((عَاقِبَةُ إِهْمَالِ مُرَاقَبَةِ الْقُلُوبِ وَرِعَايَةِ الضَّمَائِرِ))
النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا بِأَمْرٍ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُؤَدِّي إِلَيْهِ أَعْمَالٌ وَأَقْوَالٌ وَأَحْوَالٌ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ يَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَرَةً مُرَّةً، فِجَّةً لَا تُطَاقُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ زَاعِقَةً بِمَرَارَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَه فِي ((سُنَنِهِ)) بِإِسْنَادِهِ عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ كأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا».
فَقَالَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَلِّهِمْ -وَفِي رِوَايَةٍ بِالْمُهْمَلَةِ-: حَلِّهِمْ لَنَا -يَعْنِي: اذْكُرْ لَنَا صِفَاتِهِمْ- حَلِّهِمْ لَنَا، وَجَلِّهِمْ لَنَا -يَعْنِي: أَظْهِرْهُمْ لَنَا بِصِفَاتِهِمْ- حَتَّى نَعْرِفَهُمْ)).
قَالَ ثَوْبَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَلَّا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ)).
فقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا».
فَرِقَابَةُ السِّرِّ، وَرِعَايَةُ الْخَلْوَةِ؛ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ؛ فَحْصًا، وَفَتْشًا، وَبَحْثًا، وَتَنْقِيبًا، وَتَمْحِيصًا؛ حَتَّى يَكُونَ مُسَدَّدًا.
وَهَذَا قَلَّ مَنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ!!
وَهَذَا الْمَجَالُ مِنَ الْمَجَالَاتِ الَّتِي يُقَصَّرُ فِي النَّظَرِ فِيهَا، وَالْعَمَلُ بِالْمَعَانِي الَّتِي وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ مِمَّا يَتَنَزَّلُ عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؛ يُقَصِّرُ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ!!
الرَّسُولُ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُخْبِرُ عَنْ أَقْوَامٍ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَمِنْ صِيَامٍ، وَصَدَقَةٍ، كَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ ((يَأْتُونَ بِأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، يَأْتُونَ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا)).
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ)) أَمْرٌ مَخُوفٌ؛ لِأَنَّهُمْ يُكْثِرُونَ مِنْ ذَلِكَ هَذَا الْإِكْثَارَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا.
يَقُولُ مَنْ يَقُولُ هَاهُنَا: وَلَكِنَّ الْجِبَالَ لَهَا ثِقَلُهَا، وَلَهَا وَزْنُهَا، فَهَذِهِ أَعْمَالٌ تَثْقُلُ فِي أَيِّ بَابٍ، وَالْأَعْمَالُ إِذَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِالطَّاعَاتِ؛ تَكُونُ ثَقِيلَةً فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ، فَمَا التَّخْرِيجُ؟
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا))؛ لِأَنَّهَا تَلُوحُ كَالسَّرَابِ، هِيَ فِي الْعِظَمِ.. فِي الِانْتِفَاشِ.. فِي الضَّخَامَةِ كَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ مُشَبَّهًا بِهِ: ((كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا)) كَالسَّرَابِ، كَالضَّبَابِ، لَا حَقِيقَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ خَفِيفَةٌ، لَا تَثْقُلُ فِي مِيزَانٍ؛ بَلْ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((يَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ مَآلِهَا بَعْدَ تَكَوُّنِهَا، وَبَعْدَ رُؤْيَةِ حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ قَائِمَةً فِي دُنْيَا النَّاسِ.
فَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَيُكْثِرُونَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّهُمْ يَبْنُونَ عَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ، وَمَا يَنْطَلِقُونَ مِنْ إِخْلَاصٍ صَحِيحٍ، وَلَا مِنْ نِيَّةٍ صَادِقَةٍ، فَتَأْتِي تِلْكَ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا، لَا عَلَى ثَبَاتٍ، يَنْظُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُورًا؛ لِأَنَّ ((اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَا إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)).
فَإِذَا كَانَتِ الْأَعْمَالُ صَالِحَةً؛ فَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَعْمَالُ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ؛ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ بِالتَّجَرُّدِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مَعَ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَزِنُ شَيْئًا، ((يَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ: أَنَّ هَذَا الَّذِي أَتَى بِهِ مَنْ أَتَى مِمَّنْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ؛ أَتَى بِهِ عَلَى قَدَمِ الْمُتَابَعَةِ، فَاقِدًا شَرْطَ الْإِخْلَاصِ؛ لِأَنَّهُ ﷺ يَقُولُ: ((يَأْتُونَ بِالصَّلَاةِ، وَبِالصِّيَامِ، وَبِالصَّدَقَةِ، إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ)).
وَلَكِنْ غَابَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ مِنْ شَرْطَيْ قَبُولِ الْعَمَلِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حَتَّى يَكُونَ للهِ خَالِصًا، وَحَتَّى يَكُونَ الْآتِي بِهِ لِلنَّبِيِّ ﷺ مُتَابِعًا.
فَهَذَانِ شَرْطَانِ:
1- إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ غَيْرِ مَا شِرْكٍ فِيهِ.
2- وَإِتْيَانُ الْعَبْدِ بِالْعَمَلِ عَلَى قَدَمِ الْمُتَابَعَةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ بِدْعَةٍ فِيهِ.
فَيَتَجَرَّدُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ، يَتَجَرَّدُ مِنَ الشِّرْكِ فِي عَمَلِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَجَرَّدُ مِنَ الْبِدْعَةِ، نَابِذًا لَهَا نَبْذَ النَّوَاةِ، وَيَجْعَلُهَا مَزْجَرَ الْكَلْبِ؛ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ.
يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ فِي ((الصَّحِيحِ))-: ((أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي؛ وَكَلْتُهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُجَاهِدُ حَمِيَّةً، وَعَنِ الرَّجُلِ يُجَاهِدُ لِلْمَغْنَمِ، وَعَنِ الرَّجُلِ يُجَاهِدُ؛ لِيُرَى مَكَانُهُ؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟
فَقَالَ: ((مَنْ قَاتَلَ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)).
فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهَذَا الشَّرْطِ أَوَّلًا، لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَإِلَّا كَانَ مَرْدُودًا عَلَى عَامِلِهِ، وَكَانَ حَابِطًا.
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الصَّحِيحِ))-: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ)) يَعْنِي: فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَـ((رَدٌّ)) بِمَعْنَى: مَرْدُودٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ فِيهِ مُتَابِعًا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الَّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَدَتْ هَذَا الشَّرْطَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ شَرْطُ الْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ صَارَتِ الْأَعْمَالُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بَيْضَاءُ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةِ: ((أُولَئِكَ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا)).
وَلِذَلِكَ ((جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَنْ يُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)).
إِذَا اسْتَوَى حَالُهُ فِي الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ؛ فَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ؛ لِأَنَّهُ يُرَاقِبُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، نَاظِرٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ؛ وَلِذَلِكَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ عَلَى الْحَالَيْنِ: خَلْوَةً، وَجَلْوَةً.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ.
رِقَابَةُ السِّرِّ، وَرِعَايَةُ الضَّمِيرُ، وَالْفَتْشُ فِي أَحْنَاءِ الضَّمِيرِ؛ مِنْ أَجْلِ وَضْعِ الْيَدِ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَوَاعِثِ الْبَاعِثَةِ لِلْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ، أَوْ لِلْكَفِّ وَالتُّرُوكِ، لَا بُدَّ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى شَيْءٍ مُقَارَبٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ؛ وَإِلَّا كَانَ الْإِنْسَانُ سَائِرًا عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ فِي حَدِيثَ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ جَلِيلٍ جِدًّا، يَقُولُ: ((أُولَئِكَ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا)).
فَأَيْنَ اسْتِوَاءُ السِّرِّ مَعَ الْعَلَانِيَةِ هَا هُنَا؟!!
لَقَدْ وَقَعَ التَّفَاوُتُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الظَّاهِرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، كَمَا وَصَفَ النَّبِيُّ ﷺ: ((بِأَعْمَالٍ عَظِيمَةٍ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا))؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَدَقَةٍ، وَصِيَامٍ؛ وَلَكِنْ إِذَا خَلَا بِمَحَارِمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَكَهَا، فَهَذَا لَا يَعْمَلُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَمَلًا خَالِصًا، وَإِنَّمَا عَيْنُهُ وَرِقَابَتُهُ لِلْخَلْقِ، لَا لِلْحَقِّ!!
هَذَا لَا يُرَاقِبُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةً أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ نَاظِرٌ إِلَيْهِ!!
وَأَمَّا كَفُّ الْيَدِ فِي السِّرِّ.. فِي الْخَلْوَةِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ -وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى الْعَبْدِ -حِينَئِذٍ- إِلَّا اللهُ- فَيَدَعُهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
فَهَذَا هَذَا، وَهُوَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَكِّزَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَأَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ؛ وَإِلَّا فَإِنَّ التَّفَاوُتَ إِذَا وَقَعَ هَاهُنَا بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى حَسَبِ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ؛ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ.
وَهَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْشَاهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَأَنْ يُرَاعِيَ نَفْسَهُ فِيهِ، وَأَنْ يَسْأَلَ: إِنَّهُ يَتَوَرَّعُ عَنْ أُمُورٍ فِي مَحْضَرِ النَّاسِ، يَتَوَرَّعُ عَنْ أُمُورٍ عِنْدَ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ؛ وَلَكِنَّهُ لَا يَتَوَرَّعُ عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ خَالِيًا، لَا يَكُفُّ عَنْهَا، وَلَا يَنْتَهِي عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا حَتَّى يُوَاقِعَهَا؛ لِأَنَّهُ طَالَمَا أَمِنَ النَّاظِرِينَ وَأَعْيُنَهُمْ؛ فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- كَأَنَّهُ لَا رَقِيبَ عَلَيْهِ، وَلَا نَاظِرَ إِلَيْهِ!!
وَهَذَا خَلَلٌ عَظِيمٌ جِدًّا يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الِاعْتِقَادِ، فَيُورِثُ نِفَاقًا.
-نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعُفَوَ عَنَّا أَجْمَعِينَ-.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْعِبْرَةَ لَيْسَتْ بِالْعَمَلِ فِي ذَاتِهِ، وَإنَّمَا الْعِبْرَةُ كُلُّ الْعِبْرَةِ فِي تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِنْ شَوَائِبِهِ، فِي تَصْفِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُحْبِطُهُ، فِي تَنْقِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُكَدِّرُهُ.
الْعِبْرَةُ كلُّ العِبْرَة فِي تَنْقِيَةِ الْعَمَلِ مِمَّا يُحْبِطُهُ، حَتَّى يُرَدَّ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُرَدُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ يُضْرَبُ بِهِ وَجْهُهُ، يُقَالُ لَهُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَنْظُرُ فِي خَلَلِ الْأَعْمَالِ، فِي خِلَالِهَا، فِي مَطَاوِيهَا!!
يَنْظُرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي ثَنَايَا الْأَعْمَالِ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْظُرُ إِلَى الْإِخْلَاصِ هُنَالِكَ مِنْ وَرَاءِ الْأَعْمَالِ فِي دَوَافِعِهَا، فِي بَوَاعِثِهَا، فِي الْحَوَافِزِ الَّتِي حَفَزَتْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهَا.
وَأَمَّا الْأَعْمَالُ فِي ظَاهِرِهَا؛ فَإِنَّهَا لَا تَقُومُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِغَيْرِ سَاقٍ مَتِينٍ يَحْمِلُهَا مِنَ الْإِخْلَاصِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
«أَمَا إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَيَقُولُونَ بِمِثْلِ قَوْلِكُمْ، وَيَعْمَلُونَ بِمِثْلِ أَعْمَالِكُمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».
قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا!!
وَيْحَكَ، أَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ شَهِيدٍ؟!!
أَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ رَقِيبٍ؟!!
أَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنْ سَمِيعٍ يَسْمَعُ هَمْسَ الضَّمِيرِ فِي الضَّمِيرِ لِلضَّمِيرِ بِالْإِتْيَانِ بِمَا يُرِيدُ؟!!
وَيْحَكَ، أَلَا تَعْلَمُ بِأَنَّ اللهَ يَرَى؟!!
وَيْحَكَ، أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ!! يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورَ؟!!
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ مِنَ الْأَعْمَالِ حَقَائِقَهَا، وَحَقَائِقُهَا لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى الْإِخْلَاصِ فِيهَا.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَقَالَ ﷺ -كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَيْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ؛ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا لِمَنْ قَامَ قِيَامًا صَحِيحًا، وَصَامَ صِيَامًا صَحِيحًا، مُحْتَسِبًا عَمَلَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، مُحْتَسِبًا سَعْيَهُ وَقَصْدَهُ لِمَرَاضِي رَبِّهِ الْجَلِيلِ، مُحْتَسِبًا تَرْكَهُ، وَكَفَّهُ، وَامْتِنَاعَهُ؛ لِلْقُرْبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ تَخَلَّفَتْ عِنْدَهُ الْعُدَّةُ، وَأَمَّا مَنْ تَخَلَّى عَنِ السِّلَاحِ وَهُوَ يَذْهَبُ إِلَى الْهَيْجَا وَيُبَاشِرُ الْمَعْرَكَةَ مَعَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر: 6].
فَهِيَ مَعْرَكَةٌ إِذَنْ، وَهِيَ مَعْرَكَةٌ قَائِمَةٌ بِأَسْلِحَةٍ غَيْرِ مَنْظُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَرْتَعُ فِي الدِّمَاءِ، وَيَجْرِي فِي الْعُرُوقِ مَعَ الدِّمَاءِ السَّابِحَاتِ، فَهُوَ سَابِحٌ فِي تِلْكَ الدِّمَاءِ يَصِلُ إِلَى بَعِيدٍ، وَيَرَاكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ مِثْلِ هَذَا الْعَدُوِّ؟!!
وَإِنَّ أَسْلِحَتَهُ لَمَاضِيَةٌ، وَإِنَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعُدَّة لَمِمَّا لَا يُقَاوَمُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا يَتَأَتَّى الْإِخْلَاصُ فِي الْقَلْبِ يَحْرِقُ كُلَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا فِي هَذَا الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى قَلْبِهِ الشَّرِيفِ: أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ أَشْبَاحًا ظَاهِرَةً، وَإِنَّما يُرِيدُ أَرْوَاحًا بَاطِنَةً.
وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يُرِيدُ قَوَالِبَ مَنْصُوبَةً، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قُلُوبًا نَحْوَهُ مَصْبُوبَةً.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ.
((اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ أَشْرْكَ مَعَهُ غَيْرَهُ؛ وَكَلَهُ لِلَّذِي أَشْرَكَ وَلَا يُبَالِي)).
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجْعَلُ الْمُنَادِيَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الْمَوْقِفِ: «أَلَا مَنْ كَانَ عَامِلًا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ».
أَرَأَيْتَ إِنْصَافًا فَوْقَ هَذَا الْإِنْصَافِ؟!!
أَسَمِعْتَ عَنْ عَدْلٍ يُضَاهِي هَذَا الْعَدْلَ، أَوْ يُمَاثِلُهُ، أَوْ يُقَارِبُهُ؟!!
حَاشَا وَكَلَّا.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا: كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِغَيْرِ وَجْهِهِ، وَكُنْتُمْ تَعْبُدُونَ سِوَاهُ؛ مِنَ الْهَوَى الْمَتْبُوعِ، وَالْآرَاءِ الْمُتَّبَعَةِ؛ مِنْ تِلْكَ التَّصَوُّرَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَوْهَامِ الْخَائِبَةِ، وَالْغَرَائِزِ الثَّخِينَةِ، وَتِلْكَ الْأُمُورِ الْغَلِيظَةِ فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَحَاسِيسِهَا الَّتِي لَمْ تَرِقَّ عَلَى الدِّينِ بَعْدُ.
كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَالْيَوْمَ -لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ- فَلْيَذْهَبْ كُلُّ عَامِلٍ إِلَى مَنْ كَانَ يَعْمَلُ لَهُ حَتَّى يُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ، وَلِيَنْتَصِبِ الْيَوْمَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمًا عَلَى سَاقِ الْإِخْلَاصِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ؛ لِيُوَفِّيَهُ أَجْرَهُ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَطَاؤُهُ لَا حَدَّ لَهُ؛ إِذْ هُوَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ، وَقُدْرَةُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا حَدَّ لَهَا.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا أَنَّ مَنْ قَامَ وَصَامَ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا -إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ، بِالَّذِي فَرَضَ- وَاحْتِسَابًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ طَلَبًا لِلْأَجْرِ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، مِنْ غَيْرِ مَا عَمَلٍ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ قَطُّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغْيِيبٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي ضَمِيرِ الضَّمِيرِ، وَفِي غَيَاهِبِ الْمَكْنُونِ مِنْ ثَنَايَا النَّفْسِ؛ حَتَّى إِنِ اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ أَلَّا يُطْلِعَ ذَاتَهُ عَلَى عَمَلِ ذَاتِهِ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ قَالَ ﷺ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأْخَفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ».
فَيُخْفِي ذَاتَهُ عَنْ ذَاتِهِ، وَيُغَيِّبُ ذَاتَهُ فِي ذَاتِهِ، وَيَجْعَلُ عَمَلَهُ فِي حُجُبِ إِخْلَاصِهِ؛ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ أَحَدٌ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وَأَنْعِمْ بِهِ مِنْ مُعْطٍ وَصَاحِبِ جَزَاءٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ