الِاسْتِسْلَامُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَاخِصًا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
فَإِنَّ الْمَشَاعِرَ وَمَوَاضِعَ الْأَنْسَاكِ -فِي الْحَجِّ- مِنْ جُمْلَةِ الْحِكَمِ فِيهَا؛ أَنَّ فِيهَا تَذْكِيرَاتٌ بِمَقَامَاتِ الْخَلِيلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ فِي عِبَادَاتِ رَبِّهِمْ، وَإِيمَانًا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، وَحَثًّا عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ الدِّينِيَّةِ، وَكُلُّ أَحْوَالِ الرُّسُلِ دِينِيَّةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: لَمَّا وَهَبَ مَلِكُ مِصْرَ لِسَارَّةَ؛ هَاجَرَ -وَهِيَ جَارِيَةٌ قِبْطِيَّةٌ-، وَكَانَتْ سَارَّةُ عَاقِرًا مُنْذُ كَانَتْ شَابَّةً، فَوَهَبَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِإِبْرَاهِيمَ لِيَتَسَرَّرَهَا لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُهُ مِنْهَا وَلَدًا، فَأَتَتْ هَاجَرُ بِإسْمَاعِيلَ عَلَى كِبَرِ إِبْرَاهِيمَ، فَفَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلَكِنَّ سَارَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ فَحَلَفَتْ أَنْ لَا يُسَاكِنَهَا بِهَا، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُه اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ لِذَهَابِه بِهَا إِلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَهُ ذَلِكَ –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-.
فَذَهَبَ بِهَا وَبِابْنِها إِسْمَاعِيلَ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهَا سَكَنٌ وَلَا مَسْكَنٌ وَلَا مَاءٌ وَلَا زَرْعٌ وَلَا غَيْرُهُ، وَزَوَدَهُمَا بِسِقَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَجِرَابٍ فِيهِ تَمْرٌ، وَوَضَعَهُمَا عِنْدَ دَوْحَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مَحِلِّ بِئْرِ زَمْزَم، ثُمَّ قَفَّى عَنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّنِيَّةِ بِحَيْثَ يُشْرِفُ عَلَيْهِمَا دَعَا اللهَ تَعَالَى، فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم : 37] إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ.
ثُمَّ اسْتَسْلَمَتْ لِأَمْرِ اللهِ، وَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى نَفِدَا، فَعَطِشَتْ ثُمَّ عَطِشَ وَلَدُهَا، فَجَعَلَ يَتَلَوَّى مِنَ الْعَطَشِ، ثُمَّ ذَهَبَتْ فِي تِلْكَ الْحَالِ لَعَلَّهَا تَرَى أَحَدًا أَوْ تَجِدُ مُغِيثًا، فَصَعِدَتْ أَدْنَى جَبَلٍ مِنْهَا وَهُوَ الصَّفَا، وَتَطَلَّعَتْ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْمَرْوَةِ فَصَعَدَتْ عَلَيْهِ فَتَطَلَّعَتْ، فَلَمْ تَرَ أحدًا.
ثُمَّ جَعَلَتْ تَتَرَدَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهِيَ مَكْرُوبَةٌ مُضْطَرَّةٌ مُسْتَغِيثَةٌ بِاللهِ لَهَا وَلِابْنِها، وَهِيَ تَمْشِي وَتَلْتَفِتُ إِلَيْهِ خَشْيَةَ السِّبَاعِ عَلَيْهِ، فَإِذَا هَبَطَتِ الْوَادِي سَعَتْ حَتَّى تَصْعَدَ مِنْ جَانِبِهِ الِآخَرِ؛ لِئَلَّا يَخْفَى عَلَى بَصَرِهَا ابْنُهَا.
وَالْفَرَجُ مَعَ الْكَرْبِ، وَالْعُسْرُ يَتْبَعُهُ الْيُسْرُ، فَلَمَّا تَمَّتْ سَبَعَ مَرَّاتٍ تَسَمَّعَتْ حِسَّ الْمَلَكِ، فَبَحَثَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ زَمْزَمُ فَنَبَعَ الْمَاءُ، فَاشْتَدَّ فَرَحُ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، وَحَمِدَتِ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْكُبْرَى، وَحَوَّطَتْ عَلَى الْمَاءِ لِئَلَّا يَسِيحَ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ مَاءَ زَمْزَمٍ -أَيْ: لَمْ تَحُطْهُ-؛ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا -أَيْ مَاءً ظَاهِرًا-». وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي «الصَّحِيحِ».
ثُمَّ عَثَرَ بِهَا قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ يُقَالُ لَهُمْ (جُرْهُمُ)، فَنَزَلُوا عِنْدَهَا وَتَمَّتْ عَلَيْهَا النِّعْمَةُ، وَشَبَّ إِسْمَاعِيلُ شَبَابًا حَسَنًا، وَأَعْجَبَ الْقَبِيلَةَ بَأَخْلَاقِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَكَمَالِه، فَلَمَّا بَلَغَ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ امْرَأَةً، فَفِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَاتَتْ أُمُّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِغَيْبَةِ إِسْمَاعِيلَ يَتَصَيَّدُ -مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً-.
فَلَمَّا عَادَ إِبْرَاهِيمُ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ فَوَجَدَ إِسْمَاعِيلَ يَبْرِي نَبْلًا عِنْدَ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ الشَّفِيقُ وَالْوَلَدُ الشَّفِيقُ.
فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللهَ أَمَرَني أَنْ أَبْنيَ هَاهُنَا بَيْتًا يَكُونُ مَعْبَدًا لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
قَالَ: سَأُعِينُكَ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 -129].
فَلَمَّا تَمَّ بُنْيَانُهُ، وَتَمَّ لِلْخَلِيلِ هَذَا الْأَثَر الْجَلِيلِ؛ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يَدْعُو النَّاسَ وَيُؤَذِّنُ فِيهِمْ بِحَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، فَجَعَلَ يَدْعُو النَّاسَ وَهُمْ يَفِدُونَ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَيَسْعَدُوا وَلِيَزُولَ عَنْهُمْ شَقَاؤُهُمْ.
وَفِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ حِينَ تَمَكَّنَ حُبُّ إِسْمَاعِيلَ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَمْتَحِنَ خَلِيلَهُ إِبْرَاهِيمَ لِتَقْدِيمِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ وَخُلَّتِهِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْمُشَارَكَةَ وَالْمُزَاحَمَةَ، فَأَمَرَهُ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَذْبَحَ إِسْمَاعِيلَ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، فَقَالَ لِإِسْمَاعِيلَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أَيْ: خَضَعَا لِأَمْرِ اللهِ، وَانْقَادَا لِأَمْرِهِ تَعَالَى، وَوَطَّنَا أَنْفُسُهُمَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمُزْعِجِ الَّذِي لَا تَكَادُ النُّفُوسُ تَصْبِرُ عَلَى عُشْرِ مِعْشَارِهِ.
{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} نَزَلَ الْفَرَجُ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يا إِبْرَاهِيمُ} {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 102 -105].
فَحَصَلَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى هَذِهِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلْوَى الشَّاقَّةِ الْمُزْعِجَةِ، وَحَصَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالْجَزْمُ الْمُصَمِّمُ، وَتَمَّ لَهُمَا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ، وَحَصَلَ لَهُمَا الشَّرَفُ وَالْقُرْبُ وَالزُّلْفَى مِنَ اللهِ، وَمَا ذَلِكَ مِنْ أَلْطَافِ الرَّبِ بِعَزِيزٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 105 -107].
وَأيُّ ذِبْحٍ أَعْظَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَصَلَ بِهِ مَقْصُودُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الَّتِي لَا يُشْبِهُهَا عِبَادَة، وَصَارَ سُنَّةً فِي عَقِبِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ، وَيُدْرَكُ بِهِ ثَوَابُهُ وَرِضَاهُ:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108 و109].
ثُمَّ إِنَّ اللهَ أَتَمَّ النِّعْمَةَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ زَوْجْتَهُ سَارَّةَ عَلَى الْكِبَرِ وَالْعُقْمِ وَالْيَأْسِ بِالبِشَارَةِ بِالِابْنِ الْجَلِيلِ وَهُوَ إِسْحَاقُ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ.
*التَّسْلِيمُ للهِ مُجَسَّدًا فِي عِبَادَةِ الْحَجِّ:
نَبِيُّكُمْ ﷺ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: ((خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ))، وَإِنَّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْإِيمَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَادِيًا، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْإِيمَانِ، يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اتْرُكْ أَهْلَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: غَادِرْ وَطَنَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اخْلَعْ ثَوْبَكَ.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: طُفْ بِالْبَيْتِ سَبْعًا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: اسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا.
فَيَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: انْحَرْ هَدْيَكَ.
يَقُولُ: نَعَمْ.
يَقُولُ لِلْعَبْدِ: احْلِقْ رَأْسَكَ.
يَقُولُ: نَعَمْ.
يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمْرَ هَكَذَا، وَعَلَى اسْتِجَابَةٍ مِنْ عَبْدِهِ هَكَذَا.
النَّبِيَّ ﷺ حَجَّ فِي الْإِسْلَامِ حَجَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
وَقَدْ عَلَّلَ الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- ذَلِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَلَاعَبُونَ بِالشُّهُورِ، وَكَانَ النَّسَأَةُ يُؤَخِّرُونَ وَيُقَدِّمُونَ؛ فَاخْتَلَّ مِيزَانُ السَّنَةِ عَمَّا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَقَعَتْ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ.
فَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَشَهِدَ الْمَوْسِمَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَأَخْبَرَ ((أَنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَعَادَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَعْدَلَ أَحْوَالِهَا كَمَا خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّ زَمَانَ التَّلَاعُبِ بِالْأَشْهُرِ قَدْ مَضَى وَلَنْ يَعُودَ.
النَّبِيُّ ﷺ يُذَكِّرُنَا حَجُّهُ بِمَا كَانَ قَبْلُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ وَبِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَبِالْمَشَاعِرِ وَالْمَنَاسِكِ كُلِّهَا وَيُعْلِنُ التَّوْحِيدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقَبِّلُ حَجَرًا، وَيَرْجُمُ حَجَرًا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ يُطِيعُ رَبَّهُ وَيَدْعُو إِلَى دِينِهِ مُتَمَسِّكًا بِهُ، صَابِرًا عَلَى الْأَذَى فِيهِ.
فَالْحَجُّ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَاسْتِجَابَةٌ لِنِدَائِهِ، وَهَذِهِ الِاسْتِجَابَةُ، وَهَذَا الِامْتِثَالُ تَتَجَلَّى فِيهِمَا الطَّاعَةُ الْخَالِصَةُ وَالْإِسْلَامُ الْحَقُّ.
المصدر :قِصَّةُ الذَّبِيحِ وَمَظَاهِرُ الِاسْتِسْلَامِ للهِ فِي الْحَجِّ