((فَضَائِلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))
فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهَا، وَمَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهَا بِجَزِيلِ خَيْرِهَا، وَأَشَادَ اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهَا؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4].
مِنْ بَرَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُبَارَكَ أُنْزِلَ فِيهَا، وَقَدْ وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ الْمُحْكَمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُتْقَنَةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَلَلٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا بَاطِلٌ ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [الأنعام: 96].
﴿إِنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدْرِ * لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5].
الْقَدْرُ: بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالتَّعْظِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يُفْصَلُ فِيهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى الْكَتَبَةِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ: مَنْ يُولَدُ وَمَنْ يَمُوتُ، مَنْ يُرْفَعُ وَمَنْ يُخْفَضُ، مَنْ يُعَزُّ وَمَنْ يُذَلُّ، مَنْ يُعْطَى وَمَنْ يُحْرَمُ، مَنْ يَحُجُّ وَمَنْ يَعْتَمِرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانِ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- تَقْدِيرٌ أَزَلِيٌّ، كَتَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ نُسْخَةً مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ كُلِّ عَامٍ إِلَى الْكَتَبَةِ، وَفِيهَا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ الْمُحْكَمَةِ المُتْقَنَةِ.
وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ شَرِيفَةٌ عَظِيمَةٌ، يُقَدِّرُ اللهُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الْعَامِ بَعْدَهُ، وَمَا يَقْضِيهِ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَوَامِرِهِ الْحَكِيمَةِ، وَأُمُورِهِ الْجَلِيلَةِ.
﴿لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 3]، يَعْنِي: فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ، وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ؛ لِذَا مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
وَفِي سُورَةِ الْقَدْرِ مِنْ فَضَائِلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:
أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ الَّذِي بِهِ هِدَايَةُ الْبَشَرِ، وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدْرِ﴾ [القدر: 2].
وَكُلُّ «مَا أَدْرَاكَ» فِي الْقُرْآنِ أَدْرَاهُ، وَكُلُّ ((مَا يُدْرِيكَ)) لَمْ يُدْرِهِ.
إِذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا الِاسْتِفَهَامِ الَّذِي هُوَ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّشْوِيقِ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدْرِ * لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 2-3]؛ فَكُلُّ «وَمَا أَدْرَاكَ» فِي الْقُرْآنِ أَدْرَاهُ.
وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، كَمَا قَضَى بِذَلِكَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.
وَالْمَلَائِكَةُ تَتَنَزَّلُ فِيهَا، وَهُمْ لَا يَتَنَزَّلُونَ إِلَّا بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ حَتَّى تَضِيقَ بِهْم الْأَرْضُ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَعْنَى الْقَدْرِ.
الْقَدْرُ: الشَّرَفُ.
وَالْقَدْرُ: الضِّيقُ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْأَرْضَ تَضِيقُ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ كَثْرَتِهِم، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَتَنَزَّلُ إِلَّا بَالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ.
﴿وَالرُّوحُ﴾: وَهُوَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا فِي سُورَةِ الْقَدْرِ: أَنَّهَا سَلَامٌ؛ ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾.
وَقَدْ أَتَى بِالْجُمْلَةِ مَعَرَّفَةَ الطَّرَفَيْنِ، لَا؛ بَلْ إِنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- ذَكَرَهَا هَكَذَا تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا: ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾، فَدَلَّ عَلَى كَونِها سَلَامًا لُحْمَةً وَسُدَى، فَهِيَ سَلَامٌ مَحْضٌ؛ ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾؛ فَهِيَ سَاجِيَةٌ صَافِيَةٌ «طَلِقَةٌ بَلِجَةٌ» كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ؛ إِذْ هِيَ سَلَامٌ، تَتَنَزَّلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ، يَتَنَزَّلُ فِيهَا مِنْ رَبِّنَا السَّلَامِ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ؛ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَى السَّلَامِ مِنْ بَعْدِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ وَالْعَنَاءِ وَالْكَرْبِ، فَتَجِدُ الرُّوحُ مُنْطَلَقَها، وَيَجِدُ الْقَلْبُ مُسْتَقَرَّهُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِدُ قَلبُهُ مُسْتَقَرَّهُ!
﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾؛ لِكَثْرَةِ السَّلَامَةِ فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ؛ لِمَا يَقُومُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِها، وَجَلِيلِ قَدْرِهَا: أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِيهَا سُورَةً بِرَأْسِهَا؛ تُتْلَى، يُتَعَبَّدُ للهِ بِتِلاَوَتِهَا إِلَى أَنْ يَرْفَعَ اللهُ الْكِتَابَ الْمَجِيدَ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ.
وَلَا تَخْتَصُّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِلَيْلَةٍ مُعيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ، بَلْ تَنْتَقِلُ، فَتَكُونُ فِي عَامٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، وَفِي عَامٍ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا...تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُه ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَىَ، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَىَ، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَىَ».
قَالَ الْحَافِظُ فِي «الفَتْحِ»: «الْأَرْجَحُ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ».
فَالْأَرْجَحُ عَلَى حَسَبِ دَلَالَاتِ النُّصُوصِ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ؛ فَلَيْسَتْ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا، تَكُونُ ثَابِتَةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ وَلَكِنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ.
وَقَدْ أَخْفَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَن الْعِبَادِ تَحْدِيدَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَطْعٍ؛ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِيَكُثْرَ عَمَلُهُم فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ، وَبِالدُّعَاءِ وَالْإِخْبَاتِ، وَبِالبُكَاءِ وَالْإِنَابَةِ؛ لِيَزْدَادُوا مِنَ اللهِ قُرْبًا، وَلِيَكْثُرَ لَهُمْ مِنَ اللهِ الثَّوَابُ، وَلِيُعْلَمَ مَنْ كَانَ جَادًّا فِي طَلَبِهَا، حَرِيصًا عَلَيْهَا مِمَّنْ كَانَ كَسْلَانًا مُتَهَاوِنًا.
أَخْفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ؛ فَلَا تَدْرِي بِمَ يَرْضَى عَنْكَ مِمَّا تَتَزَلَّفُ بِهِ إِلَيْهِ؟
وَلَا تَدْرِي؛ أَيُّ ذَلِكَ يُقْبَلُ لَدَيْهِ وَيُعْتَمَدُ عِنْدَهُ؟
فَأَخْفَى رِضَاهُ فِي طَاعَتِهِ، كَمَا أَخْفَى سَخَطَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ.
وَقَدْ أَخْفَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ، فِي سَاعَاتِهِ، وَالْأَرْجَحُ: أَنَّهَا السَّاعَةُ الْأَخِيرَةُ قَبْلَ الْمَغْرِبِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ يَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ إِلَّا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.
وَذَلِكَ لِيَحْرِصَ النَّاسُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَبَذْلِ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَتَفْرِيغِ الْأَوْقَاتِ لِعِبَادَةِ اللهِ؛ فَأَخْفَى اللهُ -رَبُّ الْعَالَمِينَ- لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ: «فَنُسِّيتُهَا، وَعَسَىَ أَنْ يَكُونَ خَيرًا لَكُمْ»؛ أَيْ: لِتَزْدَادُوا اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ وَالطَّلَبِ، وِلِأَنَّكُمْ إِذَا عَلِمْتُمْ تَحْدِيدَهَا بقَطْعٍ فِي لَيْلَةٍ مُحَدَّدَةٍ؛ تَوَفَّرْتُمْ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ثُمَّ كَسَلْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفَتَرْتُمْ عَن الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ، وَلَا كَذَلِكَ فِعْلُ الْمُتَّقِينَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ الْأَمِينَ ﷺ مَعَ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ إِلَّا أَنَّهُ «كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّىَ تَتَفَطَّرُ قَدَمَاهُ»، فَلَمَّا رُوجِعَ فِي ذَلِكَ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!!» ﷺ.
يُسْأَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي كُلِّ حِينٍ الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ.
يَسْأَلُ الْعَبْدُ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي «الْمُسْنَدِ»:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافْقَتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُولُ فِيهَا؟
قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
لَوْ كَانَ هُنَاكَ طَلَبٌ هُوَ أَعْلَى مِنْ هَذَا؛ لَذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-.
لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّهَا أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ لَمَّا سَأَلَهُ عَمْرو بِنُ الْعَاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «عَائِشَةُ».
قَالَ: فَمِنَ الرِّجَالِ؟
قَالَ: «أَبُوهَا» -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهَا وَعَن الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.
فَهَذَا اخْتِيَارُ الْحَبِيبِ لِلْحَبِيبِ.
يَخْتَارُ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي يُقْبَلُ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَيُجْزَلُ فِيهَا الْعَطَاءُ، وَتُمْحَى فِيهَا الْخَطَايَا، وَتُزَالُ فِيهَا السَّيِّئَاتُ، يَخْتَارُ لَهَا رَسُولُ اللهِ هَذَا الدُّعَاءَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَا هُوَ فَوْقَهُ؛ لَذَكَرَهُ لَهَا ﷺ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
هُوَ الْعَفُوُّ، وَهُوَ يُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَيُحِبُّ أَنْ يَعْفُو عَنْ عِبَادِهِ، وَيُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَعْفُوَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ؛ عَامَلَهُم بِعَفْوِهِ، وَعَفْوُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ.
كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ»، كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ».
عَفْوهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ؛ «وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ»: مِن نِقْمَتِكَ.
قَالَ مُطَرِّفُ بِنُ عَبْدِ اللهِ: «لَأَنْ أَبِيتَ نائمًا وأُصْبِحَ نادمًا؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قائمًا وأُصْبِحَ مُعْجَبًا».
الْإِخْلَاصَ...الْإِخْلَاصَ!
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْزُقَنَا إِيَّاهُ.
هُوَ عُقْدَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَحَرْفُهَا، وَقُطْبُها الَّذِي عَلَيْهِ تَدُورُ.
«أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»؛ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ.
وَتَأَمَّلْ فِي وَصْفِ مَا يَكُونُ: «أَعْمَالٌ كأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيضَاءَ؛ يَجْعَلَهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا»؛ كَالْقُطْنِ الْمَنْتُوفِ الْمَنْدُوفِ؛ يَجْعَلُهُ اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَالْجِبَالُ مُتَمَاسِكَةٌ صُلْبَةٌ قَائِمَةٌ، مُتَلَاحِمَةٌ بِذَرَّاتِها، وَبصَخْرِهَا، وَبِمُكَوِّنَاتِهَا.
وَلَكِنْ وَا أَسَفَاهُ! مَا مِنْ لُحْمَةٍ هَاهُنَا تَرْبِطُ؛ فَأَعْمَالٌ مُتَنَاثِرَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، يَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
«لَأَنْ أَبِيتَ نائمًا وأُصْبِحَ نادمًا؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قائمًا وأُصْبِحَ مُعْجَبًا»؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مَعَ الْإِعْجَابِ عَمَلٌ، وَالنَّدَمُ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ؛ فَإِذَا اسْتَكْمَلْتَ شُرُوطَهَا؛ كَانَتْ نَصُوحًا مَقْبُولًا.
فَاحْرِصْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَلَى التَّصْفِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَخَلِّفْ دُنْيَاكَ وَرَاءَكَ، وَأَقْبِلْ صَحِيحًا؛ حَتَّى تَصِيرَ مُعَافَى.
اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا.
المصدر:فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ولَيلَةِ القَدْرِ وَأَحْكَامُ زَكَاةِ الفِطْرِ