حُكْمُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ


((حُكْمُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ))

((قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: ((سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ -تَعَالَى- وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ)).

وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا- فِي الْقُنُوطِ: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحِجر: 56].

وَقَالَ: ((عَدُّ سُوءِ الظَّنِّ وَالْقُنُوطِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ لِلْيَأْسِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقُنُوطَ أَبْلَغُ مِنَ الْيَأْسِ، لِلتَّرَقِّي إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].

وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَئِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إِسْلَامِهِ؛ فَالْيَأْسُ فِي حَقِّهِ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا، ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ الْقُنُوطُ، ثُمَّ قَدْ يَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يُشَدِّدُ عِقَابَهُ لَهُ كَالْكُفَّارِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا)) )) .

((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ؛ فَقَالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ, وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ, وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ)).

أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا شَبِيبَ بْنَ بِشْرٍ؛ فَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: ((ثِقَةٌ))، وَلَيَّنَهُ أَبُو حَاتِمٍ, وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ((فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- )) .

قَوْلُهُ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ)): هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((الشِّرْكُ بِاللهِ هَضْمٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَتَنَقُّصٌ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَسُوءُ ظَنٍّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)).

وَلَقَدْ صَدَقَ وَنَصَحَ -رَحِمَهُ اللهُ-.

قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وَلِهَذَا لَا يَغْفِرُهُ اللهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ.

وَقَوْلُهُ: ((وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ))؛ أَيْ: قَطْعُ الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ مِنَ اللهِ فِيمَا يَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ، وَذَلِكَ إِسَاءَةُ ظَنٍّ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَجَهْلٌ بِهِ وَبِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَمَغْفِرَتِهِ.

وَقَوْلُهُ: ((وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ))؛ أَيْ: مِنَ اسْتِدْرَاجِهِ لِلْعَبْدِ وَسَلْبِهِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْإِيمَانِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ-، وَذَلِكَ جَهْلٌ بِاللهِ وَبِقُدْرَتِهِ، وَثِقَةٌ بِالنَّفْسِ وَعُجْبٌ بِهَا.

وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَصْرَ الْكَبَائِرِ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ؛ بَلِ الْكَبَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَهَذِهِ الثَّلَاثُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَضَابِطُهَا مَا قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: ((كُلُّ ذَنْبٍ خَتَمَهُ اللهُ بِنَارٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عَذَابٍ)) .

وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامُ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((أَوْ نَفْيِ الْإِيمَانِ، وَمَنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ قَالَ: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ فَعَلَ كَذَا))؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ)).

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((هِيَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ أَقْرَبُ إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ)) .

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ)) . رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالطَّبَرِيُّ فِي ((جَامِعِ الْبَيَانِ))، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ((الْكَبِيرِ))، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- )) .

إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ يُؤَدِّيَ بِنَا الْخَوْفُ إِلَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-, مَعَ أَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللهِ مِنْ أَجَلِّ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ مِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وَهِيَ مِنْ أَجَلِّ الْمَنَازِلِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقَلْبِ, وَالْخَوْفُ مِنَ اللهِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41].

وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44].

وَمَدَحَ أَهْلَ الْخَوْفِ فِي كِتَابِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57-61].

فِي ((الْمُسْنَدِ)) وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}؛ أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُ؟!!

قَالَ: ((لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ! وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَلَّا يُقْبَلُ مِنْهُ)). وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَالْخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ؛ بَلْ هُوَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الْوَسَائِلِ، وَلِهَذَا يَزُولُ بِزَوَالِ الْمَخُوفِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

الْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، وَالْمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ؛ وَلِهَذَا تَتَضَاعَفُ مَحَبَّةُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إِذَا دَخَلُوا دَارَ النَّعِيمِ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ فِيهَا خَوْفٌ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الْمَحَبَّةِ وَمَقَامُهَا أَعْلَى وَأَرْفَعُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْخَوْفِ وَمَقَامِهِ.

وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ مَا حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ مَحَارِمِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِذَا تَجَاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنْهُ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ.

قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ -قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: ((الْخَوْفُ الْمَحْمُودُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ)).

فَاعْلَمْ -أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ- أَنَّ الْخَوْفَ وَاجِبٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَخَافَ مِنَ اللهِ، وَالْخَوْفُ الْمَحْمُودُ الصَّادِقُ مَا حَجَزَكَ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، إِنْ لَمْ تَأْتِ بِهَذَا الْخَوْفِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ عُوقِبْتَ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تَأْتِ بِوَاجِبٍ أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ وَفَرَّطْتَ فِي حَقٍّ أَحَقَّهُ اللهُ عَلَيْكَ.

وَاعْلَمْ -أَيُّهَا الْأَخُ الْحَبِيبُ- أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَمِنْ عَظَائِمِ الْإِثْمِ، فَإِنْ تَوَرَّطْتَ فِي ذَلِكَ تَوَرَّطْتَ فِي كَبِيرَةٍ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَعَظِيمَةٍ مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.

 

المصدر: عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: عِظَمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهَا
  خَصَائِصُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ
  الْعَمَلِ بِأَمَانَةٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ في الْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ
  مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى؟!!
  مْلَةٌ مِنْ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ ﷺ الْكَرِيمَةِ وَصِفَاتِهِ النَّبِيلَةِ
  الْعِلْمُ وَالْقُوَّةُ الْعَسْكَرِيَّةُ مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ
  ذِكْرُ اللهِ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ فِي الْإِسْلَامِ
  ضَرُورَةُ تَرْشِيدِ اسْتِهْلَاكِ الْمَاءِ
  مُخْتَصَرُ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَةِ
  الدرس الحادي والعشرون : «الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»
  سُبُلُ تَحْقِيقِ خَيْرِيَةِ الْأُمَّةِ وَاسْتِعَادَةِ رِيَادَتِهَا الْآنَ
  وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
  الْجُودُ وَالْإِيثَارُ فِي رَمَضَانَ
  تَرْغِيبُ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ
  • شارك