مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا


 ((مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا))

عِبَادَ اللهِ! مَا أَحْوَجَنَا إِلَى الصِّدْقِ؛ صِدْقِ الْقَلْبِ، وَصِدْقِ الْجَوَارِحِ، وَصِدْقِ اللِّسَانِ، وَأَخَّرْتُ صِدْقَ اللِّسَانِ عَمْدًا؛ لِأَنَّ صِدْقَ اللِّسَانَ فَرْعٌ عَنْ صِدْقِ الْقَلْبِ، فَصِدْقُ الْقَلْبِ هُوَ الْأَصْلُ، وَتَمَامًا كَالظِّلِّ وَالْعُودِ، لَا يَسْتَقِيمُ الظِّلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ؛ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ اللِّسَانُ بِصِدْقِهِ وَفِي الْقَلْبِ مَا فِيهِ بِكَذِبِهِ، وَإِذَا اسْتَقَامَ الْقَلْبُ اسْتَقَامُ اللِّسَانِ وَاسْتَقَامَتِ الْجَوَارِحُ.

فِي ((الْمَقَايِيسِ))، وَ((الْمُفْرَدَاتِ))، وَ((اللِّسَانِ)): ((الصِّدْقُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: صَدَقَ يَصْدُقُ صِدْقًا، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (الصَّادِ وَالدَّالِ وَالْقَافِ)، الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُوَّةٍ فِي الشَّيْءِ قَوْلًا أَوْ غَيْرَ قَوْلٍ.

مِنْ ذَلِكَ: الصِّدْقُ.. خِلَافَ الْكَذِبِ؛ لِقُوَّتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ لَا قُوَّةَ لَهُ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَصْلُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ: شَيْءٌ صَدْقٌ؛ أَيْ: صُلْبٌ، وَرُمْحٌ صَدْقٌ، وَيُقَالُ: صَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ، وَفِي خِلَافِ ذَلِكَ: كَذَبُوهُمْ)) .

وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ أَصْلُهُمَا فِي الْقَوْلِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَعْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَا يَكُونَانِ فِي الْقَوْلِ إِلَّا فِي الْخَبَرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا})).

وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: ((الصِّدْقُ نَقِيضُ الْكَذِبِ؛ يُقَالُ: صَدَقَهُ الْحَدِيثَ أَنْبَأَهُ بِالصِّدْقِ، وَصَدَقْتُ الْقَوْمَ: قُلْتُ لَهُمْ صِدْقًا، وَرَجُلٌ صَدُوقٌ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ، وَالصِّدِّيقُ: الدَّائِمُ التَّصْدِيقِ، وَيَكُونُ -أَيْضًا- الَّذِي يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِالْعَمَلِ، وَالصِّدِّيقُ الْمُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ)).

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((وَالصِّدِّيقُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.

الصِّدِّيقُونَ فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى- هَذَا: جَمْعُ صِدِّيقٍ، وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ أَوِ التَّصْدِيقِ، أَوْ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُهُ بِلِسَانِهِ، وَقِيلَ: هُمْ فُضَلَاءُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

أَمَّا الصَّادِقُونَ الَّذِينَ أَمَرَنَا الْمَوْلَى بِأَنْ نَكُونَ مَعَهُمْ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، فَهُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ لَا مَعَ الْمُنَافِقِينَ، وَالْمَعْنَي: كُونُوا عَلَى مَذْهَبِ الصَّادِقِينَ وَسَبِيلِهِمْ، وَقِيلَ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا، وَقِيلَ: هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينِ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ مَعَ بَوَاطِنِهِمْ)) .

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : (({وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِيْ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُوْنَ}، فَقَدْ قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَقِيلَ: جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، أَمَّا الَّذِي جَاءَ بِهِ فَهُوَ مُحَمَّدٌ ﷺ، جَاءَ بِالصِّدْقِ؛ أَيْ: جَاءَ بِـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) )).

وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: ((الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هُمْ أَصْحَابُ الْقُرْآنِ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَجِيئُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُونَ: هَذَا مَا أَعْطَيْتُمُونَا فَعَمِلْنَا فِيهِ بِمَا أَمَرْتُمُونَا » ؛ ؛ يَعْنُونَ الْوَحْيَ الْمَعْصُومَ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ مُجَاهِدٍ يَشْمَلُ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ أَوْلَى النَّاسِ بِالدُّخُولِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ.

وَحُكِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ هُوَ الرَّسُولُ ﷺ، وَأَنَّ الَّذِي صَدَّقَ بِهِ هُمُ الْمُسْلِمُونَ)) )).

فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلَ مَعْنَى الصِّدْقِ لُغَةً.

وَأَمَّا الصِّدْقُ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ: ((الصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْقَوْلِ الضَّمِيرَ وَالْمُخْبَرَ عَنْهُ مَعًا، وَمَتَى انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صِدْقًا تَامًّا، بَلْ إِمَّا أَلَّا يُوصَفَ بِالصِّدْقِ، وَإِمَّا أَنْ يُوصَفَ تَارَةً بِالصِّدْقِ وَتَارَةً بِالْكَذِبِ، عَلَى نَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ كَقَوْلِ كَافِرٍ إِذَا قَالَ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ فَإِنَّ هَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صِدْقٌ؛ لِكَوْنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: كَذِبٌ؛ لِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ ضَمِيرَهُ، وَبِالْوَجْهِ الثَّانِي إِكْذَابُ اللهِ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ قَالُوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ})).

وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: ((الصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ، وَهَذَا هُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَقِيلَ: اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ؛ بِأَلَّا تُكَذِّبَ أَحْوَالُ الْعَبْدِ أَعْمَالَهُ، وَلَا أَعْمَالُهُ أَحْوَالَهُ، وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ مَا يَكُونُ)) .

الصِّدْقُ: اسْتِوَاءُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ.. الصِّدْقُ: اسْتِوَاءُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، بِأَلَّا تُكَذِّبَ أَحْوَالُ الْعَبْدِ أَعْمَالَهُ، وَلَا أَعْمَالُهُ أَحْوَالَهُ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَالصِّدْقُ: مَعْنَاهُ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ؛ هَذَا فِي الْأَصْلِ، وَيَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ، فَإِذَا أَخْبَرْتَ بِشَيْءٍ وَكَانَ خَبَرُكَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ قِيلَ إِنَّهُ صِدْقٌ، كَأَنْ تَقُولَ عَنْ هَذَا الْيَوْمِ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ فَهَذَا خَبَرٌ صِدْقٌ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا قُلْتَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ؛ فَهَذَا خَبَرٌ كَذِبٌ.

فَالْخَبَرُ إِنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ فَهُوَ صِدْقٌ، وَإِنْ خَالَفَ الْوَاقِعَ فَهُوَ كَذِبٌ، وَكَمَا يَكُونُ الصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ يَكُونُ الصِّدْقُ -أَيْضًا- فِي الْأَفْعَالِ.

فَالصِّدْقُ فِي الْأَفْعَالِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بَاطِنُهُ مُوَافِقًا لِظَاهِرِهِ، بِحَيْثُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَا فِي قَلْبِهِ، فَالْمُرَائِي -مَثَلًا- لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنَ الْعَابِدِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالْمُشْرِكُ مَعَ اللهِ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ أَنَّهُ مُوَحِّدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْمُنَافِقُ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. وَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَلَيْسَ بِمُتَّبِعٍ.

فَالْمُهِمُّ أَنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَهُوَ مِنْ سِمَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ صِفَاتِهِمْ، وَعَكْسُهُ الْكَذِبُ، وَهُوَ مِنْ سِمَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَمِنْ خِصَالِهِمْ)).

 

المصدر: الصِّدْقُ وَأَثَرُهُ فِي صَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  سُبُلُ التَّغْيِيرِ لِصَلَاحِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْأُمَّةِ
  حُكْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ
  أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعَطَاءِ لِلْوَطَنِ: الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ
  الْإِسْلَامُ دِينُ نِظَامٍ وَالْتِزَامٍ
  ذِكْرُ اللهِ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ فِي الْإِسْلَامِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْهِدَايَةِ
  ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  عَدَمُ مُبَالَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ!!
  اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ
  الْبَذْلُ وَقَضَاءُ الْحَوَائِجِ عِنْدَ سَادَةِ الْبَشَرِ
  أَصْنَافُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُقُوقُهُمْ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ
  آثَارٌ عَظِيمَةٌ لِلرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى الْعَالَمِ
  اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْحَلِيمُ الْوَدُودُ
  وَسَائِلُ سَلَامَةِ الْقَلْبِ
  حُقُوقُ الْأَطْفَالِ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك