((الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى))
فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
وَتَعَاوَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ مَرْتَبَةِ الْبِرِّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْقِيَامِ بِمُقْتَضَيَاتِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَتَحَقَّقُ لَكُمْ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَلَا يُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِفِعْلِهِ، وَفِعْلِ مَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ، وَمُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللهِ، وَاتَّقُوا اللهَ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَتْرُكُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ، أَوْ تَرْتَكِبُوا مَا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ.
وَالْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَأَحَبَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، مِنَ التَّحَقُّقِ بِعَقَائِدِ الدِّينِ وَأَخْلَاقِهِ، وَالْعَمَلِ بِآدَابِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، مِنَ الشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا؛ فَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ.
وَمِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى التَّقْوَى: التَّعَاوُنُ عَلَى اجْتِنَابِ وَتَوَقِّي مَا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمِنَ الْإِثْمِ وَالْبَغْيِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِلَا عِلْمٍ؛ بَلْ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
((خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ))
((الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ هُوَ: مَا يَنْظُرُ فِيهِ الشَّارِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ; كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ تَلْزَمُهُ بِعَيْنِهِ طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56])) .
((فَالْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ: هُوَ مَا تَوَجَّهَ فِيهِ الطَّلَبُ اللَّازِمُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ؛ أَيْ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَا يَكْفِي فِيهِ قِيَامُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ, وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ مِنْهُ إِلَّا بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي هَذَا الْوَاجِبِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا فَعَلَهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ, وَمِن ثَمَّ يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَيَلْحَقُهُ الْعِقَابُ, وَلَا يُغْنِي عَنْهُ قِيَامُ غَيْرِهِ بِهِ، وَمِثَالُهُ: الصَّلَاةُ, وَالصِّيَامُ, وَالْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ, وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
* وَالْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُكَلَّفِينَ, لَا مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ حُصُولُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ؛ فَكَانَ التَّارِكُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاعِلًا, وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ الْقَادِرِينَ.
وَقَدْ يَئُولُ وَاجِبُ الْكِفَايَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَيْنِيًّا, فَلَوْ كَانَتِ الْبَلَدُ مُضْطَرَّةً إِلَى قَاضِيَيْنِ, وَكَانَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ؛ فَإِنَّ تَوَلِّيهِ وَاجِبٌ كِفَائِيٌّ عَلَى الْعَشْرَةِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ اثْنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا عَيْنِيًّا عَلَيْهِمَا)) .
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» -بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ ذَكَرَهَا-: «قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ, وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ, وَاخْتَلَفُوا فِي تَلْخِيصِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ مِنْ ذَلِكَ: مَا لَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ جَهْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ)).
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ الْعَيْنِيَّةِ لِخِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ: تَعَلُّمُ التَّوْحِيدِ وَتَحْقِيقُهُ؛ فَإِصْلَاحُ الْعَقِيدَةِ هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَخْذٍ بِأَسْبَابِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ.
يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أُمُورَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ بِالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَّغَنَا عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ التَّوْحِيدِ، وَعَظِيمَ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- بَعَثَ رَسُولَهُ ﷺ بِمَا بَعَثَ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ قَبْلِهِ، بَعَثَهُمْ جَمِيعًا بِرِسَالَةِ التَّوْحِيدِ؛ لِتَكُونَ الْعِبَادَةُ لِلهِ -تَعَالَى- وَحْدَهُ، وَكُلُّهُمْ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- قَالُوا لِأَقْوَامِهِمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وَالرَّسُولُ ﷺ أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
لَيْسَ مَقْصُودُ الرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَعْنَاهَا، وَتَحْقِيقِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِيهَا.
عِبَادَ اللهِ! بَالتَّوحِيدِ يُقْبَلُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنْ غَيْرِ التَّوْحِيدِ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ تَوْحِيدٍ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائِدَة: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56].
فَقَبُولُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّوْحِيدِ.
التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}؛ أَيْ بِشِرْكٍ، {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].
فَالْعِزَّةُ وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلْعَزِيزِ المَجِيدِ.
وَالْمَصْلَحَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ نَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَفْيُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأَعْرَاف: 56].
فَلَا يَتَحَقَّقُ الصَّلَاحُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يَنْتَفِي الْفَسَادُ مِنْهَا إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ فِيهَا، الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى مِنَ الْمَصَالِحِ الْعُلْيَا هُوَ: تَحْقِيقُ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَبِهِ تَتَحَقَّقُ الْمَصْلَحَةُ، وَبِهِ تَنْتَفِي الْمَفْسَدَةُ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهِ صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ وَفَلَاحُهُ، وَفَوْزُهُ وَنَجَاحُهُ، وَأَمْنُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ: الصَّلَاةُ؛ فَالصَّلَاةُ هِيَ آكَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَقَدْ فَرَضَهَا اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ خَاتَمِ الرُّسُلِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فِي السَّمَاءِ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّرَائِعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظَمَتِهَا، وَتَأَكُّدَ وُجُوبِهَا، وَمَكَانَتِهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]؛ أَيْ: مَفْرُوضًا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي بَيَّنَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِقَوْلِهِ وَبِفِعْلِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5].
وَقَالَ تَعَالَى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31].
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ...))، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْأَرْكَانِ.
وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ فِي كِتَابِ اللهِ -تَعَالَى- وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا؛ تَرْغِيبًا فِيهَا, وَحَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ...} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} [المؤمنون: 1-11].
* وَمِنْ فَوَائِدِهَا: أَنَّ بِهَا قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَرَاحَةَ النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي (سُنَنِهِ)) ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: ((قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَنَصُّهُ عِنْدَهُ: ((يَا بِلَالُ! أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا)) . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَالصَّلَاةُ ذِكْرٌ، وَبِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَصِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، يَقُومُ الْمُصَلِّي بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ خَاشِعًا ذَلِيلًا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ، وَيُعَظِّمُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَسْأَلُهُ حَاجَاتِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، فَالصَّلَاةُ رَوْضَةٌ يَانِعَةٌ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
* وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ إِذَا صَلَّاهَا الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
* وَمِنْ فَوَائِدِهَا أَنَّهَا عَوْنٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، ((وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ، صَلَّى))؛ أَيْ أَهَمَّهُ أَمْرٌ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ)).
* وَمِنْ فَوَائِدِ الصَّلَاةِ: مَا يَحْصُلُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَحُصُولِ التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ بَيْنَهُمْ، وَتَعْلِيمِ الْجَاهِلِ، وَتَنْبِيهِ الْغَافِلِ، وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ.
وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيعَابِ، وَلَكِنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ الْفُرُوضِ الَّتِي تُحَقِّقُ السَّلَامَ الِاجْتِمَاعِيَّ، وَالتَّرَابُطَ وَالْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ: الزَّكَاةُ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى فَرْضِيَّةِ الزَّكَاةِ، وَأَنَّهَا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِ مَنْ جَحَدَ الزَّكَاةَ، وَأَجْمَعُوا -أَيْضًا- عَلَى قِتَالِ مَنْ مَنَعَ إِخْرَاجَهَا.
* وَلِلزَّكَاةِ أَهَمِّيَّةٌ عُظْمَى فِي الْإِسْلَامِ, وَلِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِهَا تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا, وَهَذِهِ بَعْضُ حِكَمِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ :
1ـ تَطْهِيرُ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ رَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالشَّرَهِ وَالطَّمَعِ.
2ـ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ, وَسَدُّ حَاجَاتِ الْمُعْوِزِينَ وَالْبُؤَسَاءِ وَالْمَحْرُومِينَ.
3ـ إِقَامَةُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا حَيَاةُ الْأُمَّةِ وَسَعَادَتُهَا.
4ـ الْحَدُّ مِنْ تَضَخُّمِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْأَغْنِيَاءِ, وَبِأَيْدِي التُّجَّارِ وَالْمُحْتَرِفِينَ، كَيْ لَا تُحْصَرَ الْأَمْوَالُ فِي طَائِفَةٍ مَحْدُودَةٍ، أَوْ تَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ.
مِنْ حِكْمَةِ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ :
5ـ أَنَّهَا تَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْإِسْلَامِيَّ كَأَنَّهُ أُسْرَةٌ وَاحِدَةٌ؛ يَعْطِفُ فِيهَا الْقَادِرُ عَلَى الْعَاجِزِ، وَالْغَنِيُّ عَلَى الْمُعْسِرِ.
6ـ وَأَنَّهَا تُطْفِئُ حَرَارَةَ ثَوْرَةِ الْفُقَرَاءِ وَحِقْدِهِمْ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ.
7ـ وَتَمْنَعُ الْجَرَائِمَ الْمَالِيَّةَ؛ كَالسَّرِقَاتِ، وَالنَّهْبِ، وَالرِّشْوَةِ، وَالِاخْتِلَاسِ، وَالسَّطْوِ.
8ـ وَتُزَكِّي الْمَالَ؛ أَيْ: تُنَمِّيهِ.
9ـ وَهِيَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْخَيْرَاتِ.
الزَّكَاةُ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِالْمُسَاوَاةِ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالتَّعَاوُنِ، وَقَطْعِ دَابِرِ كُلِّ شَرٍّ يُهَدِّدُ الْفَضِيلَةَ وَالْأَمْنَ وَالرَّخَاءَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْبَقَاءِ لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُزَكِّي وَالْمُزَكَّى عَلَيْهِ، وَلِلْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ.
فَهِيَ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّيَ وَتُنَمِّي مَالَهُ، وَتَنْزِلُ بِسَبَبِهَا الْبَرَكَةُ فِيهِ، وَيَنْفَعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَا الْمُسْلِمِينَ.
فَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ طُهْرَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ رَذَائِلَ نَفْسِيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَتَنْمِيَةً حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً مِنْ آفَةِ النَّقْصِ، وَجَعَلَهَا رَبُّنَا مُسَاوَاةً بَيْنَ خَلْقِهِ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَوَّلَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَجَعَلَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِعَانَةٍ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ لِإِخْوَانِهِمُ الْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَا يُقِيمُ أَوْدَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى عَمَلٍ.
جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الزَّكَاةِ تَحْقِيقًا لِلسَّلَامِ وَالْأَمْنِ، الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ بِوُجُودِ طَائِفَةٍ جَائِعَةٍ تَرَى الْمَالَ وهي مَحْرُومَةٌ مِنْهُ، وَجَعَلَهَا اللهُ تَأْلِيفًا لِلْقُلُوبِ، وَجَمْعًا لِلْكَلِمَةِ؛ يَجُودُ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنَصِيبٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِسَبَبِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، فَيُؤْتِيهِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمَحَبَّةَ، وَيَجْعَلُ الْمُجْتَمَعَ الْمُسْلِمَ مُجْتَمَعًا مُتَوَادًّا مُتَحَابًّا، لَا حِقْدَ فِيهِ وَلَا أَثَرَةَ.
وَأَمَّا مِنْ أَمْثِلَةِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ: فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِوَامِ أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَالطِّبِّ، إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ فِي حَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ عَلَى الصِّحَّةِ, وَالْحِسَابِ؛ فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا.
فَهَذِهِ الْعُلُومُ لَوْ خَلَا الْبَلَدُ عَمَّنْ يَقُومُ بِهَا حَرِجَ أَهْلُ الْبَلَدِ, وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ كَفَى وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ)).
* وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ الَّتي يَجِبُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَدَاؤُهَا: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ، وَحَمْلُ جِنَازَتِهِ، واتِّبَاعُهَا، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ؛ فَإِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ وَجَبَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى غَسْلِهِ.
وُجُوبُ الْغَسْلِ لِأَمْرِهِ ﷺ بِهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ.
هَذَا الْوُجُوبُ -وُجُوبُ غَسْلِ الْمَيِّتِ- عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ؛ يَعْنِي هَذَا وَاجِبٌ كِفَائيٌّ؛ فَإِذَا قَامَ بِهِ مَنْ حَضَرَ سَقَطَ فَرْضُ طَلَبِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا مَا تَرَكُوا ذَلِكَ جَمِيعًا أَثِمُوا؛ يَعْنِي مَنْ كَانَ حَاضِرًا.
المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ