((صِدْقُ الْعَزِيمَةِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ))
نَبِيُّكُمْ ﷺ يَجِدُ وَيَجْتَهِدُ، وَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ رَافِعًا إِيَّاهُ مُشَمِّرًا ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا، وَيَا للهِ الْعَجَبِ؛ لَوْ كَانَ لِعَبْدٍ عِنْدَ عَبْدٍ حَاجَةً مِنْ أَصْحَابِ النُّفُوذِ وَالْجَاهِ؛ لَأَقَامَ عَلَى بَابِهِ لَيْلَةً كَامِلَةً يَنْظُرُ لَا يَطْرِفُ لَهُ جَفْنٌ، وَلَا يَنَامُ لَهُ خَاطِرُ، وَلَا يَتَبَلَّدُ لَهُ حِسٌّ، حَتَّى يَقْضِي لَهُ حَاجَتَهُ؛ لَعَدَّ ذَلِكَ بِجِوَارِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ قَلِيلًا!! فَكَيْفَ لَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ لَيْلَةً وَإِنْ طَالَتْ، وَلَا يَطُولُ لَيْلٌ مَعَ مُحِبٌّ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يَطُولُ اللَّيْلُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَاقِ، يَطُولُ اللَّيْلُ عَلَى الْمَلُولِ، يَطُولُ اللَّيْلُ عَلَى الْمُسْتَهِينِ الْمُسْتَهْتِرِ، وَأَمَّا الْمُحِبُّ فَإِنَّهُ يَخْلُو بِحَبِيبِهِ وَتَنْقَضِي الْأَزْمَانُ كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ؛ لَا، بَلْ كَلَمْحَةِ الْبَرْقِ، بَلْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
فَيَقُومُ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ مُصَلِيًّا مَا شَاءَ اللهُ، وَذَاكِرًا دَاعِيًا، رَاجِيًا مُبْتَهِلًا، مُنِيبًا عَائِدًا، يَضَعُ أَحْوَالَهُ جَمِيعَهَا بِعُجَرِهَا وَبُجَرِهَا، بِكُلِّ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِمَّا حَوَتْهُ الصَّحَائِفُ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
لَا تَجِدُ شَيْئًا قَطُّ قَدْ ذَهَبَ هَبَاءً، وَإِنَّمَا كُلُّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مُسْتَطَرٍ، مَسْطُورٍ هُنَالِكَ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ، ثُمَّ يُعْرِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأَبْعَدِينَ مِنَ الْمُسِيئِينَ الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فَيَتَلَّقَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كِتَابَهُ يَقُولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة: 19-20]، وَتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْأَدَاءِ بِالْفَرْحَةِ الْغَامِرَةِ الَّتِي تَنْبَعِثُ فِي الْأَجْوَاءِ، وَتَنْبَثِقُ مِنْ ثَنَايَا تَلَافِيفِ نِقَاطِ هَذَا الْحَرْفِ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، صَيْحَةُ الْمُوَفَّقِينَ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَبْلُغُ الْعَرَقُ بِالنَّاسِ الْمَبَالِغِ، وَأَمَّا التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الْحَامِدُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الْمُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُمْ أَبَدًا.
نَبِيُّكُمْ ﷺ -وَهُوَ مَنْ هُوَ بِلَا ذَنْبٍ ﷺ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ﷺ أَحْيَا لَيْلَهُ كُلَّهُ، فَلَمْ يَطْعَمُ لَهُ جَفْنٌ بِغُمْضٍ، وَإِنَّمَا يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ، لَا يَنَامُ ﷺ، يَخْلِطُ الْعِشْرِينَ بِيَقَظَةٍ وَمَنَامٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ظَلَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَعَبِّدًا، فَيُحْيِي اللَّيْلَ لَا بِصَلَاةٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا تَقُولُ عَائِشَةُ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: ((مَا أَحْيَا لَيْلَهُ كُلَّهُ إِلَى الصَّبَاحِ مَرَّةً قَطُّ)). فِي مَعْنَى مَا قَالَتْ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا-.
وَإِذَنْ؛ هُنَالِكَ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَاتِ الْمَنْسِيَّاتِ وَالطَّاعَاتِ الْمَهْجُورَاتِ مَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، تَدْرِي لَوْ أَنَّكَ جَلَسْتَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِكَ مُتَوَضِّئًا، مُتَعَطِّرًا مُتَطَيِّبًا، فَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِهِمْ أَنَّهُمْ يَغْتَسِلُونَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ -بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ-، يَغْتَسِلُونَ، يَتَطَيَّبُونَ، يَتَزَيَّنُونَ، قَادِمِينَ عَلَى الْعِيدِ هَؤلَاءِ؟ بَلْ هُوَ أَرْفَعُ وَأَجَلُّ مِنَ الْعِيدِ، إِنَّهُ مَوْسِمُ العَطِيَّةِ الَّتِي لَا تُحَدُّ، وَمَوْسِمُ الِاسْتِغَفَارِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، إِنَّهُ مَوْسِمُ الْعَطَاءِ بِالْفَيْضِ مِنْ ذِي الْجَلَالِ، وَحِينَئِذٍ يُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُنِيبِينَ، يَغْتَسِلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يَلْبَسُونَ أَحْسَنَ الثِّيَابِ، يَتَزَيَّنُونَ، يَتَطَيَّبُونَ، يَتَجَمَّرُونَ، يَتَعَطَّرُونَ، يُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِطِيبٍ ظَاهِرٍ عَلَى طِيبٍ بَاطِنٍ، إِذْ يُقْبِلُونَ عَلَى الْقُلُوبِ يُنَقُّونَهَا مِنْ دَغَلِهَا وَحِقْدِهَا، وَيَنْفُونَ عَنْهَا مَا عَلَقَ بِهَا مِنْ قَاذُورَاتِهَا.
أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَعُودَ؟!!
يَا للهِ الْعَجَبِ!! إِنَّ اللهَ –جَلَّ وَعَلَا- يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَيْكَ، أَفَلَا تَعُودُ؟!!
إِنَّهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ، أَفَلَا تَعُودُ؟!!
إِنَّهُ أَحَنُّ عَلَيْكَ مِنْ أُمِّكَ الَّتِي وَضَعَتْكَ، أَفَلَا تَعُودُ؟!!
إِنَّ الرَّسُولُ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ وَيُعِدُّ، يُعِدُّ الْعُدَّةَ لِهَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَاتِ؛ لِيُدْرِكَ لِيْلَةَ الْقَدْرِ، لِأَنَّ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَهُوَ الْمَحْرُومُ حَقًّا، وَفِيهَا مِنْ فُيُوضِ الْعَطَاءَاتِ مَا لَا يَدْرِي قَدْرَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، فَقَطْ عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَكَ عَلَى الطَّبِيبِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِرَجُلٍ: ((مَنْ أَنْتَ؟))
قَالَ: أَنَا طَبِيبُهَا.
قَالَ: ((طَبِيبُهَا اللهُ)). اللهُ الطَّبِيبُ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ الْمَكْلُومُ بِحَسْرَةِ الْقَلْبِ، بِحُزْنِ الْفُؤادِ، يَأْتِي الْعَبْدُ الَّذِي لَوَّثَتْ صَفْحَتَهُ هَذِهِ الذُّنُوبِ، وَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ الْمَعَائِبُ، وَانْدَلَقَتْ عَلَى أُمِّ رَأْسَهُ قَاذُورَاتِ الْعِيُوبِ، يَأْتِي الْعَبْدُ إِلَى سَيِّدِهِ إِلَى طَبِيبِهِ؛ إِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ بَلَغَتْ بِي مَبَالِغَهَا، وَإِنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَسْقَمَ فُؤادِي فَأَذَلَّهُ، أَذَلَّهُ لِكُلِّ مَنْ هُوَ ذَلِيلٌ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أَلَا تَنْظُرُ إِلَيَّ نَظْرَةَ الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ عَلَيَّ بَعْدَهَا سَخَطٌ أَبَدًا، أَلَا تَأْخُذُ بِيَدَيْ وَأَنْتَ أَنْتَ الْكَرِيمُ، قَدْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَيْكَ فَلَا تَرُدَّنِي خَائِبًا، يَنْطَرِحُ عَلَى الْعَتَبَاتِ وَاللهِ لَا أَعُودُ حَتَّى تَغْفِرَ لِي وَتَسْتُرَ الْمَعَائِبَ وَالْعُيُوبَ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
عَرِّضْ نَفْسَكَ لِهَذِهِ النَّفْحَاتِ، فَإِنَّهَا إِنْ ذَهَبَتْ لَا تَعُودُ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ولَيلَةِ القَدْرِ وَأَحْكَامُ زَكَاةِ الفِطْرِ