((سَبِيلُ نَجَاتِكَ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!))
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : «اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ، فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ».
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَكَلَّمُ».
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حِفْظَ اللِّسَانِ مَعَ حِفْظِ الْفَرْجِ جَوَازًا إِلَى الْجَنَّةِ وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، فَمَنْ ضَمِنَ اللِّسَانَ وَالْفَرْجَ ضَمِنَ لَهُ النَّبِيُّ الْجَنَّةَ؛ قَالَ ﷺ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ: «الضَّمَانُ بِمَعْنَى الْوَفَاءِ بِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَأَطْلَقَ الضَّمَانَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ؛ فَالْمَعْنَى: مَنْ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى لِسَانِهِ مِنَ النُّطْقِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَوِ الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، وَأَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى فَرْجِهِ مِنْ وَضْعِهِ فِي الْحَلَالِ وَكَفِّهِ عَنِ الْحَرَامِ.
وَقَوْلُهُ: «لَحْيَيْهِ».. هُمَا الْعَظْمَانِ فِي جَانِبَيِ الْفَمِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَهُمَا: اللِّسَانُ وَمَا يَتَأَتَّى بِهِ النُّطْقُ، وَبِمَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ: الْفَرْجُ».
وَفِي بَيَانِ أَنَّ اللِّسَانَ قَائِدُ الْأَعْضَاءِ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْوِجَاجِ، أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ لَهُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ؛ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَتَكْفِيرُ الْأَعْضَاءِ لِلِّسَانِ كِنَايَةٌ عَنْ تَنْزِيلِ الْأَعْضَاءِ اللِّسَانَ مَنْزِلَةَ الْكَافِرِ بِالنِّعَمِ.
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ اللِّسَانَ أَخْوَفَ مَا يَخَافُ عَلَى سُفْيَانَ بن عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَقَدْ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ.
قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللهُ.. ثُمَّ اسْتَقِمْ».
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟!!
فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَأَوَّلُ مَذْكُورٍ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي بَيَانِ النَّجَاةِ هُوَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ»؛ فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا النَّجَاةُ؟!
قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ كَفَّ الْمَرْءِ لِسَانَهُ مِلَاكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُعَاذٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ثُمَّ بَيَّنَ ﷺ أَنَّهُ لَا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ.
عَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.
قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ».
ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟! الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ».
ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، حَتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16-17].
ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟».
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!
قَالَ: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ».
ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»
قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ!
فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا».
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!!
فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَقَوْلُهُ ﷺ: «بِمِلَاكِ»؛ أَيْ: بِمَا يَمْلِكُ بِهِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ كُلَّهُ، بِحَيْثُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ.
وَقَوْلُهُ: «يَكُبُّ»؛ مِنْ كَبَّهُ، إِذَا صَرَعَهُ.
وَ«حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»؛ بِمَعْنَى: «مَحْصُودَاتُهُمْ»، عَلَى تَشْبِيهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ بِالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِالْمِنْجَلِ، فَكَمَا أَنَّ الْمِنْجَلَ يَقْطَعُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَجَيِّدٍ وَرَدِيءٍ، كَذَلِكَ لِسَانُ الْمِكْثَارِ، يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ فَنٍّ مِنَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ وَمَا يَقْبُحُ.
وَفِي إِعْرَاضِ الْمَرْءِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ سَمْتٌ حَسَنٌ، وَعَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ؛ كَمَا أَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «مُخْتَصَرِ مِنْهَاجِ الْقَاصِدِينَ»: «فَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ زَمَانِهِ، وَأَنَّهُ رَأْسُ مَالِهِ، لَمْ يُنْفِقْهُ إِلَّا فِي فَائِدَةٍ، وَهَذِهِ الْمَعْرِفَةُ تُوجِبُ حَبْسَ اللِّسَانِ عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي؛ لِأَنَّهُ مَنْ تَرَكَ ذِكْرَ اللهِ -تَعَالَى- وَاشْتَغَلَ بِمَا لَا يَعْنِيهِ، كَانَ كَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِ جَوْهَرَةٍ، فَأَخَذَ عِوَضَهَا مَدَرَةً، وَهَذَا مِنْ خُسْرَانِ الْعُمُرِ».
وَفِي إِنْفَاقِ الْعُمُرِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ ضَيَاعٌ أَيُّ ضَيَاعٍ!! هَذَا إِذَا ذَهَبَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ؟!!
فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى مَا لَا يَرَى بِهِ الْمَرْءُ بَأْسًا، وَهُوَ بَأْسٌ أَيُّ بَأْسٍ؟!!
وَلَا يَصِلُ الْأَمْرُ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَّا بِانْعِدَامِ التَّقْدِيرِ، وَلَا يَنْعَدِمُ تَقْدِيرُ الْعَوَاقِبِ فِي الْكَلَامِ إِلَّا بِالْإِغْرَاقِ فِيهِ إِغْرَاقًا يُغَيِّبُ الْعَقْلَ، أَوْ يَكَادُ يُغَيِّبُهُ، فَلَا يُحْسِنُ عِنْدَ ذَلِكَ تَقْدِيرَ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا، يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ». أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
فَانْظُرْ -هَدَانِي اللهُ وَإِيَّاكَ- إِلَى قَوْلِهِ ﷺ: «لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا»، وَتَأَمَّلْ جَيِّدًا.. أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْفُوَ عَنِّي وَعَنْكَ!
المصدر: الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ