الْمَوْعِظَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعُشْرُونَ : ((الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ))


 ((الْمَوْعِظَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعُشْرُونَ))

((الْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْأَمْرُ بِالتَّوَاضُعِ وَحْيٌ إِلَهِيٌّ))

«فَفِي ((الصَّحِيحِ)) : عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «وَأَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

التَّوَاضُعُ الْمَحْمُودُ نَوْعَانِ:

*الأَوَّلُ: تَوَاضُعُ الْعَبْدِ عِنْدَ أَمْرِ اللهِ امْتِثَالًا، وَعِنْدَ نَهْيِهِ اجْتِنَابًا، فَإِنَّ النَّفْسَ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ تَتَلَكَّأُ فِي أَمْرِهِ، فَيَبْدُو مِنْهَا إِبَاءٌ وَشِرَادٌ؛ هَرَبًا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ نَهْيِهِ طَلَبًا لِلظَّفَرِ بِمَا مَنَعَ مِنْهُ، فَإِذَا تَوَاضَعَ العَبْدُ نَفْسُهُ لأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ فَقَدْ تَوَاضَعَ للعُبُودِيَّةِ.

*وَالنَّوْعُ الثَّانِي: تَوَاضُعُهُ لِعَظَمَةِ الرَّبِّ وَجَلَالِهِ، وَخُضُوعُهُ لِعِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، فَكُلَّمَا شَمَخَتْ نَفْسُهُ ذَكَرَ عَظَمَةَ الرَّبِّ وَتَفَرُّدَهُ بِذَلِكَ،  وَغَضَبَهُ الشَّدِيدَ على مَن نَازَعَهُ ذَلِكَ، فَتَوَاضَعَت إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَانْكَسَرَ لِعَظَمَةِ اللهِ قَلْبُهُ، [وَاطْمَأنَّ]  لِهَيْبَتِهِ، وَأَخْبَتَ لِسُلْطَانِهِ.

فَهَذَا غَايَةُ التَّوَاضُعِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الأَوَّلَ مِن غَيْرِ عَكْسٍ، وَالمُتَوَاضِعُ حَقِيقَةً مَنْ رُزِقَ الأَمْرَيْنِ» .

لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.

عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرْثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيْهِقُونَ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ! قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟

قَالَ: «الْمُتَكَبِّرُونَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: «حَدِيثٌ حَسَنٌ»، وَصَحَّحَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ.

 ((الْأَمْرُ بِالتَّوَاضُعِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْكِبْرِ))

قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 18-19].

ضَعْ في ذَاكِرَتِكَ أَيُّهَا المُتَلَقِّي آيَاتِ كِتَابِ اللهِ، ضَعْ نَصِيحَةَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، وَهُوَ يَنْصَحُهُ نُصْحًا مَقْرُونًا بِمَا يُثِيرُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ.

وَمِن نَصَائِحِهِ: وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَن النَّاسِ؛ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِن نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ.

وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ مَشْيًا يُظْهِرُ الْوَقَارَ، وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤذِي؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ بِارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.

((تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا كُلَّهَا كَيْفَ يَكُونُ الْإِخْبَاتُ وَالْخُشُوعُ، وَالتَّوَاضُعُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((لَا تُطْرُونِي  كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُﷺ )) .

وَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يُرَاجِعُ مَنْ أَخَذَتْهُ الهَيْبَةُ -وَحُقَّ لَهُ أَنْ تَأْخَذَهُ- مَنْ أَخَذَتْهُ الهَيْبَةُ إِذَا حَضَرَ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَارْتَعَدَت فَرَائِصُهُ ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُ: ((هَوِّنْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِن قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ  بِمَكَّةَ ﷺ)) .

رَسُولُ اللهِ ﷺ، كانَ يَكْسِرُ الخُبْزَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ  -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، وَيُقَدِّمُ لَهُمُ الطَّعَامَ حَتَّى أَشْبَعَهُمْ ذَلِكَ الطَّعَامُ جَمِيعًا، وَهِيَ بَرَكَةٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ سَيِّدَ الْمُتَوَاضِعِينَ، النَّبِيُّ ﷺ مِنْ تَوَاضُعِهِ لِرَبِّهِ؛ لَمَّا كَانَ في بِنَاءِ مَسْجِدِهِ، كَانَ يَحْمِلُ اللَّبِنَ عَلَى عَاتِقِهِ ﷺ ، النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَيَسْبِقُهَا وَتَسْبِقُهُ .

نَبِيُّكُم ﷺ كَانَ في بَيْتِهِ يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَقْضِي حَاجَةَ نَفْسِهِ ﷺ، كانَ في بَيْتِهِ في حَاجَةِ أَهْلِهِ ﷺ .

((الْجَنَّةُ دَارُ الْمُتَّقِينَ الْمُتَوَاضِعِينَ))

*جَعَلَ اللهُ الْجَنَّةَ الَّتِي قَدْ جَمَعَتْ كُلَّ نَعِيمٍ، وَانْدَفَعَ عَنْهَا كُلُّ مُكَدِّرٍ وَمُنَغِّصٍ دَارًا وَقَرَارًا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

تِلْكَ الْجِنَّةُ الْبَعِيدَةُ الْمَكَانِ وَالْمَكَانَةِ، الْمُرْتَفِعَةُ الْمَنْزِلَةِ، نَجْعَلُ نَعِيمَهَا مُسْتَقْبَلًا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ وَلَا اسْتِطَالَةً عَلَى النَّاسِ، بِتَحْقِيقِ حُظُوظِ أَنْفُسِهِم مِن الدُّنْيَا، وَلَا الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، وَيَنْشُرُونَ الْفَاحِشَةَ، وَيَطْرَحُونَ الشُّبُهَاتِ، وَيُفْسِدُونَ الْأَخْلَاقَ وَالْقِيَمَ وَالْآدَابَ.

وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللهِ بِأَدَاءِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.

إنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَكْرَهُ سَفَاسِفَ الْأُمُورِ، يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ ، فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى نَفْسِهِ مُفَتِّشًا فِيهَا، أَيْنَ أَنَا؟!!

وَمَنْ أَنَا؟!!

وَإِلَى أَيْنَ أَسِيرُ؟!!

عَلَيْكَ أَنْ تَسْأَلَ نَفْسَكَ: مَنْ أَنْتَ، مَنْ تَكُونُ؟!!

أَأَنْتَ عَبْدٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ؟!!

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا ، فَالرَّسُولُ ﷺ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الَّذِي قَرَّرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ، قَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وَتَأَمَّلْ فِي ((عَلَى)) هَذِهِ الَّتِي تَكُونُ لِلِاسْتِعْلَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ فَوْقَ الذِّرْوَةِ الشَّمَّاءِ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخَالِطُ النَّاسَ بِالْجَمِيلِ وَالْبِشْرِ، وَاللُّطْفِ وَتَحَمُّلِ الْأَذَى، مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ، حَلِيمًا بِهِمْ، صَبُورًا عَلَيْهِمْ، تَارِكًا لِلتَّرَفُّعِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَيْهِمْ، مُتَجَنِّبًا لِلْغِلْظَةِ وَالْغَضَبِ وَالْمُؤَاخَذَةِ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  نَصَائِحُ جَامِعَةٌ فِي يَوْمِ عِيدِ الْمُسْلِمِينَ
  سَبَبُ النَّصْرِ الْأَعْظَمُ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ
  الْآثَارُ الْمُدَمِّرَةُ لِلسُّلُوكِيَّاتِ الْخَاطِئَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ
  حَثُّ دِينِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ الْمَادِّيَّةِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ التَّصْدِيقُ وَالتَّسْلِيمُ
  وِقَايَةُ الْأَبْنَاءِ مِنْ مَكْرِ أَصْحَابِ الْأَحْزَابِ وَالْجَمَاعَاتِ
  مَثَلٌ مَضْرُوبٌ فِي الْوَفَاءِ!!
  الْحَثُّ عَلَى وَحْدَةِ الصَّفِّ فِي الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَثَمَرَاتُهَا
  الْمِعْرَاجُ وَبَذْلُ الْحُبِّ وَالْوُدِّ
  شَهَادَاتُ الْمُنْصِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالرَّحْمَةِ
  الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَالْحَذَرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ
  جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْأُضْحِيَّةِ
  مِنْ سُبُلِ الْبِنَاءِ الِاقْتِصَادِيِّ السَّدِيدِ: التَّخْطِيطُ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ: الرِّفْقُ وَالرَّحْمَةُ بِهِ
  الْحَثُّ عَلَى خُلُقِ الشَّهَامَةِ وَتَفْرِيجِ كُرُبَاتِ الْمُسْلِمِينَ
  • شارك