((رَمَضَانُ.. كَيْفَ نَحْيَاهُ؟))
كَيْفَ نَحْيَا رَمَضَانَ، وَنُحْيِيهِ؟
إِنَّ العَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتَنِمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الأَوْقَاتِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ العَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغَيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟
إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:
1- الصِّيَامُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ :«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
الصِّيَامُ صِيَامٌ عَنِ الطَّعَامِ وَعَنِ الحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى: أَنْ يَصُومَ عَنِ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ، وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَأَلَّا يَجْعَلَ يَوْمَ صَوْمِهِ وَيَوْمَ فِطْرهِ سَوَاءً، وَأَلَّا يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعَ وَالعَطَشَ.
فَالصِّيَامُ أَكْبَرُ الأَعْمَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
2- القِيَامُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
3- الصَّدَقَةُ: مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ، وَمِمَّا يتَأَكَّدُ فِيهِ: الصَّدَقَةُ وَالجُودُ بِالمَوْجُودِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ».
رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)).
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».
وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في «الْأَوْسَطِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
سَقْيُ المَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.
يَحْفِرُ الْمُسْلِمُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ المَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالعَطْشَانِ.
وَتَلَوُّثُ المِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا؛ لِيَكُونَ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.
4- قِرَاءَةُ القُرْآنِ: مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ.
كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ.
وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ.
5- الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ: مِمَّا يُؤْتَى بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ العَامِ: الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ -بِحَدِيثٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ بِشَوَاهِدِهِ- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ».
فَهَذَا فِي كُلِّ الأَيَّامِ؛ فَكَيْفَ فِي رَمَضَانَ؟!!
6- الِاعْتِكَافُ: مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا».
وَالِاعْتِكَافُ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ كَثِيرًا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِهَا، وَآكَدُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ.
وَالاِعتْكِاَفُ هُوَ الخَلْوَةُ المَشْرُوعَةُ، يَفْعَلُهُ المَرْءُ فَيَخْلُو بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ؛ مِنْ أَهْلٍ وَصَاحِبٍ وَوَلَدٍ، وَيُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَالمُعْتَكِفُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَيَقْطَعُ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ.
7- العُمْرَةُ: العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي».
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمِّ سِنَانٍ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي، فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً -أَوْ قَالَ-: حَجَّةً مَعِي».
العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ فِي الأَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ العَدْنَانِ ﷺ.
((اشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ أَنْ أَدْرَكْتُمْ هَذَا الشَّهْرَ الْمُبَارَكَ))
أَيُّهَا الْمُسْلِمُ؛ لَقَدْ مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْكَ بِإِدْرَاكِ هَذَا الشَّهْرِ، فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَقِفَ طَوِيلًا مُتَأَمِّلًا، وَأَنْ تَخْشَعَ مَلِيًّا عِنْدَ هَذَا الشَّهْرِ بِمَا يُفِيضُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ مِنَ الرَّحَمَاتِ.
تَذَكَّرْ أَصْلَ الْخَلْقِ وَسَبَبَ الْوُجُودِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ خُلِقُوا لِلْعِبَادَةِ، فَحُقَّ عَلَيْهِمْ الِاعْتِنَاءُ بِمَا خُلِقُوا لَهُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا بِالزَّهَادَةِ؛ فَإِنَّها دَارُ نَفَادٍ لَا مَحَلُّ إِخْلَادٍ، وَمَرْكَبُ عُبُورٍ، لَا مَنْزِلُ حُبُورٍ، وَمَشْرَعُ انْفِصَامٍ، لَا مَوْطِنُ دَوَامٍ)) .
فَتَفَكَّرْ فِي عِظَمِ فَضْلِ اللهِ عَلَيْكَ؛ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 33].
وَأَجَلُّ تِلْكَ النِّعَمِ وَأَعْظَمُهَا: نِعْمَةُ الْإِسْلَامِ؛ فَكَمْ يَعِيشُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ أُمَمٍ حُرِمَتْ الشَّهَادَةَ؛ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟!
وَهَذَا فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، ثُمَّ احْمَدِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ؛ فَكَمْ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِتَعَالِيمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مُفَرِّطُونَ فِي الْوَاجِبَاتِ، غَارِقُونَ فِي الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ وَاللَّذَاتِ؟! وَأَنْتَ تَتَقَلَّبُ فِي نِعَمِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مِنْ سَعَةٍ فِي الرِّزْقِ، وَصِحَّةٍ فِي الْبَدَنِ؛ فَعَلَيْكَ وَاجِبُ الشُّكْرِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الشُّكْرِ: طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ؛ فَإِنَّ النِّعَمَ تَدُومُ بِالشُّكْرِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].
وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيْكَ: أَنْ مَدَّ فِي عُمُرِكَ، وَجَعَلَكَ تُدْرِكُ هَذَا الشَّهْرَ الْعَظِيمَ؛ فَكَمْ غَيَّبَ الْمَوْتُ مِنْ صَاحِبٍ، وَوَارَى الثَّرَى مِنْ حَبِيبٍ!
فَإِنَّ طُولَ الْعُمُرِ وَالْبَقَاءَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فُرْصَةٌ لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَرَأْسُ مَالِ الْمُسْلِمِ عُمُرُهُ.
لِذَا احْرِصْ عَلَى أَوْقَاتِكَ وَسَاعَاتِكَ؛ حَتَّى لَا تَضِيعَ سُدًى، وَتَذَكَّرْ مَنْ صَامَ مَعَنَا الْعَامَ الْمَاضِي وَصَلَّى الْعِيدَ!! ثُمَّ أَيْنَ هُوَ الْآنَ بَعْدَ أَنْ غَيَّبَهُ الْمَوْتُ؟!
وَاجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ». أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:فَضْلُ الصِّيَامِ وَسُلُوكُ الصَّائِمِينَ