((مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ))
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الرَّحْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَيْدَنَهُ، فَقَالَ ﷺ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)) .
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سَأَلَهُ مَنْ سَأَلَهُ أَنَّهُ يَرْحَمُ الشَّاةَ عِنْدَ ذَبْحِهَا، فَقَالَ: ((وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ)) ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْحَمُ بِرَحْمَةِ الْعُصْفُورِ))؛ يَعْنِي إِنْ رَحِمْتَهُ رَحِمَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَانَتْ رَحْمَتُكَ إِيَّاهُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاكَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَقَدْ أَضْجَعَ ذَبِيحَتَهُ، وَجَعَلَ قَدَمَهُ عَلَى صِحَافِهَا، وَهُوَ يَسُنُّ مُدْيَتَهُ، وَيَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ!! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُظْهَرَ الْمُدْيَةُ لِلْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ بِذَبْحِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، فَكَيْفَ بَالْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَعْلَى ذِكْرَهُ، وَرَفَعَ شَأْنَهُ، وَجَعَلَهُ حَامِلًا لِمَسْؤُولِيَّةِ الرِّسَالَةِ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ عَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَلْكِهِ، مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ؟!!
((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)) .
فَلْيَأْتِ أَحَدُكُمْ بِمُدْيَتِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يُحْدِثَ مَزِيدَ أَلَمٍ وَإِيلَامٍ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ.
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ -وَكُلُّ شَيْءٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ الْإِحْسَانُ-، وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ))، وَالْقِتْلَةُ وَالذِّبْحَةُ اسْمُ هَيْئَةٍ؛ أَيْ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الذَّبْحِ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ، وَأَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْقَتْلِ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ.
((وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)).
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفِيَّةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يُذْبَحُ.
فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ حَتَّى تَكُونَ قَائِمَةً، وَحَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ جَائِزًا لَهُ أَنْ يَطْعَمَ مِنَ الذَّبِيحَةِ؛ يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهَا أُمُورٌ، مِنْهَا:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي -أَيْ: الذَّابِحُ- مُسْلِمًا عَاقِلًا.
وَأَنْ يُسَمِّيَ اسْمَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى ذَبِيحَتِهِ.
وَأَنْ يَذْبَحَهَا بِحَيْثُ يُنْهِرُ بِالدَّمِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَذْبَحُ فِي الرَّقَبَةِ، فَجَائِزٌ فِي وَسَطِهَا، وَجَائِزٌ فِي أْعَلَاهَا، وَجَائِزٌ فِي أَسْفَلِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ.
وَأَنْ يُنْهِرَ الدَّمَ مِنَ الْأَوْدَاجِ، فَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّئَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَعِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَلَى جَانِبَيِ الرَّقَبَةِ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الذَّبْحِ، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ الْآدَابَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الذَّابِحُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الذَّابِحَ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَذِنَ لَنَا فِي ذَلِكَ؛ مَا كَانَ عَلَيْنَا إِلَّا مُحَرَّمًا، وَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَطْعَمَهُ.
عِبَادَ اللهِ! هَذَا بَلَاغُ نَبِيِّكُمْ ﷺ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ, وَهَذِهِ ظِلَالٌ, بَلْ هَذَا ظِلٌّ مُفْرَدٌ يَسِيرٌ قَلِيلٌ بِجَانِبِ الظِّلَالِ الْمُتَمَاوِجَاتِ فِي حَرِّ هَجِيرِ الْإِنْسَانِيَّةَ لِخُطْبَةِ الْوَدَاعِ الْعَظِيمَةِ.
وَيَا لَهَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ ذَاتِ أَفْيَاءٍ وَذَاتِ ظِلَالٍ؛ إِنَّ لَهَا لَظِلًّا ظَلِيلًا لَوْ فَزِعَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ كُلُّهَا, وَلَوْ ذَهَبَتِ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا إِلَى فَيْءِ ظِلٍّ وَاحِدٍ مِنْ ظِلَالِ هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ, لَوَسِعَهَا هَذَا الظِّلُّ الْبَارِدُ مِنْ ذَلِكَ السَّعِيرِ الْمُتَّقِدِ, وَمِنْ هَذَا الْأَتُّونِ الْمُلْتَهِبِ, وَمِنْ هَذَا الْحَرِّ اللَّاغِبِ فِي صَحَرَاءِ الِانْفِلَاتِ مِنْ قَيْدِ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُ يَنْتَظِرُكُمْ، مُطَبِّقِينَ لِدِينِكُمْ، مُحَقِّقِينَ لِتَوْحِيدِكُمْ، مُتَّبِعِينَ لِنَبِيِّكُمْ؛ لِكَيْ يُخْرِجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَالَمَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ، وَمِنْ عَنَتِهِ وَفُجُورِهِ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عُتَقَائِهِ مِنَ النَّارِ وَإِخْوَانَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغارِبِهَا؛ إِنَّهُ هُوَ الْجَوادُ الْكَرِيمُ، وَالْبَرُّ الرَّحِيمُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ