((لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الْعَفُوِّ الْكَرِيمِ!))
عِبَادَ اللهِ! ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوَحِّدَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ مُلَازِمٌ لِلْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ, وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَبِهِ تَحْصُلُ السَّعَادَةُ، وَيُخْشَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ خُلُقَيْنِ رَذِيلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ حَتَّى يَقْنُطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَتَجَارَى بِهِ الرَّجَاءُ حَتَّى يَأْمَنَ مَكْرَ اللهِ وَعُقُوبَتَهُ, فَمَتَى بَلَغَتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا فَقَدْ ضَيَّعَ وَاجِبَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ أَكْبَرِ أُصُولِ التَّوْحِيدِ وَوَاجِبَاتِ الْإِيمَانِ.
وَلِلْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ سَبَبَانِ مَحْذُورَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُسْرِفَ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَجَرَّأَ عَلَى الْمَحَارِمِ فَيُصِرُّ عَلَيْهَا، وَيُصَمِّمَ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي تَمْنَعُ الرَّحْمَةَ.
فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ هَذَا وَصْفًا وَخُلُقًا لَازِمًا, وَهَذَا غَايَةُ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْعَبْدِ، وَمَتَى وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؛ لَمْ يُرْجَ لَهُ خَيْرٌ إِلَّا بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ وَإِقْلَاعٍ قَوِيٍّ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْوَى خَوْفُ الْعَبْدِ بِمَا جَنَتْ يَدَاهُ مِنَ الْجَرَائِمِ، وَيَضْعُفَ عِلْمُهُ بِمَا لِلهِ مِنْ وَاسِعِ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ وَلَا يَرْحَمُهُ وَلَوْ تَابَ وَأَنَابَ، وَتَضْعُفَ إِرَادَتُهُ فَيَيْأَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَهَذَا مِنَ الْمَحَاذِيرِ الضَّارَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ ضَعْفِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَعَجْزِهَا وَمَهَانَتِهَا.
فَلَوْ عَرَفَ هَذَا رَبَّهُ وَلَمْ يَخْلُدْ إِلَى الْكَسَلِ؛ لَعَلِمَ أَنَّ أَدْنَى سَعْيٍ يُوصِلُهُ إِلَى رَبِّهِ وَإِلَى رَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ.
وَلِلْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ -أَيْضًا- سَبَبَانِ مُهْلِكَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِعْرَاضُ الْعَبْدِ عَنِ الدِّينِ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَتَهَاوُنُهُ بِذَلِكَ، فَلَا يَزَالُ مُعْرِضًا غَافِلًا مُقَصِّرًا عَنِ الْوَاجِبَاتِ، مُنْهَمِكًا فِي الْمُحَرَّمَاتِ، حَتَّى يَضْمَحِلَّ خَوْفُ اللهِ مِنْ قَلْبِهِ، وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَحْمِلُ عَلَى خَوْفِ اللهِ وَخَوْفِ عِقَابِهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا جَاهِلًا، مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ، مَغْرُورًا بِعَمَلِهِ، فَلَا يَزَالُ بِهِ جَهْلُهُ حَتَّى يُدِلَّ بِعَمَلِهِ وَيَزُولَ الْخَوْفُ عَنْهُ، وَيَرَى أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ الْمَقَامَاتِ الْعَالِيَةَ؛ فَيَصِيرَ آمِنًا مِنْ مَكْرِ اللهِ مُتَّكِلًا عَلَى نَفْسِهِ الضَّعِيفَةِ الْمَهِينَةِ، وَمِنْ هُنَا يُخْذَلُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْفِيقِ؛ إِذْ هُوَ الَّذِي جَنَى عَلَى نَفْسِهِ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمِنَ الْيَأْسِ مِنْ رَوْحِهِ، وَالْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ.. هَذِهِ الْأُمُورُ مُنَافِيَةٌ لِتَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِ الْإِثْمِ)) .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْيَأْسُ: الْقَطْعُ بِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ، وَالْيَأْسُ ضِدُّ الرَّجَاءِ)).
وَقَالَ الْعِزُّ: ((الْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ: هُوَ اسْتِصْغَارٌ لِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلِمَغْفِرَتِهِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ عَظِيمٌ وَتَضْيِيقٌ لِفَضَاءِ جُودِهِ)).
الْيَأْسُ: انْقِطَاعُ الرَّجَاءِ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: ((هُوَ انْتِفَاءُ الطَّمَعِ)).
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْقَطْعُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يَتَحَصَّلُ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِهِ))؛ فَهَذَا هُوَ الْيَأْسُ.
((وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْيَأْسَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْقُنُوطُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْيَأْسِ عَنِ الْقُنُوطِ؛ لِأَنَّ الْقُنُوطَ ثَمَرَةُ الْيَأْسِ.
الثَّانِي: الْيَأْسُ: الْعِلْمُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]؛ أَيْ أَفَلَمْ يَعْلَمُوا؟!)).
وَقَدْ عَدَّ ابْنُ حَجَرٍ الْيَأْسَ مِنْ رَحْمَتِهِ -تَعَالَى- مِنَ الْكَبَائِرِ؛ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَدَدًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَشِّرَةِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ((عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ)) .
فَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَمِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ.
الْقُنُوطُ: مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ قَنَطَ يَقْنُطُ؛ إِذَا يَئِسَ يَأْسًا شَدِيدًا.
((قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر: 55]؛ أَيْ: الْيَائِسِينَ مِنَ الْوَلَدِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَدْ يَئِسَ مِنَ الْوَلَدِ لِفَرْطِ الْكِبَرِ)) .
المصدر: عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ