((مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ:
((نَظَافَةُ الشَّوَارِعِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمْرَ بِالنَّظَافَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ أَوْ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّوْجِيهِ بِتَنْظِيفِ الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَيَتَفَاعَلُ مَعَهَا.
قَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبِيئَةُ طَرِيقَهُ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، أَوْ مَدْرَسَتَهُ أَوْ جَامِعَتَهُ الَّتِي يَتَعَلَّمُ فِيهَا، أَوْ مَكَانًا عَامًّا يَقْضِي مِنْ خِلَالِهِ مَصَالِحَهُ أَوْ يَتَنَزَّهُ فِيهِ.
وَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ وَإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْهَا، وَجَعَلَهَا بَابًا وَاسِعًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ صَدَقَةٌ.
عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» .
وَ((الرَّاكِدُ)): السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ مِنْ مَحَاسِنِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ الْمَاءِ الْجَارِي، الْإِنْسَانُ لَا يُلَوِّثُ الْمَوَارِدَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَاعِنِ الَّتِي يَتَّقِيهَا الْإِنْسَانُ مِنْ ظِلِّ النَّاسِ وَطَرِيقِهِمْ وَمَوَارِدِهِمْ -مَوَاضِعِ شُرْبِهِمْ-.
هَذَا شَيْءٌ مُهِمٌّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالنَّظَافَةِ الْعَامَّةِ، وَمُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالثِّقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فَالْمَرْأَةُ مَثَلًا مَسْئُولَةٌ عَنْ إِعْدَادِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهِيَ لَا تُتَابَعُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وَحْدَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ بِوَعْيٍ يَقِظٍ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَمْ تُؤْمَنْ أَنْ تُبَاشِرَ النَّجَاسَةَ ثُمَّ تَضَعَ يَدَهَا الَّتِي بَاشَرَتِ النَّجَاسَةَ فِي طَعَامِ أَوْلَادِهَا وَزَوْجِهَا، وَهَلْ يَرَاهَا مِنْ أَحَدٍ سِوَى اللهِ؟!
وَأَمَّا الْتِزَامُ السُّنَّةِ فَشَيْءٌ آخَرُ.. هَذَا مُهِمٌّ!
يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ مَوَارِدِ الْمِيَاهِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)) .
مَا الَّذِي أَتَى بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ؟!!
نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ..
وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ..
وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا..
نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ..
وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ..
((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلِّ)).
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).
قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لُعِنَ وَشُتِمَ.
((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!!
قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى -أَيْ يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ)) ، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ لَعَنُوا فَاعِلَهُ وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.
فَيَأْتِي الْإِنْسَانُ لِكَيْ يَمُرَّ عَلَى الْأَذَى وَالْقَذَرِ، رُبَّمَا وَهُوَ يَدْرِي وَرُبَّمَا لَا يَدْرِي، وَيُصِيبُهُ مَا يُصِيبُهُ إِنْ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ فِي بَدَنِهِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ وَبِغَيْرِ حَاجَةٍ!!
الرَّسُولُ ﷺ يَنْهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ.
هُنَاكَ نَصٌّ -أَيْضًا- عَنِ التَّبَوُّلِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْبَرَازِ فِي مَوَارِدِ النَّاسِ، مَوَارِدِ النَّاسِ فِي شِرْعَاتِهِمْ، فِي مَوَارِدِهِمُ الْمَائِيَّةِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ يَنْهَى أَنْ يُبَالَ أَوْ يُتَغَوَّطَ فِي الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَوَارِدِ أَوْ فِيهَا.
الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي بِالْفِطْرَةِ دِينًا، يَأْتِي بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ فَيَنْهَى أَنْ يُتَبَوَّلَ أَوْ يُتَغَوَّطَ فِي هَذِهِ الْمَوَارِدِ وَفِي الطُّرُقَاتِ وَتَحْتَ الظِّلَالِ، فِي مَقِيلِ النَّاسِ يَفْزَعُونَ إِلَى الظِّلِّ عِنْدَ الْحَرِّ.. عِنْدَ السَّفَرِ، عِنْدَمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُرِيحُوا الْأَجْسَادَ الْمَكْدُودَةَ وَالْأَبْدَانَ الْمُتْعَبَةَ وَالْأَرْوَاحَ الْمُنْهَكَةَ، وَيَتَمَتَّعُونَ بِالظِّلِّ الظَّلِيلِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ النَّمِيرِ فِي وَهَجِ الشَّمْسِ وَفِي شِدَّةِ حَرِّهَا، فَمَاذَا يَجِدُونَ؟!!
بَوْلًا وَغَائِطًا..!!
قِلَّةُ ذَوْقٍ، وَانْعِدَامُ أَدَبٍ.. وَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ!
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.. دِينُ مَشَاعِرَ، دِينُ ذَوْقٍ، دِينُ أَحَاسِيسَ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ حِسٍّ حَسَنٍ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ ذَوْقٍ عَالٍ؛ فَسَتَجِدُ أَصْلَهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آيَةً تُتْلَى وَسُنَّةً تُرْوَى وَتُحْكَى، وَأَنَا لَكَ بِذَلِكَ زَعِيمٌ إِنْ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَأَمَّا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ)) . مُتَّفَقُّ عَلَيْهِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ: ((كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ))، فَلَا يَذْهَبَنَّ أَحَدٌ إِلَى شَجَرَةٍ لَهَا ظِلٌّ يَفِيِءُ إِلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ يَقُولُ: لَئِنْ قَطَعْتُ هَذِهِ فَلَأَتَحَصَّلَنَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ! بَلْ إِنَّهُ يَكُونُ آثِمًا!
المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ