التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ


 ((التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ))

عَبْدَ اللهِ! خُذْ إلِيْكَ حَدَثًا وَاحِدًا: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.. عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ!

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ ثَلَاثًا.

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا- أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ».

مَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَيْتَهُ سَكَتَ. هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِمَا».

«الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»: أَنْ يَتَّخِذَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى- مَعْبُودًا يُقَدِّمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ.

«الزُّورُ»: الْكَذِبُ، وَالْبَاطِلُ، وَالتُّهْمَةُ.

وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَشْنَعِ الْكَذِبِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الظُّلْمِ.

الْكَبَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ضَابِطَ الْكَبِيرَةِ؛ فَقَالُوا: هِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ الذَّنْبُ الَّذِي يُخْتَمُ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ؛ فَعَلَى هَذَا.. الْكَبَائِرُ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ أَوِ التِّسْعِ الْمُوبِقَاتِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّرْهِيبُ الشَّدِيدُ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَبَيَانُ أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ.

وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: هَلْ خَصَّكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً؟

قَالَ: «مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّاسَ، إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي».

ثُمَّ أَخْرَجَ صَحِيفَةً، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

وَاللَّعْنُ -عِبَادَ اللهِ-: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ.

وَاللَّعْنُ مِنَ اللهِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ.

وَاللَّعْنُ مِنَ النَّاسِ: السَّبُّ وَالدُّعَاءُ.

«هَلْ خَصَّكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ»؛ أَيْ: مِنْ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ.

«إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي»؛ الْقِرَابُ: وِعَاءٌ مِنَ الْجِلْدِ يُدْخَلُ فِيهِ السَّيْفُ.

«ثُمَّ أَخْرَجَ صَحِيفَةً»؛ أَيْ: كِتَابًا.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ»؛ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ»: «سَرَقَ»؛ أَيْ: غَيَّرَ، وَكَذَلِكَ هِيَ بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، «مَنَارَ»: جَمْعُ «مَنَارَةٍ»؛ وَهِيَ: عَلَامَةُ الْأَرْضِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا حُدُودُهَا.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ» لَعْنًا صَرِيحًا أَوْ لَعْنًا غَيْرَ مُبَاشِرٍ، سَوَاءٌ لَعَنَهُمَا هُوَ بِلِسَانِهِ أَوْ كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»؛ أَيْ: جَانِيًا أَوْ مُبْتَدِعًا، فَالْمُحْدِثُ: مَنْ يَأْتِي بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ.

إِنَّ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ تَعْرِيضَهُمَا لِلسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ مِنَ الْغَيْرِ.

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ».

فَقَالُوا: كَيْفَ يَشْتُمُ؟

قَالَ: «يَشْتُمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتُمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

قَالُوا: «كَيْفَ يَشْتُمُ»؟ الطَّبْعُ السَّلِيمُ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَاسْتَبْعَدَ السَّائِلُ ذَلِكَ لِنَقَاءِ فِطْرَتِهِ، وَاسْتَبْعَدَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَشْتُمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ التَّسَبُّبَ فِي الشَّتْمِ كَالتَّعَاطِي بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لِشَتْمِهِمَا، فَكَأَنَّهُ شَتَمَهُمَا.

قَالَ: «يَشْتُمُ الرَّجُلَ»: «الرَّجُلَ» مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، فَيَشْتُمُ ذَلِكَ الْمَسْبُوبُ أَبَا السَّابِّ وَأُمَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا: «يَشْتُمُ الرَّجُلُ» أَحَدًا، وَ:«يَشْتُمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتُمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ».

لَا شَكَّ أَنَّ شَتْمَ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يُوَاجِهَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ بِالشَّتْمِ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ نَوْعًا آخَرَ يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ شَتْمُ النَّاسِ؛ أَيْ: شَتْمُ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَى الشَّتْمِ بِمِثْلِهِ.

فَمَنْ شَتَمَ أَبَا الرَّجُلِ أَوْ أُمَّهُ بِاللَّعْنِ أَوِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِمِثْلِ مَا قَالَ؛ فَالْبَادِئُ شَتَمَ وَالِدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّتْمُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، لِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاقِبَ لِسَانَهُ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ لِلْآخَرِينَ؛ فَيُقَابِلُوهُ بِمِثْلِ مَا قَالَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى الْأُسْرَةِ وَإِلَى الْقَبِيلَةِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَحْرِيمُ شَتْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوقِ، فَمِنَ الْعُقُوقِ سَبُّهُمَا مُبَاشَرَةً، أَوْ تَعْرِيضُهَمَا لِلسَّبِّ وَلِلْإِهَانَةِ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِينَ لَهُمَا، فَتَعْرِيضُ الْأَبَوَيْنِ لِلسَّبِّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

 

المصدر:التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  نِعْمَةُ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ
  صِلْ مَنْ قَطَعَكَ
  حَقِيقَةُ الْخَوَنَةِ لِمِصْرَ الْحَبِيبَةِ فِي السَّنَوَاتِ الْأَخِيرَةِ
  لَنْ تُوَفِّيَ أُمَّكَ حَقَّهَا!!
  ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  مُخْتَصَرُ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَةِ
  الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ
  المَوْعِظَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ (2) ))
  عَقِيدَةُ الْيَهُودِ: أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: تَرْبِيَةُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ
  اتَّقُوا اللهَ فِي أَرْضِ الْإِسْلَامِ!
  الْأَمَلُ وَأَسْرَارُهُ اللَّطِيفَةُ
  لَا تَقْنَطُوا مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِكُمُ الْمِحَنُ!
  ضَرُورَةُ مُرَاقَبَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ
  حِكَمُ تَشْرِيعِ الزَّكَاةِ
  • شارك