((حَثُّ السُّنَّةِ عَلَى الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ وَالْعَمَلِ الْجَادِّ))
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! هَذَا الدِّينُ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا قَطُّ كَمَا يَدَّعِي الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ سَبَبًا لِتَأَخُّرِ الْبَشَرِ، بَلْ إِنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُونَ وَيَتَخَلَّفُونَ إِذَا تَرَكُوا تَعَالِيمَ هَذَا الدِّينِ.
وَتَأَمَّلْ فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ قَبْلَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَتِ الْفُرْسُ لَهُمْ: كَانُوا أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَكَانَتِ الْحُرُوبُ تَنْشِبُ بَيْنَهُمْ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَتَسْتَمِرُّ عُقُودًا طَوِيلَةً، رُبَّمَا زَادَتِ الْحَرْبُ -مَثَلًا- عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً كَحَرْبِ (داحسَ وَالْغَبْرَاءِ).
لِأَسْبَابٍ تَافِهَةٍ تَظَلُّ الْحُرُوبُ قَائِمَةً بَيْنَهُمْ لِعِدَّةِ أَجْيَالٍ، فَتَفْنَى فِي أَتُّونِهَا وَنَارِهَا تِلْكَ الْأَجْيَالُ عَلَى تَتَابُعِهَا!! وَكَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَكَانَ يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانُوا مُتَخَلِّفِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ.
ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ، فَحَرَّرَ الْعَقْلَ مِنْ أَوْهَامِهِ، وَحَرَّرَ الْقَلْبَ وَالنَّفْسَ مِنْ أَوْضَارِهِمَا وَأَوْصَارِهِمَا، وَصَارَ الْإِنْسَانُ الْعَرَبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَ حَضَارَةٍ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَبِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ.
حَتَّى بَلَغَتِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ -فِي فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ جِدًّا- الْمَبَالِغَ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْهَا أُمَّةٌ مِنْ قَبْلِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَسَّسًا عَلَى تَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَلَمَّا تَمَسَّكَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَاقَتِ الْأُمَمَ كُلَّهَا، وَمَلَكَتِ الْعَالَمَ الْقَدِيمَ أَجْمَعَهُ.
دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ.
بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.
النَّبِيُّ بَيَّنَ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ ﷺ أَنَّ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ, وَطَالِبُ مَالٍ)).
وَهَذِهِ الْأُمَّةُ عَقَدَتْ رَجَاءَهَا عَلَى رَبِّهَا؛ بِأَخْذِ شَبَابِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ تَحْصِيلًا وَإِعْمَالًا لَهَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتَعُودَ لِلْأُمَّةِ رِيَادَتُهَا, وَلِيَعُودَ لِلْأُمَّةِ سَبْقُهَا بِفَضْلِ رَبِّهَا, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يُؤَثَّرُ فِيهِ وَلَا يُؤَثِّرُ, وَيَتَأَثَّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَكُونُ الطَّمَعُ فِيهِ قَائِمًا, وَلِأَنَّ الشَّرَّ مَتَى مَا وَجَدَ الْحَقَّ مُتَهَاوِنًا؛ عَدَا عَلَيْهِ بجُنْدِهِ وَرَجِلِهِ وَخَيْلِهِ, وَحَاوَلَ أَنْ يَئِدَهُ فِي مَهْدِهِ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا بِإِعْدَادِ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ -أَمَرَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ-, وَالْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَتَى مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْوُجُوبِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لِلْوُجُوبِ؛ فَهُوَ إِذًا أَمْرٌ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِذَا مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ عَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا بِذُلٍّ، وَخَسْفٍ، وَمَهَانَةٍ، وَإِحْبَاطٍ, وَعَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا فَرَّطَتْ فِيهِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ وَالْأَخْذِ بِتَنْفِيذِ الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
*حَثُّ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الْجَادِّ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى الْعَمَلِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَالتَّكَسُّبِ، فَهُوَ دِينٌ يُؤَكِّدُ عَلَى الْحَرَكَةِ وَالْحَيَوِيَّةِ، وَيَذُمُّ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ وَالِاتِّكَالِيَّةَ؛ إِذْ لَا مَكَانَ فِيهِ لِلِاسْتِرْخَاءِ وَالْبَطَالَةِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْآخَرِينَ وَاسْتِجْدَائِهِمْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمْ.
فَالْإِسْلَامُ دِينُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ، يَحُثُّ الْجَمِيعَ عَلَى الْإِنْتَاجِ وَالْإِبْدَاعِ، وَيَهِيبُ بِفِئَاتِ الْمُجْتَمَعِ كَافَّةً أَنْ تَنْهَضَ وَتَعْمَلَ بِإِتْقَانٍ، وَيَقُومُ كُلٌّ بِدَوْرِهِ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ فِيهِ؛ لِنَفْعِ الْأُمَّةِ وَإِفَادَتِهَا.
وَلَمْ يُحَدِّدِ الْإِسْلَامُ الْعَمَلَ فِي شَهْرٍ دُونَ آخَرَ، بَلْ حَثَّ عَلَيْهِ فِي الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ كُلِّهَا.
وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ وَفِي صَحَابَتِهِ الْكِرَامِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَعْظَمُ قُدْوَةٍ، وَخَيْرُ أُسْوَةٍ، كَانَتْ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا جِدًّا وَاجْتِهَادًا، وَعَمَلًا وَحَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا.
النَّبِيُّ ﷺ حَثَّ فِي سُنَّتِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ فِي الْحَيَاةِ: فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.
هَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا.
فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانْتَفَعْتَ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.
المصدر:فَهْمُ مَقَاصِدِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَصَلَاحِيَتُهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ