((تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَثَمَرَاتُهُ))
عِبَادَ اللهِ! لِلْقُرْآنِ بِرَمَضَانَ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ؛ فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى صِيَامَهُ.
وَلِلنَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ مَزِيدُ عِنَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، وَمَوْصُولُ تَدَارُسٍ وَتَدَبُّرٍ.
وَلِلْمُسْلِمِ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ؛ لِأَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ أَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ، وَفَلَاحِهِ، وَثَبَاتِهِ.
وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ فِي تَثْبِيتِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَإِرْسَاءِ دَعَائِمِهِ؛ «لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَوَعَدَهُمْ أَسْنَى الْمَوَاهِبِ.
فَلَوْ أَنْفَقَ الْعَبْدُ جَوَاهِرَ عُمُرِهِ فِي هَذَا التَّدَبُّرِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي جَنْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ الْمَطَالِبِ، وَأَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ، وَأَصْلُ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَقَاعِدَةُ أَسَاسَاتِ الدِّينِ، وَصَلَاحُ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَتْ حَيَاةُ الْعَبْدِ زَاهِرَةً بِالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَطِيبِ الْحَيَاةِ، وَالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» .
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ؛ فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا، وَأَسْبَابِهِمَا، وَغَايَاتِهِمَا، وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ -أَيْ تَجْعَلُ مُسْتَقِرًّا فِي يَدِهِ- مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ.
وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ، وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ.
وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا.
وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ، وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ.
وَفِي تَأَمُّلِ الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِهِ، أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الْكُنُوزِ، طِلَّسْمُهُ -أَيْ: الْمُزِيلُ لِغُمُوضِهِ، الْمُوَضِّحُ لِمَعَانِيهِ، الْمُفَسِّرُ لِمُبْهَمِهِ- الْغَوْصُ بِالْفِكْرِ إِلَى قَرَارِ مَعَانِيهِ».
فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ الْقُرْآنِ؛ خَاصَّةً فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْقُرْآنَ، وَإِلَّا مَا اسْتَفَدْنَا مِنْهُ مَا نَرْجُوهُ، وَمَا حَقَّقْنَا مِنْهُ مَا نَطْلُبُهُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
المصدر:ذِكْرُ اللهِ فِي رَمَضَانَ