((اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ))
الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَثِيرٌ وَمُتَنَوِّعٌ، وَأَعْلَى ذَلِكَ وَأَجْلَاهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْمَرْءُ اعْتِقَادَهُ للهِ مِنْ دَرَنِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ، وَأَنْ يُحَصِّلَ التَّوْحِيدَ الْحَقَّ، مُقْبِلاً عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْإِخْلَاصِ.
وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَسَّسَ الْمِلَّةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَصِحُّ عَمَلٌ -وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-- لَمْ يَكُنْ مُؤَسَّسًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِتَوْحِيدِهِ بِعِبَادَتِهِ، وَصَرْفِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَأَعْظَمُ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ -وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ إِذْ هِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ- فَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْتَهِدُ فِي تَحْرِيرِ اعْتِقَادِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَلُّمِ التَّوْحِيدِ, يُقْبِلَ عَلَيْهِ وَيُحَصِّلُهُ، وَفِي مَعْرِفَةِ الشِّرْكِ لِيَبْتَعِدَ عَنْهُ، وَلِيَجْتَنِبَهُ، وَلِيُحَذِّرَ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ.
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ غَيْرِ تَوْحِيدٍ؛ فَهَذَا بَانٍ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ! وَهَذَا كَالَّذِي يُقِيمُ بِنَاءَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، أَوْ كَالَّذِي يَبْنِي لَا عَلَى مُتَحَرِّكِ الرِّمَالِ، بَلْ إِنَّهُ يَبْنِي عَلَى الْمَاءِ! وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ عَمَلِهِ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا مُتَقَبَّلًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا إِذَا تَوَفَّرَ فِيهِ الشَّرْطَانُ:
أَنْ يَكُونَ خَالِصًا مَبْنِيًّا عَلَى التَّوْحِيدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، بَرِيئًا مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ، وَمِنَ السُّمْعَةِ، وَمِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ فِيهِ مُتَّبِعًا لِنَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُحَرِّرَ هَذَا بَدْءًا؛ لِكَيْ يَبْنِي عَلَى أَسَاسٍ مَتِينٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ بَنَى عَلَى غَيْرِ هَذَا الْأَسَاسِ فَلَا قِيمَةَ لِعَمَلِهِ بِالْمَرَّةِ! بَلْ إِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ، مُؤَاخَذًا بِهِ.
وَاللهُ إِنَّمَا خَلَقَنَا؛ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ؛ وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعِبَادَةِ، وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَتَوْحِيدُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَالْمِلَّةُ مُؤَسَّسَةٌ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)).
وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ: ((أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)).
فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ يَقُومُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالِاتِّبَاعِ.
فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْأَصْلِ، ثُمَّ فَلْيَبْنِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ عَلَى قَانُونِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مُتَّبِعًا فِيهِ هَدْيَ نَبِيِّهِ، غَيْرَ مُبْتَدِعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ خَلْفَ الرَّسُولِ ﷺ يَقْتَفِي أَثَرَهُ.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ خَالَطَهُ الرِّيَاءُ، وَدَاخَلَتْهُ السُّمْعَةُ!
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ صَالِحًا وَقَدْ مَازَجَتْهُ الْبِدْعَةُ!
وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى قَانُونِ الِاتِّبَاعِ، يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيهِ سِتَّةُ شُرُوطٍ؛ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ خَالِصًا فِي سَبَبِهِ، وَجِنْسِهِ، وَزَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ، وَكَمِّهِ، وَكَيْفِهِ.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِهِ مَشْرُوعًا؛ فَلَا يَتَعَبَّدْ عَبْدٌ بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَيَقُولُ إِنِّي أَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ!!
فَجِنْسُ الْعَمَلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ.
لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ بِفَرَسٍ، نَقُولُ لَهُ: ابْتَدَعَتَ وَمَا أَحْسَنْتَ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْكَ.
وَالْجِنْسُ الَّذِي حَدَّدَهُ اللهُ هُوَ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ: مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، مِنَ الْمَعْزِ وَالضَّأْنِ، عَلَى حَسَبِ السِّنِّ، وَالْخُلُوِّ مِنَ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الْأُضْحِيَّةُ إِذَا مَا تَلَبَّسَتْ بِهَا أَوْ بِأَحَدِهَا.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْجِنْسِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا تَجَاوَزَ مَا شَرَعَ اللهُ إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللهُ؛ فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ فِيهِ شَرْطَ الِاتِّبَاعِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الدَّافِعُ لِلْعَمَلِ الشَّرْعِيِّ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ، مَشْرُوعًا فِي فَصْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهِ، وَكَمِّهِ، وَكَيْفِهِ، وَزَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ؛ فَإِذَا اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ، لَا يَكُونُ الْعَبْدُ الَّذِي يَأْتِي بِالْعَمَلِ مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللهِ، بَلْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ، وَيَكُونُ مُبْتَدِعًا فِي دِينِ اللهِ.
فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا دَعَاه شَيْطَانُهُ إِلَى أَنْ يَتَعَبَّدَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي مُنَاسَبَةٍ، يَقُولُ: هَذِهِ مُنَاسَبَةٌ فَاضِلَةٌ؛ سَأَصُومُ يَوْمَ التَّحْرِيرِ!! سَأَقُومُ لَيْلَةَ عِيدِ النَّصْرِ!! أَوْ يَقُولُ -فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَب-: سَوْفَ أَقُومُ وَأَذْكُرُ وَأَتْلُو وَأَرْكَعُ وَأَسْجُدُ!!
هَذَا سَبَبٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مَشْرُوعًا كَمَا الْجِنْسُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِهِ، مَشْرُوعًا فِي سَبَبِهِ، مَشْرُوعًا فِي كَمِّهِ.
فَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ سِتَّ رَكْعَاتٍ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَةً لَمْ تَصِحَّ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى الْمِقْدَارِ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْمَرْءُ دُونَهُ، وَلَا أَنْ يَتَجَاوَزَهُ بِحَالٍ.
وَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَيْفِ: فَلَوْ قَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ السُّجُودَ عَلَى الرُّكُوعِ أَوْ أَتَى بِالتَّشَهُّدِ قَائِمًا وَأَتَى بِالْفَاتِحَةِ فِي مَوْطِنِ التَّشَهُّدِ، إِذَا مَا أَخَلَّ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَمًّا وَكَيْفًا؛ كَانَ مُبْتَدِعًا لَا مُتَّبِعًا.
وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يُرَاعِ الزَّمَانَ: فَذَهَبَ إِلَى عَرَفَاتٍ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ، فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ الزِّحَامِ؛ فَهَذَا -كَمَا تَرَى- قَدْ أَخَلَّ -وَإِنْ أَخَذَ بِشَرْطِ الْمَكَانِ- أَخَلَّ بِشَرْطِ الزَّمَانِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا مَا وَقَفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ وَقَفَ خَارِجَ حُدُودِ عَرَفَاتٍ، فَخَالَفَ فِي الْمَكَانِ، وَخَالَفَ فِي الزَّمَانِ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُبْتَدِعًا لَا مُتَّبِعًا.
فَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُتَّبِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ -حِينَئِذٍ- أَنْ تُرَاعِيَ هَذِهِ الشُّرُوطَ، وَهِيَ: الْجِنْسُ، وَالسَّبَبُ، وَالْكَمُّ، وَالْكَيْفُ، وَالزَّمَانُ، وَالْمَكَانُ.
وَفَقَّكَ اللهُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ.
المصدر:أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا