((الْعِبَادَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِانْتِهَاءِ رَمَضَانَ!!))
*الصِّيَامُ مُمْتَدٌّ طَوَالَ الْعَامِ:
عِبَادَ اللهِ! يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ بِصِيَامِهِ كَيْفَ نَفْزَعُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ بَعْضِ مَا تُحِبُّ؛ حَتَّى نُحِسَّ بِالمَحْرُومِ حَقًّا وَصِدْقًا: بِمَنْ لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا آتَانَا بِالَّذِي يَجِدُ مَسَّ الجُوعِ.
وَهَذَا مُمْتَدٌّ فِي سَائِرِ الْعَامِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ: مَا يَكُونُ بِعَقِبِ عِيْدِ الْفِطْرِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ-: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ؛ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)).
وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا، وَبَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، قَالَ: ((شَهْرٌ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بِشَهْرَينِ)) أَيْ: بِسِتِّينَ يَوْمًا؛ إِذِ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهَذَا تَمَامُ الْعَامِ؛ فَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ؛ كَانَ كَأَنَّمَا صَامَ الْعَامَ كُلَّهُ.
وَدَلَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى الْوَصْفَةِ النَّبَوِيَّةِ نَسْتَخْرِجُ بِهَا غِشَّ الصَّدْرِ، نُخْرِجُ بِهِ مَا فِي هَذَا الصَّدْرِ مِنْ غِشِّهِ وَوَسَاوِسِهِ، وَمَا يُحِيطُ بِالْقَلْبِ مِنْ غَبَشِهِ وَنَكَدِهِ؛ لِكَيْ يَكُونَ خَالِصًا للهِ، مَحَلًّا لِنُزُولِ فُيُوضَاتِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ؛ إِذْ هُوَ مَحَلُّهُ وَمَرْبَاهُ، وَلَا مَرْبَى لَهُ سِوَاهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ)).
وَوَحَرُ الصَّدْرِ: غِشُّهُ، وَوَسَاوِسُهُ.
لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ مَنْ صَامَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ فَكَأَنَّمَا صَامَ الْعَامَ، فَحَدَّدَ لَنَا أَيَّامَ الْبِيضِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالخَامِسَ عَشَرَ».
ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرِ بِثَلَاثِينَ؛ إِذِ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ: شَهْرُ اللهِ الَّذِي تُسَمُّونَهُ المُحَرَّمُ)).
فَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ طَرِيقَةَ الصِّيَامِ فِي سَائِرِ الْعَامِ، وَبَيَّنَ أَنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ: «صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا».
وَحَضَّنَا عَلَى صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَهُنَالِكَ -أَيْضًا- مَا يَكُونُ هُنَالِكَ مِنْ صَوْمِ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ، وَفِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَهِيَ أَيَّامٌ مُبَارَكَاتٌ، وَمَوْسِمٌ جَلِيلٌ مِنْ مَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ.
*قِيَامُ اللَّيْلِ مُمْتَدٌّ طَوَالَ الْعَامِ:
عباد الله! إِنَّ الْقِيَامَ -الَّذِي كَانَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَالَّذِي سَنَّهُ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ- هَذَا الْقِيَامُ مَمْدُودٌ طُولَ الْعَامِ.
وَكَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا، فَيَحْسَبُونَ أَنَّ رَمَضَانَ إِنَّمَا خُصَّ بِالْقِيَامِ دُونَ سَائِرِ لَيَالِي الْعَامِ، وَهَذَا خَطَأٌ شَنِيعٌ!
سَنَّ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ الْقِيَامَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَهَذَا فِي الْعَامِ كُلِّهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يَقُومُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَا تَيَسَّرَ لَهُ أَنْ يَقُومَ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُمْ لَيْلَةً لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ شُغُلٍ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ -رُبَّمَا فِي النَّهَارِ- ﷺ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ كَبِيرٌ فَهُوَ شَرَفُ المُؤْمِنِ.
وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا الشَّرَفِ فَإِنَّهُ لَا شَرَفَ لَهُ.
قَالَ ﷺ: ((وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ)).
بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقِيَامَ مُمْتَدٌّ فِي الْعَامِ، وَأَنَّ الرَّبَّ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلْيَكُنْ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)) ﷺ.
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ ((مَنْ قَامَ اللَّيْلَ بِعَشْرِ آيَاتٍ؛ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ بِمِائَةِ آيَةٍ؛ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ اللَّيْلَ بِأَلْفِ آيَةٍ؛ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ)).
وَالمُقَنْطِرُونَ: الَّذِينَ يُعْطَوْنَ قِنْطَارًا مِنَ الْأَجْرِ، لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَمَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ فِي لَيْلَةٍ؛ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ.
وَ((مَنْ قَامَ بِاللَّيْلِ، فَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَصَلَّيَا جَمِيعًا رَكْعَتَينِ؛ كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)) كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ.
فَهَلُمَّ إِلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَمَا كَانَ مِنْ قِيَامٍ فِي رَمَضَانَ فَقِسْ عَلَيْهِ، وَأَقْصَى ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ، كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا ﷺ))، وَرُبَّمَا صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ قُعُودٍ ﷺ.
وَأَقَلُّهُ: أَنْ تُصَلِّيَ للهِ رَكْعَةً وَاحِدَةً.
وَالنَّبِيُّ ﷺ مَا تَرَكَ الْوِتْرَ أَبَدًا، لَا فِي حَلٍّ وَلَا فِي سَفَرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ ﷺ، وَهُوَ قِيامُ اللَّيْلِ، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ؛ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، فَتُوتِرُ لَهُ مَا كَانَ شَفْعًا قَبْلُ مِنْ صَلَاتِهِ.
وَصَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، وَلِصَلَاةِ اللَّيلِ صُوَرٌ دُونَ ذَلِكَ، فَكَانَ ﷺ لَا يَدَعُ الْوِتْرَ، لَا فِي سَفَرٍ وَلَا فِي حَضَرٍ - صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
ضَرُورَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ:
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ.
فَلْتَكُنْ مُوَاظِبًا عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ -وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا- وَلَكِنْ دَاوِمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّكَ إِنْ دَاوَمْتَ عَلَيْهِ؛ كَانَ سَجِيَّةً وَعَادَةً، فَلَا تَكَادُ النَّفْسُ تَنْقَطِعُ عَنْهُ بَعْدُ حَنِينًا إِلَيْهِ، وَإِقْبَالًا عَلَيْهِ، وَأَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ.
وَكَانَ عَمَلُهُ ﷺ دِيمَةً؛ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامٍ بِاللَّيْلِ بِصَلَاةٍ، وَلَوْ كَحَلْبِ شَاةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ صِيَامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ؛ وَلَوْ أَنْ يَصُومَ الاثْنَيْنَ وَالخَمِيسَ، فَإِنْ كَانَ شَاقًّا عَلَيْهِ؛ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ الْبِيضِ.
لَا بُدَّ أَنْ يَصُومَ مِنَ الشَّهْرِ شَيْئًا؛ لِكَيْ تَعْتَادَ النَّفْسُ فَطْمَهَا عَمَّا تُحِبُّ وَتَهْوَى؛ لِكَيْ تَكُونَ قَائِمَةً عَلَى مَرْضَاةِ رَبِّهَا الْعَلِيِّ الْأَعْلَى.
*مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ لَا تَنْتَهِي بِانْقِضَاءِ رَمَضَانَ!!
عِبَادَ اللهِ! مِنْ مَعَالِمِ رَمَضَانَ مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ، وَهِيَ مُمْتَدَّةٌ طُولَ الْعَامِ.
تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، وَاظِبُوا عَلَى النَّظَرِ فِيهِ، وَتِلَاوَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ، وَالْإِحَاطَةِ بِمَرَامِيهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ، كَمَا فِي حَدِيثِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)).
وَأَمَرَكَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْبَذْلِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، وَذَكَرٍ وَأُنْثَى، فَعَلَّمَكَ الْبَذْلَ وَالْعَطَاءَ، عُلِّمْتَ؛ فَإِنِ اْنْتَكَسْتَ فَلَا تَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَكَ!
يُعَلِّمُنَا هَذَا الشَّهْرُ وَالصِّيَامُ كَيْفَ نَصْبِرُ عَلَى أَوَامِرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الشَّرْعِيَّةِ، وَعَلَى أَقْدَارِهِ الْكَوْنِيَّةِ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ، وَفِيهِ حِرْمَانٌ.
فَالْحِرْمَانُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِيهِ ضَبْطٌ لِلْغَرِيزَةِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَنْكَحٍ، فِيهِ ضَبْطٌ لِلنَّفْسِ عَلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، وَهَذَا أَمْرٌ تَتَمَلْمَلُ مِنْهُ النُّفُوسُ، وَتَجْزَعُ مِنْهُ الْقُلُوبُ إِلَّا إِذَا اطْمَأَنَّتْ بِذِكْرِ رَبِّهَا، وَأَنَابَتْ إِلَى أَوَامِرِ نَبِيِّهَا ﷺ.
المصدر:الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ