«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الرابع والعشرون»
«سَلَامَةُ الصَّدْرِ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«وُجوبُ اجْتِهَادِ المُسْلِمِ فِي الخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّحْنَاءِ»
فَإِنَّ الْمَرْءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرَ الجَنَانِ، مُبَرَّأَ الْأَرْكَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِيمَا يُغْضِبُ الْعَزِيزَ الدَّيَّانَ؛ بَلْ يَكُونُ بَاحِثًا عَنْ مَرْضَاةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ مِمَّا يَعْلَقُ بِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الشِّرْكُ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ بِالحَمْئَةِ الْمَسْنُونَةِ؛ مِنْ تِلْكَ الشَّحْنَاءِ بِالْبَغْضَاءِ، بِالْغِلِّ، بِالْحَسَدِ.
وَيَا لله! هَلْ تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَقِيَّ الْفِطْرَةِ سَوِيَّ الطَّوِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْطَوِيَ بَاطِنُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا القَذَرِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟!
«وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ، لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ فَكَيْفَ بِتِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ مِنَ الشَّحْنَاءِ؛ مِنَ الحِقْدِ، مِنَ الْغِلِّ، مِنَ الْحَسَدِ، مِنَ الْبَغْضَاءِ، تَنْطَوِي عَلَيْهَا نَفْسٌ مُشَوَّهَةٌ حَتَّى يَتَشَوَّهَ الظَّاهِرُ تَبَعًا؟!
وَفِي «صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه» عَن عَبْدِ اللهِ بْن عَمْرو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: مَن أَفْضَلُ النَّاسِ؟
فَقَالَ ﷺ: «كُلُّ مَخْمُومِ القَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ -كُلُّ مَخْمومِ القَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ هَذَا أَفْضَلُ النَّاسِ-».
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ صَدَوق اللِّسَانِ عَرَفْنَاهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ القَلْبِ؟
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حَسَدَ».
فَأَفْضَلُ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: سَلَامَةُ الصَّدْرِ، وَمَنْ كَانَ عَن الغِلِّ وَالحَسَدِ مُنَزَّهًا، وَمِنْ ذَلِكَ مُبَرَّئًا.
عَلَى المَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي الخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِتَصْفِيَةِ القَلْبِ مِمَّا يَعْلَقُ بِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الشِّرْكُ مِنْ تِلْكَ المَادَّةِ القَذِرَةِ بِالحَمْئَةِ المَسْنُونَةِ مِنْ تِلْكَ الشَّحْنَاءِ، بِالبَغْضَاءِ، بِالغِلِّ، بِالحَسَدِ.
وَيَا للهِ! وَاللهِ لَو كُشِفَ الحِجَابُ؛ لَرَأَيْتَ هُنَاكَ نُفُوسًا وَرَاءَ تِلْكَ المَادَّةِ العَظْمِيَّةِ الجِلْدِيَّةِ اللَّحْمِيَّةِ نُفُوسًا سَبُعِيَّةً ونُفُوسًا كَلْبِيَّةً، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الحَيَوَانَاتِ، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ المِيزَاتِ الَّتِي تَمَيَّزَتْ بِهَا تِلْكَ الحَيَوَانَاتِ، فَنَسْألُ اللهَ أنْ يُطَهِّرَنَا مِنَ المَعَائِبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
مِنَ العِبَادَاتِ العَظِيمَةِ -عِبَادَ اللهِ!-: تَخْلِيَةُ القَلْبِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، مُنَزَّهًا مِنْ كُلِّ شِرْكٍ، مُوَحِّدًا رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- تَوْحِيدًا صَحِيحًا بِالانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبِالْانْطِرَاحِ عَلَى عَتَبَاتِ رَحَمَاتِهِ رَاجِيًا مَا عِنْدَهُ مِنَ الفَضْلِ، خَائِفًا مِمَّا لَدَيْهِ مِنَ العِقَابِ وَالعَذَابِ أَنْ يَنْزِلَ بِسَاحَتِهِ، رَاجِيًا وَخَائِفًا، مُقْبِلًا لَا مُدْبِرًا، مُتَقَصِّيًا أَثَرَ نَبِيِّهِ ﷺ ظاهرًا وباطنًا، بَعِيدًا عَنْ كُلِّ حِقْدٍ وَغِشٍ وَحَسَدٍ، مُنَقِّيًا لِذَاتِهِ مِنْ دَاخِلِهَا،
مَخْمُومَ القَلْبِ كَمَا قَالَ رَسُولُ الرّبِّ مُحَمَّدٍ ﷺ: «أَفْضَلُ النَّاسِ: مَنْ كَانَ صَدُوقَ اللِّسَانِ مَخْمُومَ الْقَلْبِ, الَّذِي لَا يَنْطَوِي عَلَى إِثْمٍ وَلَا بَغْيٍ, التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ, وَلَا غِلَّ فِيهِ وَلَا حِقْدَ وَلَا حَسَدَ».
هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنْ نَبِيِّكُم ﷺ، يُوَضِّحُ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ، وَأَكْرَمَ النَّاسِ فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ مَنْ هَذَّبَ النَّفْسَ وصَفَّاهَا, وَرَقَّ القَلْبَ وَأَعْلَاهُ عَلَى مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ كِتَابًا وَسُنَّةً, وَأَمَّا مَنْ دَسَّاهَا؛ فَقَدْ خَابَ كَمَا قَرَّرَ ربُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ.
«صَلَاحُ المَرْءِ وَالحَيَاةِ بِصَلَاحِ القَلْبِ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ»
كَيْفَ يَصْلُحُ الْمَرْءُ؟ كَيْفَ تَصْلُحُ الْحَيَاةُ؟
كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
كَيْفَ يَصْلُحُ الْقَلْبُ؟
يَصْلُحُ الْقَلْبُ بِالْخُلُوصِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْحِقْدِ، وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.. هَذَا صَلَاحُ الْقَلْبِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَتَّبَ الْجَزَاءَ عَلَى الشَّرْطِ: «إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ»، «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً»: قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْضَغُ -صَغِيرَةٌ هِيَ-، «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
هُنَا جَزَاءٌ قَدْ رُتِّبَ عَلَى شَرْطِهِ؛ فَلَا صَلَاحَ إِلَّا بِصَلَاحٍ، لَا صَلَاحَ لِلْجَسَدِ...لَا صَلَاحَ لِلْحَيَاةِ إِلَّا بِصَلَاحِ الْقَلْبِ -كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ-، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ، وَفَسَدَتِ الْحَيَاةُ.
كَيْفَ صَلَاحُ الْقَلْبِ -إِذَنْ-؟
بِخُلُوصِهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَخُلُوصِهِ مِنَ الْحِقْدِ وَمَذْمُومِ الْخِصَالِ.
النَّاسُ لَا تَحْيَا بِالْأَجْسَادِ؛ تَحْيَا بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَتْ هُنَالِكَ مُعَلَّقَةً بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ، لَا يَأْتِي مِنْ دَاخِلٍ؛ وَإِنَّمَا يُفْرَضُ عَلَى الرِّئَتَيْنِ فَرْضًا، يُفْرَضُ فَرْضًا، يُفْرَضُ فَرْضًا، بِنَفَسٍ يَتَرَدَّدُ.
نَعَمْ! النَّاسُ تَحْيَا بِالْقُلُوبِ، بِالْأَرْوَاحِ، بِرَصِيدِ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، تَحْيَا فِي الْحَيَاةِ لَا بِشَبَقٍ يَحْيَا بِهِ الْمَرْءُ فِي كَثْرَةِ صِفَاتٍ كَأَنَّهُ عُصْفُورٌ، وَلَا بِتَحَمُّلٍ يَمْضِي بِهِ الْمَرْءُ فِي الْحَيَاةِ كَأَنَّهُ الْبَغْلُ أَوِ الْجَمَلُ.
لَا؛ وَإِنَّمَا هِيَ الْأَرْوَاحُ وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ، بِرَصِيدٍ يَحْيَا بِهِ الْمَرْءُ، يَبْذُلُ بِهِ الْمَرْءُ، بِكَلِمَةٍ صَالِحَةٍ، وَعَمَلٍ مُطْمَئِنٍّ عَلَى قَرَارٍ، بِعَقِيدَةٍ ثَابِتَةٍ، فَإِذَا جَاءَ الْمَوْتُ؛ جَاءَتِ الشَّهَادَةُ -إِنْ شَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-، وَالْأَمْرُ بَعْدُ بِيَدِ اللـَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمُنْتَهى، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
فَاللَّهُمَّ مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، مُنَّ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّـهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا»، السَّفْسَافُ كَالْعَسَلِ فِي ظَاهِرِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِيهِ فَهُوَ كَالذُّبَابِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ، وَلَا أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ.
فَحَذَارِ، فَحَذَارِ، فَحَذَارِ أَنْ تَتَوَرَّطَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْعُمُرَ قَصِيرٌ.
عَلَيْكَ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ: مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنَ الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الْحِقْدِ خَاصَّةً.
وَهَذَا الْحِقْدُ مَا هُوَ؟
الْغَضَبُ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرْءُ لَهُ إِنْفَاذًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مُخْرِجًا؛ كُظِمَ -لَا دِينًا؛ وَإِنَّمَا عَجْزًا-؛ يَصِيرُ حِقْدًا، يَسْتَثْقِلُ بِهِ الْمَرْءُ الْمَحْقُودَ عَلَيْهِ -يَسْتَثْقِلُهُ-، يَكْرَهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَيْهِ، يَتَمَنَّى لَهُ الْهَلَاكَ، وَيَكْرَهُ لَهُ الْخَيْر، يَحْقِدُ عَلَيْهِ؛ كَالْجَمَلِ إِذَا أَنْفَذَ غَضَبَهُ مِنْ بَعْدِ كَظْمِهِ -وَكَانَ قَبْلُ كَظِيمًا-، فَإِذَا أُطْلِقَ -فَإِذَا أُطْلِقَ-؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْفِذُ غَضَبَهُ حِقْدًا مَسْمُومًا.
فَإِنَّ الصَّفْحَ وَالتَّسَامُحَ وَالصَّبْرَ وَالْوَفَاءَ وَالْبَذْلَ؛ كُلُّ أُولَئِكَ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ، وَشِيَاةٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ.
«الْقِيَمُ لَا تَتَجَزَّأُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَبَعَّضُ»
قَدْ يَعْلَمُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ خَلَلًا بِاخْتِلَالِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَيْرِ فِيهِ، نَعَمْ! بِاخْتِلَالِ صِفَةٍ يَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا عِنْدَ تَفْتِيشِهِ فِي أَطْوَاءِ قَلْبِهِ وَمَطَاوِيهِ، فيَضَعُ الْيَدَ عَلَيْهَا هُنَا، هُنَا خَلَلٌ يَحْتَاجُ إِصْلَاحًا، وَلَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَهَا، هُنَا, هَذَا الْخَلَلُ قَدْ يَلْتَهِمُ الْحَيَاةَ وَلَا يُصْلَحُ، قَدْ يُمْضِي الْمَرْءُ عُمْرَهُ فِي إِصْلَاحِ خَلَلٍ وَاحِدٍ فِي مَنْظُومَةِ الْأَخْلَاقِ.
وَهِيَ مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ؛ فَإِنَّ الْقِيَمَ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَجَزَّأُ، نَعَمْ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالَاتِ.
الْقِيَمُ لَا تَتَبَعَّضُ، الْأَخْلَاقُ لَا تَتَجَزَّأُ، لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ؛ بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ وَفِيًّا وَهُوَ خَائِنٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا وَهُوَ غَدَّارٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ بَذُولًا وَهُوَ شَحِيحٌ بَخِيلٌ، يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مُحَصِّلًا لِخُلُقٍ فَاقِدًا لِبَقِيَّةِ الْأَخْلَاقِ، لَا تَتَجَزَّأُ الْقِيَمُ، كُلٌّ فَاعِلٌ بِحَيَاةٍ، فَإِذَا مَا تَجَزَّأ؛ صَارَ كَائِنًا مُشَوَّهًا لَا يَمُتُّ بِصِلَةٍ إِلَى الْأَخْلَاقِ.
الْقِيَمُ لَا تَتَجَزَّأُ، وَالْأَخْلَاقُ لَا تَتَبَعَّضُ، لَا بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْحَالاِتِ، يَعْنِي: تَأَتِي الْفُرْصَةُ السَّانِحَةُ لِلْخِيَانَةِ وَالْمَرْءُ عَلَى خُلُقِ الْوَفَاءِ، فَيُنَحِّيهِ جَانِبًا وَيُوَاقِعُ الْخِيَانَةَ، ثُمَّ يَرْتَدِي لَبُوسَ الْوَفَاءِ!
لَا؛ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالَاتِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ: أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعًا وَفِيًّا وَأُسْبُوعًا عَلَى الْغَدْرِ مُقِيمًا، أَنْ يَكُونَ أُسْبُوعًا مُخْلِصًا وَأُسْبُوعًا عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ قَائِمٌ وَدَائِمٌ وَمُقِيمٌ!
لَا تَتَبَعَّضُ؛ لَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ، وَلَا عَلَى اعْتِبَارِ الْأَزْمَانِ وَالْحَالَاتِ.
«الْأَخْلَاقُ كُلُّهَا مَجْمُوعَةٌ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ ﷺ»
فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ؛ وَجَدْتَ الْأَخْلَاقَ كُلَّهَا مَجْمُوعَةً بِجَمْعِهَا مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِهَا فِي مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَمَجَالُ الْعَظَمَةِ فِيهِ جَعَلَتْ أَقْطَابَ الْقَائِمِينَ عَلَى عَظَمَتِهِ بِمُفْرَدِهَا مُنْحَازَةً إِلَيْهِ دَائِرَةً فِي فَلَكِهِ وَحَوْلَهُ ﷺ؛ فَتَجِدُ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ؛ تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمِمَّنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، تَجِدُ الصَّحَابَةَ مِمَّن كَانَ سَابِقًا إِلَى دِينِ اللَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَوَّلًا، تَجِدُ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللَّـهِ عَلَيْهِمْ- تَجِدُ كُلًّا فِيهِ مِنْ مَجَالِ الْعَظَمَةِ مَا قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ؛ فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُمَرُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عُثْمَانُ نَمُوذَجٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَهَذَا عَلِيٌّ.. وَهَكَذَا، فِي كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ عَظَمَةٌ مُتَفَرِّدَةٌ وَقَعَتْ عَلَى مَا يُوَازِيها، لَا مَا يُسَاوِيها، وَلَا مَا يُمَاثِلُهَا، وَلَا مَا يُنَاظِرُهَا فِي رَسُولِ اللَّـهِ، فَاجْتَمَعَ هَذَا كُلُّهُ فِيهِ؛ فَأَيُّ كَمَالٍ؟!
وَالْمَرْءُ يُحَاوِلُ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْطِنِ الْخَلَلِ فِيهِ -فِي قَلْبِهِ-، فِي قَلْبِهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ: «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُهْتَمَّ بِالْقَلْبِ فَوْقَ الِاهْتِمَامِ بِالْجَسَدِ: أَنْ يُفَتَّشَ فِيهِ، وَأَنْ يُبْحَثَ فِي أَحْوَالِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ الْخَلَلُ، وَحَتَّى يَدْرِيَ مِنْ أَيْنَ يَبْدَأُ الْإِصْلَاحَ فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَدَاعَى -أَوْ أَوْشَكَ عَلَى التَّدَاعِي-، فِي الْقَلْبِ الَّذِي تَصَدَّعَ، فَشَارَفَ التَّهَالُكَ مُتَهَدِّمًا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْلَمَ أَيْنَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
النَّبِيُّ ﷺ كُلُّ ذَلِكَ مَجْمُوعٌ فِيهِ ﷺ-؛ فَأَيُّ عَظَمَةٍ؟!
لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَصَوَّرَهُ، إِنْ شِئْتَ الْكَمَالَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ عَلَى أَتَمِّ مَا تَكُونُ فِي بَشَرٍ؛ فَهِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ بَائِنَةٌ ظَاهِرَةٌ -بَاِئَنةٌ مِنَ الظُّهُورِ، لَا مِنَ الْبَيْنِ وَالْبُعْدِ، وَإِنَّمَا مِنَ الظُّهُورِ؛ فَقَدْ بَانَتْ فِيهِ، لَا مِنْهُ وَلَا عَنْهُ ﷺ-.
«وَظِيفَةُ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ»
إِنَّمَا وَظِيفَةُ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ: أَنْ يُغَيِّرَ الْمَرْء مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالٍ وَانْحِرَافٍ، وَسُوءِ سِيرَةٍ، وَسُوءِ طَوِيَّةٍ، وَسُوءِ قَصْدٍ, يُغَيِّرَهُ الدِّينُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
فَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ التَّغْيِيرِ؛ فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ: فَأَيَّ شَيْءٍ أَفَادَهُ دِيْنُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!
وَبِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ دِيْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اسْتَفَادَ وَانْتَفَعَ؟!
«أَصْحَابُ النّبِيِّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَكْرَمُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ»
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَصْحَابُهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.
كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَأَثَّرُونَ مُحَمَّدًا ﷺ, وَيَتَتَبَّعُونَ أَحْوَالَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ-.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُصْلِحَ مَا أَفْسَدَهُ, وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ مَا قَطَعَهُ, وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا حَذِرًا؛ فَإِنَّ التَّقْوَى كَمَا بَيَّنَ أُبَيٌّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لِلْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- إِذْ يَسْأَلُهُ وَهُوَ الْفَارُوقُ؛ فَيَقُولُ: يَا أُبَيُّ؛ مَا التَّقْوَى؟ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَمَا سِرْتَ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ. قَالَ: فَتِلْكَ التَّقْوَى.
فَانْظُر إِلَى هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ -الَّذِي هُوَ أَقْرَأُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ-: كَيْفَ نَوَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَصِيرَتَهُ, وَأَلْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النُّورَ عَلَى لِسَانِهِ, وَحَمَلَ عُمَرَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-؛ حَمَلَهُ مِنْ وَادِي الْمَعَانِي إِلَى وَادِي الْمَبَانِي, وَأَخَذَ بِيَدِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا- إِلَى وَسِيلَةٍ تَوْضِيحِيَّةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ بِأَمْرِ حِسِّيٍّ مَعْلُومٍ مُشَاهَدٍ -بَلْ هُوَ مُجَرَّبٌ-؛ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ
عَمَّا يَصْنَعُ عِنْدَمَا يَسِيرُ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ, فَقَرَّرَهُ بَدْءًا:
أمَا سِرْتَ في طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟
«دَرْبُ الْحَيَاةِ مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِهَا»
هَذَا دَرْبُ الْحَيَاةِ مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِهَا, مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِ الْحَيَاةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخَلْقِ, فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخَلْقِ المُفْضِي حَتْمًا إِلَى شَحْنَاءَ لَا يُحِبُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَرْضَاهَا, إِلَى أَحْقَادٍ وَأَحْسَادٍ, إِلَى هُمُومٍ وَغُمُومٍ, إِلَى ظُلْمٍ وَطُغْيَانٍ وَعُدْوَانٍ.
وَكَذَا التَّعَامُلُ مَعَ الْبَشَرِ, كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْأَوَّلُ:
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى
وَصَـــوَّتَ إِنْسَـــانٌ فَـكِــدتُّ أَطِيــرُ
هَكَذَا, هَكَذَا فِي دَرْبِ الْحَيَاةِ، فِي أَشْوَاكِهَا؛ فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا, وَأَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ, وَأَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ الْقَلْبِ بِيَدٍ مِنْ حَدِيدٍ؛ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى صِرَاطِ رَبِّنَا الْحَمِيدِ؛ حَتَّى لَا يَزِلَّ وَلَا يَضِلَّ, وَحَتَّى لَا يَأْخُذَ الهَوَى بِزِمَامِ قَلْبِهِ، فَيُطَوِّحَ بِهِ فِي مَطَارِحَ لَا تَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ أَبَدًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا, فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلْغُفْرَانِ رَاجِيًا.
فَهَذَا هَذَا -عِبَادَ اللهِ!-.
فَاللهم طَهِّرْنَا وَبَرِّئْنَا مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
اللهم طَهِّرْنَا مِنَ الشَّحْنَاءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ