((أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعْلَاهَا وَأَسْمَاهَا))
((إِنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الثَّنَاءُ وَيَكُونُ الْحَمْدُ لِفَاعِلِهِ، وَلَكِنِّي مَعَ ذَلِكَ لَا أُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ لِلْعُلُومِ الْأُخْرَى فَائِدَةٌ، وَلَكِنَّهُا فَائِدَةٌ ذَاتُ حَدَّيْنِ: إِنْ أَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَعَلَى نَصْرِ دِينِ اللهِ وَانْتَفَعَ بِهَا عِبَادُ اللهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ خَيْرًا وَمَصْلَحَةً.
وَقَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُهَا وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ؛ إِذَا كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60].
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَعَلُّمَ الصِّنَاعَاتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَطْبُخُوا بِهَا، وَيَشْرَبُوا بِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِهَا)).
((اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ تَابِعٌ لِشَرَفِ مَعْلُومِهِ؛ لِوُثُوقِ النَّفْسِ بِأَدِلَّةِ وُجُودِهِ وَبَرَاهِينِهِ، وَلِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَعِظَمِ النَّفْعِ بِهَا.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَجَلَّ مَعْلُومٍ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْبَرَهُ هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، الْمَوْصُوفُ بِالْكَمَالِ كُلِّهِ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ، وَعَنْ كُلِّ تَمْثِيلٍ وَتَشْبِيهٍ فِي كَمَالِهِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَفْضَلُهَا، وَنِسْبَتُهُ إِلَى سَائِرِ الْعُلُومِ كَنِسْبَةِ مَعْلُومِهِ إِلَى سَائِرِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ أَجَلُّ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا؛ فَهُوَ أَصْلُهَا كُلِّهَا، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ ذَاتِهِ وَآنِيَّتِهِ، وَكُلُّ عِلْمٍ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، مُفْتَقِرٌ فِي تَحَقُّقِ ذَاتِهِ إِلَيْهِ.
فَالْعِلْمُ بِاللهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ، كَمَا أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَمُوجِدُهُ.
الْعِلْمُ بِهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ وَمَنْشَؤُهُ؛ فَمَنْ عَرَفَ اللهَ عَرَفَ مَا سِوَاهُ، وَمَنْ جَهِلَ رَبَّهُ فَهُوَ لِمَا سِوَاهُ أَجْهَلُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19].
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْآيَةَ تَجِدْ تَحْتَهَا مَعْنًى شَرِيفًا عَظِيمًا؛ وَهُوَ: أَنَّ مَنْ نَسِيَ رَبَّهُ أَنْسَاهُ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ، فَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ وَلَا مَصَالِحَهُ، بَلْ نَسِيَ مَا بِهِ صَلَاحُهُ وَفَلَاحُهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَصَارَ مُعَطَّلًا مُهْمَلًا بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ السَّائِبَةِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَتِ الْأَنْعَامُ أَخْبَرَ بِمَصَالِحِهَا مِنْهُ؛ لِبَقَائِهَا عَلَى هُدَاهَا الَّذِي أَعْطَاهَا اللهُ إِيَّاهُ.
وَأَمَّا هَذَا؛ فَخَرَجَ عَنْ فِطْرَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، فَنَسِيَ رَبَّهُ، فَأَنْسَاهُ نَفْسَهُ وَصِفَاتِهَا، وَمَا تَكْمُلُ بِهِ وَتَزْكُو بِهِ وَتَسْعَدُ بِهِ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
فَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، فَانْفَرَطَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَقَلْبُهُ، فَلَا الْتِفَاتَ لَهُ إِلَى مَصَالِحِهِ وَكَمَالِهِ، وَمَا تَزْكُو بِهِ نَفْسُهُ وَقَلْبُهُ، بَلْ هُوَ مُشَتَّتُ الْقَلْبِ، مُضَيَّعُهُ، مُفَرِّطٌ فِي أَمْرِهِ، حَيْرَانُ، لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا.
عِبَادَ اللهِ! الْعِلْمُ بِاللهِ أَصْلُ كُلِّ عِلْمٍ، وَهُوَ أَصْلُ عِلْمِ الْعَبْدِ بِسَعَادَتِهِ وَكَمَالِهِ وَمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَالْجَهْلُ بِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَهْلِ بِنَفْسِهِ وَمَصَالِحِهَا وَكَمَالِهَا، وَمَا تَزْكُو بِهِ وَتُفْلِحُ بِهِ.
فَالْعِلْمُ بِهِ -تَعَالَى- سَعَادَةُ الْعَبْدِ، وَالْجَهْلُ بِهِ -تَعَالَى- أَصْلُ شَقَاوَةِ الْعَبْدِ)).
* ((وَمَرَاتِبُ الْعِلْمِ مَرْتَبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْعِلْمُ بِاللهِ.
فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ فَخَمْسُ مَرَاتِبَ: الْعِلْمُ بِذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَأَسْمَائِهِ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَرْتَبَتَيِ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ بِدِينِهِ، وَهُوَ مَرْتَبَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: دِينُهُ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ؛ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِيَةُ: دِينُهُ الْجَزَائِيُّ، الْمُتَضَمِّنُ ثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ، وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)) .
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَصِمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَتَنَكَّبَهُمَا وَاسْتَدْبَرَهُمَا وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنَيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ ثُمَّ يَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَالْجَهْلُ أَشَدُّ فَتْكًا مِنَ السَّرَطَانِ بِالْبَدَنِ، وَهُوَ لَوْ عَلِمَ بِجَسَدِهِ عِلَّةً مَا صَبَـرَ وَلَا لَحْظَةً، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنِ الشِّفَاءِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ -وَالْجَهْلُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ دَاءٌ، كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤَالُ)). وَالْعِيُّ هَاهُنَا: الْجَهْلُ، فَجَعَلَهُ ﷺ دَاءً، وَجَعَلَ سُؤَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ دَوَاءً.
فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ وَيَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَلَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ الَّذِي يُصَحِّحُ بِهِ عَقِيدَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ عِبَادَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ مُعَامَلَتَهُ.
المصدر:الْإِسْلَامُ وَالْعِلْمُ