُلِ التَّنْمِيَةِ الِاقْتِصَادِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ
  الْأَمَانَةُ فِي الْعَمَلِ
  مَنْزِلَةُ الزَّكَاةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!
  خُطُورَةُ الْمَعَاصِي وَالْمُخَاصَمَةِ فِي الْحَجِّ
  سُنَّةُ التَّكْبِيرِ مُنْفَرِدًا فِي الطَّرِيقِ وَالْمُصَلَّى بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ
  سُوءُ عَاقِبَةِ أَكْلِ السُّحْتِ فِي الدُّنْيَا
  الْخَوْفُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ
  قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ سَبَبٌ فِي تَقْيِيدِ النِّعَمِ عِنْدَ الْعَبْدِ
  بَيَانُ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ
  اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
  سُبُلُ تَحْقِيقِ خَيْرِيَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعَادَةِ رِيَادَتِهَا الْآنَ
  تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ
  • شارك