فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ


((فَضْلُ الصِّدْقِ وَذَمُّ الْكَذِبِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)) . وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

((عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ))؛ أَيِ: الْزَمُوا الصِّدْقَ.

وَالصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ.

وَالْخَبَرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَرْكَانِ:

1-أَمَّا بِاللِّسَانِ: فَهُوَ الْقَوْلُ.

2-وَأَمَّا بِالْأَرْكَانِ: فَهُوَ الْفِعْلُ.

وَلَكِنْ.. كَيْفَ يَكُونُ الْكَذِبُ بِالْفِعْلِ؟

إِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ؛ فَهَذَا قَدْ كَذَبَ بِفِعْلِهِ، فَالْمُنَافِقُ -مَثَلًا- كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، وَيَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيَتَصَدَّقُ، وَلَكِنَّهُ بَخِيلٌ، وَرُبَّمَا يَحُجُّ!!

فَمَنْ رَأَى أَفْعَالَهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَا تُنْبِئُ عَمَّا فِي الْبَاطِنِ؛ فَهِيَ كَذِبٌ.

وَلِهَذَا يُقَالُ: الصِّدْقُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَيَكُونُ بِالْأَرْكَانِ، فَمَتَى طَابَقَ الْخَبَرُ الْوَاقِعَ فَهُوَ صِدْقٌ بِاللِّسَانِ، وَمَتَى طَابَقَتْ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ مَا فِي الْقَلْبِ فَهِيَ صِدْقٌ بِالْأَفْعَالِ.

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -عِنْدَمَا أَمَرَ بِالصِّدْقِ-.. بَيَّنَ عَاقِبَتَهُ؛ فَقَالَ : ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ)).

الْبِرُّ: كَثْرَةُ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: الْبَرُّ: أَيْ كَثِيرُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

فَالْبِرُّ يَعْنِي كَثْرَةَ الْخَيْرِ، وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الصِّدْقِ.

وَقَوْلُهُ ﷺ: ((وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ))؛ فَصَاحِبُ الْبِرِّ يَهْدِيهِ بِرُّهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ غَايَةُ كُلِّ مَطْلَبٍ، وَلِهَذَا يُؤْمَرُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ الْجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

وَقَوْلُ النَّبِيِّ : ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)).

وَفِي رِوَايَةٍ: ((وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا)).

وَالصِّدِّيقُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَرَاتِبِ الْخَلْقِ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فَالرَّجُلُ الَّذِي يَتَحَرَّى الصِّدْقَ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدِّيقِيَّةَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَنَالُهَا إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ النَّاسِ، وَتَكُونُ الصِّدِّيقِيَّةُ فِي الرِّجَالِ وَتَكُونُ فِي النِّسَاءِ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75].

وَأَفْضَلُ الصَّدِّيقِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَصْدَقُهُمْ؛ وَهُوَ: أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، الَّذِي اسْتَجَابَ لِلنَّبِيِّ ﷺ حِينَ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ عِنْدَهُ أَيُّ تَرَدُّدٍ وَأَيُّ تَوَقُّفٍ، فَبَمُجَرَّدِ مَا دَعَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ، وَصَدَّقَ النَّبِيَّ ﷺ حِينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، وَصَدَّقَ النَّبِيَّ حِينَ أَخْبَرَ عَنِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ وَكَذَّبَهُ النَّاسُ، وَقَالُوا: كَيْفَ تَذْهَبُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَتَرْجِعُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّكَ صَعِدْتَ إِلَى السَّمَاءِ؟! فَهَذَا لَا يُمْكِنُ! ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالُوا لَهُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ؟

قَالَ: وَمَاذَا قَالَ؟

قَالُوا: إِنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ)).

فَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمِّيَ بِالصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .

وَأَمَّا الْكَذِبُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ مِنْهُ؛ فَقَالَ: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ)).

((إِيَّاكُمْ)): لِلتَّحْذِيرِ؛ أَيِ: احْذَرُوا الْكَذِبَ.

وَالْكَذِبُ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: مَا الْيَوْمُ؟ فَقُلْتَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْخَمِيسِ، أَوْ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ.. فَهَذَا كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ.

وَالْمُنَافِقُ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَهُوَ كَافِرٌ، فَهُوَ كَاذِبٌ بِفِعْلِهِ.

وَقَوْلُهُ : ((وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ)).

الْفُجُورُ: الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَفْسُقُ، وَيَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَيَخْرُجُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ -تَعَالَى- إِلَى مَعْصِيَتِهِ.

وَأَعْظَمُ الْفُجُورِ الْكُفْرُ.. عِيَاذًا بِاللهِ، وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّفِيعِ؛ فَإِنَّ الْكَفَرَةَ فَجَرَةٌ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين: 7-11].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14].

فَالْكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ.. نَعُوذُ بِاللهِ -تَعَالَى- مِنْهَا.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ : ((وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ)).

وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)).

وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) , مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ)).

فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ النِّفَاقُ الْعَمَلِيُّ؛ مَنْ أَتَى بِهَذِهِ الْخِصَالِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَفِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا؛ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ: مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ يَأْتِي بِالْمَقَالَةِ كَاذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهَا كَذِبٌ، لَكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ!!

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْوَعِيدُ عَلَى هَذَا؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَيْلٌ لِلَّذِي يُحْدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ)) . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

وَهَذَا وَعِيدٌ عَلَى أَمْرٍ سَهْلٍ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، يَأْتِي بِالْكِذْبَةِ وَيُلْقِي بِالْكَلِمَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ، يَكْتُبُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ بِذَلِكَ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ .

فَالْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الَّذِي مَرَّ -أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضْحِكَ النَّاسَ-، الْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، وَكُلُّهُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) ، أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: فِي الْحَرْبِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَحَدِيثِهِ إِيَّاهَا.

وَلَكِنْ.. بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: ((إِنَّ الْمُرَادَ بِالْكَذِبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّوْرِيَةُ، وَلَيْسَ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ.. قَالَ: التَّوْرِيَةُ قَدْ تُسَمَّى كَذِبًا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى؛ قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]، وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ...)). الْحَدِيثَ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

وَإِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا-  لَمْ يَكْذِبْ، وَإِنَّمَا وَرَّى تَوْرِيَةً هُوَ فِيهَا صَادِقٌ؛ فَسَمَّى النَّبِيُّ ﷺ تِلْكَ التَّوْرِيَةَ كَذِبًا.

وَأَمَّا الْكَذِبُ الْمَعْهُودُ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَرَّأَ مِنْهُ أَنْبِيَاءَهُ، وَخَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ: ((لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ)).

وَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ: ((إِنَّ الْكَذِبَ الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ عَنْ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا هُوَ تَوْرِيَةٌ؛ فَقَدْ وَرَّى تَوْرِيَةً هُوَ فِيهَا صَادِقٌ ﷺ )).

وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَقِّ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَمَقَامُهُمْ مَحْفُوظٌ، وَمَقَامُهُمْ عَالٍ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَعِنْدَ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَرَّءُوا مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُثِيرًا نَقْصًا عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ؛ لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: ((إِنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا وَرَّى تَوْرِيَةً هُوَ فِيهَا صَادِقٌ)).

سَوَاءٌ كَانَ هَذَا أَوْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: ((الْكَذِبُ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا؛ لَا مَزْحًا، وَلَا جِدًّا، وَلَا إِذَا تَضَمَّنَ أَكْلَ مَالٍ أَوْ لَا)).

وَأَشَدُّ شَيْءٍ مِنَ الْكَذِبِ: أَنْ يَكْذِبَ وَيَحْلِفَ لِيَأْكُلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ حَقًّا ثَابِتًا، فَيَأْتِي هَذَا فَيُنْكِرُ وَيَقُولُ: وَاللهِ مَا لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ! أَوْ يَدَّعِيَ مَا لَيْسَ لَهُ فَيَقُولَ: لِي عِنْدَكَ كَذَا وَكَذَا! وَهُوَ كَاذِبٌ؛ فَهَذَا إِذَا حَلَفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَكَذَبَ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الَّتِي تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، ثُمَّ تَغْمِسُهُ فِي النَّارِ.. وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ لَهَا، أَمَّا الَّتِي يَحْنَثُ فِيهَا فَهِيَ الَّتِي يُكَفِّرُ عَنْهَا، وَأَمَّا اللَّغْوُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.. وَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؛ فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ لَهَا، يَتُوبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَرُدُّ الْمَظَالِمَ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْيَمِينِ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ وَقَعَ بِسَبَبِ يَمِينِهِ، وَلَكِنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ، ثُمَّ تَغْمِسُهُ فِي النَّارِ.. وَالْعِيَاذُ بِاللهِ.

وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ -أَيْ فِي تِلْكَ الْيَمِينِ-؛ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكْذِبَ مُطْلَقًا، لَا هَازِلًا وَلَا جَادًّا، إِلَّا فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْكَذِبُ مُطْلَقًا لَا فِي جِدٍّ وَلَا فِي هَزْلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْرِيَةِ كَمَا مَرَّ بِشَأْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.

عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ صَحِيحٌ)) ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ.

((دَعْ مَا يَرِيبُكَ))؛ دَعْ: أَيِ اتْرُكْ.

((مَا يَرِيبُكَ))؛ بِفَتْحِ الْيَاءِ؛ أَيْ: مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ.

((إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)): إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.

قَالَ النَّبِيُّ : ((فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ))؛ فَهَذَا وَجْهُ الشَّاهِدِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ بَابُ الصِّدْقِ، كَمَا عَقَدَ لِذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الرِّيَاضِ)).

فَالصِّدْقُ طُمْأَنِينَةٌ، لَا يَنْدَمُ صَاحِبُهُ أَبَدًا، وَلَا يَقُولُ: لَيْتَنِي وَلَيْتَنِي؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وَالصَّادِقُونَ يُنَجِّيهِمُ اللهُ -تَعَالَى- بِصِدْقِهِمْ.

وَتَجِدُ الصَّادِقَ دَائِمًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ أَوْ شَيْءٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَقَ، وَمَنْ صَدَقَ نَجَا.

أَمَّا الْكَذِبُ؛ فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ أَنَّهُ رِيبَةٌ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَوَّلَ مَنْ يَرْتَابُ فِي الْكَاذِبِ نَفْسَهُ، فَيَرْتَابُ الْكَاذِبُ هَلْ يُصَدِّقُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يُصَدِّقُونَهُ؟!!

وَلِهَذَا تَجِدُ الْكَاذِبَ إِذَا أَخْبَرَكَ بِالْخَبَرِ قَامَ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُ صَدَقَ؛ لِئَلَّا يُرْتَابَ فِي خَبَرِهِ، مَعَ أَنَّهُ مَحَلُّ رِيبَةٍ.

تَجِدُ الْمُنَافِقِينَ -مَثَلًا- يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا، وَلَكِنَّهُمْ فِي رِيبَةٍ.

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].

فَالْكَذِبُ لَا شَكَّ أَنَّهُ رِيبَةٌ وَقَلَقٌ لِلْإِنْسَانِ، وَيَرْتَابُ الْإِنْسَانُ هَلْ عَلِمَ النَّاسُ بِكَذِبِهِ أَمْ لَمْ يَعْلَمُوا؟!!

فَلَا يَزَالُ فِي شَكٍّ وَاضْطِرَابٍ.

 فَنَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ الْكَذِبَ إِلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَطُمَأْنِينَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)).

وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالصِّدْقِ مِنْ بِدَايَةِ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاضِحًا عِنْدَ الْكَافِرِينَ.. عِنْدَ الْمَدْعُوِّينَ، كَانَ وَاضِحًا لَا امْتِرَاءَ فِيهِ؛ فَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بَنْ حَرْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ هِرَقْلَ-.

قَالَ هِرَقْلُ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ -يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ-.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ.. وَكَانَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قُلْتُ: يَقُولُ  ﷺ: ((اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ)) . وَحَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي أَوَّلِ مَا أَمَرَ بِهِ مُنْذُ بِدَايَةِ الْبَعْثَةِ بِالصِّدْقِ.

عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، فَإِذَا صَدَقْتُمْ أَفْلَحْتُمْ وَنَجَحْتُمْ، وَإِنْ كَذَبْتُمْ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ جَزَاءَ الْكَاذِبِينَ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي فَضْلِ الصِّدْقِ وَذَمِّ الْكَذِبِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا الصِّدْقَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالنِّيَّاتِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْإِخْلَاصَ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَالْإِحْسَانَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 

المصدر: الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  التَّرْهِيبُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُقُوقِ
  فَضْلُ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
  مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ: ذِكْرُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  نِدَاءٌ إِلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: كُونُوا عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ
  نَمَاذِجُ مِنْ قَضَاءِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَوَائِجَ الْمُحْتَاجِينَ
  سُبُلُ التَّغْيِيرِ لِصَلَاحِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْأُمَّةِ
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالصِّغَارِ
  وَاجِبُ الْعَبْدِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ
  احْذَرْ مِنَ الْبَطَالَةِ وَمِنَ الْفَارِغِينَ!!
  أَفْضَلُ الصُّوَّامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ
  زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ
  مَعَانِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَحُكْمُهُمَا
  أَسْمَى الْآمَالِ الرَّجَاءُ فِي رَحْمَةِ اللهِ
  • شارك