((صِدْقُ وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ بِشَهَادَةِ أَعْدَائِهِ))
النَّبِيُّ ﷺ صَاحِبُ السِّيرَةِ الْكَامِلَةِ، لَا يَخْفَى مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْدَاءَ -أَعْدَاءَ النَّبِيِّ ﷺ- هُمْ أَوَائِلُ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِي كَلَامِهِ وَإِنْ جَحَدُوا وَكَذَّبُوا مَنْهَجَهُ.
وَهَذَا إِمَامُهُمُ الْأَكْبَرُ وَرَئِيسُهُمُ الْأَعْظَمُ أَبُو جَهْلٍ يَلْقَى النَّبِيَّ ﷺ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّكَ كَاذِبٌ، وَلَكِنِّي أَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ! {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
أَنْتَ عِنْدَنَا صَادِقٌ، وَلَكِنَّنَا نَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ!!
قَدِيمًا قَالَ الشَّاعِرُ الْقَدِيمُ:
كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِزَالَتُهَا = إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ
وَعَدَاوَةُ هَؤُلَاءِ كَانَتْ لِلرَّسُولِ ﷺ عَنْ حَسَدٍ، فَلَا تُرْجَى إِزَالَتُهَا بِحَالٍ أَبَدًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لِلْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ -وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهِ-: يَا خَالُ -يَقُولُ لِأَبِي جَهْلٍ- مُحَمَّدٌ أَكُنْتُمْ تَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟!! فَقَالَ: يَا ابْنَ أُخْتِي! هَذَا رَجُلٌ كُنَّا نَدْعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ بِمَا جَاءَ بِهِ -يَعْنِي مِنَ الْهِدَايَةِ، وَالْحَقِّ، وَالْخَيْرِ، وَالنُّورِ، وَالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالسُّنَّةِ الْمُشَرَّفَةِ- كُنَّا نَدْعُوهُ -نُلَقِّبُهُ- بِالصِّادِقِ الْأَمِينِ.
((وَمَا كَانَ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى رَبِّ النَّاسِ!!)) .
لَا يَسْتَقِيمُ!!
إِذَنْ؛ هُوَ عِنْدَكَ صَادِقٌ، هُوَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِنَّكَ كَاذِبٌ، أَنْتَ عِنْدِي صَادِقٌ، وَلَكِنِّي أَجْحَدُ مَا جِئْتَ بِهِ!
قَالُوا فِيهِ مَا قَالُوا؛ سَاحِرٌ.. كَاهِنٌ.. مَجْنُونٌ.. قَالُوا فِيهِ ﷺ مَا قَالُوا، وَلَكِنْ.. أَخْلَاقُهُ حِمًى مَصُونٌ لَا يَسْتَطِيعُ لِسَانٌ أَنْ يَلَغَ فِيهِ أَبَدًا، وَلَا يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ -أَبَدًا- مَهْمَا بَلَغَ بِهِ الْفُجُورُ فِي الْخُصُومَةِ أَنْ يَقُولَ فِي النَّبِيِّ ﷺ شَيْئًا يَمَسُّ الْأَخْلَاقَ بِحَالٍ.
يَقُولُ: إِنَّ الشَّمْسَ فِي رَائِعَةِ الضُّحَى وَاسْتِوَائِهَا فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ظُهْرًا لَا وُجُودَ لَهَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَشِعَّةَ لَهَا تَبْدُو فِي الْأَجْوَاءِ!! يَقُولُ هَذَا فَيُقْبَلُ مِنَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي أَخْلَاقِ مُحَمَّدٍ شَيْئًا ﷺ.
فَلِمَ إِذَنْ تُكَذِّبُهُ؟!!
وَلِمَ لَا تَتَّبِعُهُ؟!!
فَانْظُرْ إِلَى الْعِلَّةِ الْعَلِيلَةِ وَالْجَهَالَةِ الْجَهْلَاءِ الْمَرِيضَةِ.. انْظُرْ إِلَى الْعِلَّةِ الْعَلِيلَةِ وَالْجَهَالَةِ الْجَهْلَاءِ الْمُظْلِمَةِ فِي الْبَاعِثِ عَلَى جَحْدِهِ وَعَدَمِ اتِّبَاعِهِ، يَقُولُ: نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ -قَوْمُ مُحَمَّدٍ ﷺ وَرَهْطُهُ- كُنَّا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ بِمَا جَاءَ بِهِ كَفَرَسَيْ رِهَانٍ فِي حَلْبَةٍ نَتَسَابَقُ؛ أَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، وَأَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَسَقَوْا فَسَقَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَسَاوَيْنَا عَلَى الرَّكْضِ، وَتَحَازَتِ الرُّكَبُ -يَعني إِذَا مَا كُنَّا مُتَسَاوِينَ، إِذَا مَا قَدْ أَصْبَحْنَا مُتَقَارِبِينَ، لَا سَابِقَ وَلَا مَسْبُوقَ-، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَأَنَّى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟!!
هُوَ يَقُولُ لِابْنِ أُخْتِهِ فِي كَلَامٍ يُقْرَأُ مِنْ بَيْنِ سُطُورِ مَا قَالَ: إِنَّ خَالَكَ -يَا أَخْنَسُ- لَا يَصْلُحُ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْمَكَارِمِ!!
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ = شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
إِنَّ خَالَكَ يَا أَخْنَسُ -يَقُولُهَا مُتَلَفِّعَةً بِظَلْمَاءِ حَدِيثِهِ وَبِغَيَابَةِ كَلَامِهِ، يَقُولُهَا بَيْنَ سُطُورِ مَقَالَتِهِ لِابْنِ أُخْتِهِ- يَقُولُ لَهُ: فَأَنَّى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟!! إِنْ قُلْنَا لِلنَّاسِ إِنَّ خَالَكَ قَدْ أَصْبَحَ نَبِيًّا مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَنَكُونَنَّ ضُحْكَةَ النَّاسِ الدَّهْرَ كُلَّهُ، وَلَأَصْبَحْنَا هُزْأَةً!! فَنَحْنُ لَا يَرْكَبُ عَلَى تَكْوِينِنَا وَلَا هِيَ عَلَى قَدِّنَا أَمْثَالُ هَذِهِ الْمَكَارِمِ الَّتِي قَدْ فَاقَتِ السُّحُبَ وَتَجَاوَزَتْ أَجْوَاءَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى.
هَذَا مُحَمَّدٌ ﷺ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا وَرَسُولًا، هَذَا مُهَيَّأٌ مُنْذُ وِلَادَتِهِ ﷺ، هَذَا مُهَيَّأٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلَابِ يَنْحَدِرُ مِنْ صُلْبٍ طَاهِرٍ إِلَى رَحِمٍ مِنَ الرِّجْسِ مُبَرَّأٍ حَتَّى ظَهَرَ لِلْوُجُودِ نَبِيًّا وَرَسُولًا ﷺ.
يَقُولُ: وَأَمَّا أَنَا.. وَأَمَّا خَالُكَ؛ فَمَنْ يَكُونُ؟!! لَا يُصَدِّقُنَا النَّاسُ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ.
وَإِذَنْ؛ فَمَا الْحَلُّ؟!!
إِذَنِ الْحَلُّ أَنْ نُعَادِيَهُ، وَالْحَلُّ أَنْ نَكُونَ فِي الْخَنْدَقِ الَّذِي يُقَابِلُهُ، وَأَنْ نَحْمِلَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُشَوِّهَ دَعْوَتَهُ، وَأَنْ نُحَارِبَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ﷺ.
الرَّسُولُ ﷺ هُوَ الْوَحِيدُ فِي الْعَالَمِ الَّذِي تُحْفَظُ أَحْوَالُهُ مُنْذُ كَانَ حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَقَبْلَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْوَحِيدُ ﷺ الَّذِي سُرِدَتْ دَقَائِقُ أَحْوَالِهِ، وَالَّذِي أَتَى بِالصِّدْقِ كُلِّهِ وَبِالْحَقِّ جَمِيعِهِ، فَلَمْ يُخْفَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَهُوَ ﷺ صَاحِبُ الْخُلُقِ السَّجِيحِ، هُوَ ﷺ الرِّفْقُ كُلُّهُ فِي مَوْطِنٍ يَحْسُنُ فِيهِ الرِّفْقُ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ كُلُّهُ فِي مَوْطِنٍ لَا يَحْسُنُ فِيهِ إِلَّا الْإِقْدَامُ، هُوَ ﷺ يَلْبَسُ لِكُلِّ حَالٍ لَبُوسَهَا، وَيَكُونُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَقَالِهِ، وَهُوَ ﷺ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ = لَكَانَ مَظْهَرُهُ يُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ. ﷺ
تَخْرُجُ لَا أَقُولُ مِنَ الْجِهَازِ الصَّوْتِيِّ؛ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ -أَحْيَانًا، بَلْ فِي جُمْلَةِ الْأَحْيَانِ، بَلْ فِي أَكْثَرِ الْأَحَايِينِ- لَغْوًا مِنَ اللَّغْوِ، وَكَلَامًا بِغَيْرِ حَقِيقَةٍ، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ كَلِمَةٌ تَسْتَفِزُّ فِيهَا الرُّوحُ اللِّسَانَ فَتَنْطِقُ مُسْتَأْذِنَةً الْهَوَاءَ كُلَّهُ وَالْمَخَارِجَ وَالْمَقَاطِعَ جَمِيعَهَا؛ لِكَيْ تَنْطِقَ الرُّوحُ عَلَى هَذَا اللِّسَانِ قَائِلَةً: ((وَاللهِ مَا هَذَا الْوَجْهُ بِوَجْهِ كَذَّابٍ)) .
يَقُولُهَا الرَّجُلُ الْأَعْرَابِيُّ وَقَدْ حُمِّلَ بِمَا حُمِّلَ مِنَ الدِّعَايَةِ الْمُضَادَّةِ ضِدَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ.. سَتَلْقَى كَذَّابًا فَلَا تَسْمَعْ مِنْهُ وَحَذَارِ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ السِّحْرُ!!
يَضَعُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كُرْسُفًا -أَيْ: قُطْنًا- فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى يَحْمِيَ قَلْبَهُ مِنْ أَنْ يَنْحَدِرَ إِلَيْهِ لَفْظٌ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ ﷺ، ثُمَّ تَأْتِي الْإِفَاقَةُ فَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا طُفَيْلُ! مَا هَذَا السَّفَهُ؟!! أَنْتَ رَجُلٌ شَاعِرٌ تُمَيِّزُ طَبَقَاتِ الْكَلَامِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تَنْفِيَ الدَّخِيلَ وَأَنْ تَمْحُوَ الزَّيْفَ، فَلْتَسْمَعْ مِنْهُ!
وَالرَّجُلُ عِنْدَمَا يَكُونُ شَاعِرَ النَّفْسِ.. عِنْدَمَا يَكُونُ شَاعِرَ الْقَلْبِ.. عِنْدَمَا يَكُونُ مُتَوَثِّبَ الرُّوحِ يَكُونُ مُنْصِفًا، لَا يَكُونُ جَاسِيَ اللَّفْظِ، وَلَا يَكُونُ عُتُلًّا غَلِيظَ الْمَنْطِقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ -كَمَا رَأَيْتَ- مَاءً رَقْرَاقًا نَمِيرًا كَأَنَّمَا يَنْحَدِرُ عَلَى الْأَرْضِ بِغَيْرِ شُطْئَانٍ.
يَقُولُ: يَا طُفَيْلُ! هَذَا -وَاللهِ- السَّفَهُ، فَلْتَسْمَعْ مِنْهُ!
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَقِرَّ الْحَقُّ فِي قَلْبِهِ، فَيَنْطَلِقَ الْحَقُّ -بَعْدُ- عَلَى لِسَانِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ.
مِنْهَا تَفِرُّ؟!!
هَيْهَاتَ! أَيْنَ يَمْضِي هَارِبٌ مِنْ دَمِهِ؟!! .
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ!
مِنْهَا تَفِرُّ؟!!
أَيْنَ يَمْضِي هَارِبٌ مِنْ دَمِهِ؟!!
مِنْهَا تَفِرُّ.. وَهَلْ يَمْلِكُ النَّهْرُ تَغْيِيرًا لِمَجْرَاهُ؟!!
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ.
النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ رَبِّهِ، كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) فِي رِوَايَاتٍ فِي مَوَاضِعَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]؛ صَعِدَ الصَّفَا -وَهُوَ الْجَبَلُ الْمَعْرُوفُ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، يَقِفُ عَلَيْهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ عِنْدَ بَدْءِ السَّعْيِ فِي شَوْطِهِ الْأَوَّلِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْكَعْبَةِ، دَاعِيًا، مُتَأَمِّلًا، مُسْتَرْجِعًا لِلْآمَالِ الْقَدِيمَةِ الْبَعِيدَةِ لِلْبِنَاءِ الْأَوَّلِ الشَّامِخِ الْعَظِيمِ الَّذِي وُلِدَ جَبَلًا، وَوُلِدَ رَمْزًا وَلَمْ يُولَدْ قِزْمًا، لَمْ يُولَدْ قِزْمًا وَلَا قَزْمًا، وَلَمْ يُولَدْ ضَئِيلًا وَلَا صَغِيرًا، يَكْبُرُ مَعَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، وَإِنَّمَا وُلِدَ شَامِخًا.
هُوَ يَقِفُ عَلَى قِمَّةِ الْجَبَلِ: ((وَاصَبَاحَاهُ!)).
فَيَخْرُجُونَ أَرْسَالًا، مَاذَا هُنَالِكَ؟!!
يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ بِالْوَادِي مَنْ يُغِيرُ عَلَيْكُمْ؛ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟!!)).
يَقُولُونُ -وَلَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ كَانُوا عَبَدَةَ الْبَيَانِ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ قَدْ أُحْصِيَ مِنْهُمْ جُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ اجْتَرَئُوا عَلَى أَصْنَامِهِمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ وَلَمْ يُحْصَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يَجْتَرِئُ عَلَى لُغَتِهِ بِالسَّبِّ وَالتَّنْقِيصِ وَالشَّتْمِ أَبَدًا، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ يَنَالُ لُغَتَهُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يَسُوءُ لُغَتَهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ حُفِظَ عَنْهُمْ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِنْ مَقُولَاتِهِمْ فِي سَبِّ أَصْنَامِهِمْ إِلَّا اللُّغَةَ، هِيَ حِمًى مَحْمِيٌّ، وَهِيَ قَلْعَةٌ شَامِخَةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ لَا يَنَالُهُ شَتْمٌ، وَلَا يَلْحَقُهُ شَنَارٌ، وَلَا يَنْزِلُ بِسَاحَتِهِ عَارٌ.
انْظُرْ مَاذَا قَالُوا؟!!
يَقُولُ ﷺ: ((لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ وَرَاءَكُمْ بِالْوَادِي عَدُوًّا يُرِيدُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْكُمْ -فَالْأَمْرُ جِدٌّ، حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، الْأَمْرٌ جِدٌّ، أَنْ تَكُونَ أَوْ لَا تَكُونَ، فَمَا الْحَلُّ إِذَنْ- أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟))؛ أَمْ تُرِيدُونَ بُرْهَانًا.. أَمْ تُرِيدُونَ دَلَائِلَ وَيَقِينًا؟!!
أَنْتَ أَنْتَ هُوَ الْيَقِينُ، وَكَلَامُكَ هُوَ الصِّدْقُ وَلَا مَزِيدَ، وَلِذَلِكَ رَدُّوا عَلَيْهِ قَائِلِينَ: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا)).
لَمْ يَقُولُوا: نَعَمْ نُصَدِّقُكَ! وَلَمْ يَقُولُوا: إِنَّكَ عِنْدَنَا صَادِقٌ! لَا؛ وَإِنَّمَا أَتَوْا بِدَلِيلٍ وَبُرْهَانٍ قَاطِعٍ وَبِبَيِّنَةٍ قَاهِرَةٍ دَاحِضَةٍ فِي آنٍ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَسْتَنْطِقَهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: ((مَا عَهِدْنَا عَلَيْكَ وَلَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ؛ فَلِمَ لَا نُصَدِّقُكَ؟!!)).
أَنْتَ عِنْدَنَا مُصَدَّقٌ، بَلْ أَنْتَ الصِّدْقُ نَفْسُهُ ﷺ.
قَالَ: ((إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.. بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).
فَمَاذَا قَالُوا؟!!
أُبْلِسُوا، وَأَمَّا النَّاطِقُ الرَّسْمِيُّ أَشْقَاهَا يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِكَيْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.. عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ هُوَ الَّذِي يَنْتَدِبُ نَفْسَهُ لِيَكُونَ النَّاطِقَ الرَّسْمِيَّ بِاسْمِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ؛ يَقُولُ: ((تَبًّا لَكَ -يَعْنِي: هَلَاكًا لَكَ مِنْ بَعْدِ هَلَاكٍ- أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟!!)).
وَيَنْزِلُ قَوْلُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]؛ دُعَاءٌ عَلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْهُ، الْأُولَى دُعَاءٌ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، وَ-تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الثَّانِيَةُ إِخْبَارٌ عَنْهُ؛ يَعْنِي: وَقَدْ وَقَعَ.
فَالرَّسُولُ ﷺ أَتَى بِدَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ فِيهِ، فَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى بَاطِنِهِ، وَمَنْطِقُهُ يَدُلُّ عَلَى جَوْهَرِهِ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
المصدر: التَّأَسِّي بِأَخْلَاقِ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ﷺ