((عِظَمُ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ))
فَإِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا؛ بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.
وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنُمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا، وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأْعَظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ وَطِيبٍ خَاطِرٍ.
فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)).
وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أُمُّكَ)).
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟
قَالَ: ((أَبُوكَ)).
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.
وَتَكَرَّرَ حَقُّ الْأُمِّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِكَوْنِهَا تَحَمَّلَتِ الْمَشَاقَّ فِي الْحَمْلِ، وَالْوَضْعِ، وَالرَّضَاعِ، ثُمَّ شَارَكَتِ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَمِنْ أَسْرَارِ التَّكْرَارِ كُلَّمَا سَأَلَهُ فِي الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ: مَنْ أَبَرُّ؟ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «أُمَّك»؛ أَيْ: بَرَّ أُمَّكَ، فَكَرَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ لِحِكْمَةٍ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهَا تَتَحَمَّلُ الْمَشَاقَّ فِي الْحَمْلِ، وَالْوَضْعِ، وَالرَّضَاعِ، ثُمَّ تُشَارِكُ الْأَبَ فِي التَّرْبِيَةِ.
وَلَعَلَّ التَّكْرَارَ -أَيْضًا- لِتَهَاوُنِ النَّاسِ فِي حَقِّ الْأُمِّ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مَخْفِيًّا بِعَكْسِ حَقِّ الْأَبِ؛ فَإِنَّ الْأُمَّ تَكُونُ فِي بَيْتِهَا، فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْحَظَ تَقْصِيرُهُ، فَحَقُّهَا يَكُونُ مَخْفِيًّا، بِعَكْسِ الْأَبِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُشَاهَدَةً وَعِيَانًا.
وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَيْضًا لِضَعْفِ الْمَرْأَةِ، وَقِلَّةِ تَحَمُّلِهَا، فَقَدْ يُغْضِبُهَا فَلَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ فَتَدْعُوَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِبِرِّهَا، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ))؛ يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).
قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكِ الْبِرُّ، كَذَاكِ الْبِرُّ))، وَكَان بَرًّا بِأُمِّهِ.
فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْجَنَّةِ؛ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
المصدر:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ