الدرس الرابع عشر : «المُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس الرابع عشر» 

«المُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

«المُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ»

فَإِنَّ مِمَّا حَضَّ اللهُ -تبارك وتعالى- عَلَيْهِ، ورَغَّبَ فيهِ الرسولُ ﷺ: المُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ، والمُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى حُسْنِ الإِسْلَامِ، وتَمَكُّنِ الإيمانِ مِنَ القَلْبِ؛ لأنَّ الإنسانَ إِذَا كَانَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وبِمَا بَعْدَ المَوْتِ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي تَحْصِيلِ الخَيْرِ لِنَفْسِهِ؛ حَتَّى يَلْقَى جَزَاءَ ذَلِكَ عِنْدَ رَبِّهِ.

والمُسَارَعَةُ فِي الخيراتِ نَدَبَ إِلَيْهَا اللهُ -تبارك وتعالى-، ودَلَّ عَلَى شَرَفِ الآخِذِينَ بِهَا، وحَضَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ، ورَغَّبَ فِيهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحَادِيثِهِ ﷺ.

والمُسَارَعَةُ -فِي اللُّغَةِ-: مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَادَّةِ السِّينِ وَالرَّاءِ والعَيْنِ (سَرُعَ)، وهِيَ تَدُلُّ على خِلَافِ البُطْءِ؛ فَالمُسَارَعَةُ هِيَ: خِلَافُ تَبَاطُئ، ومِنْهُ قَوْلُ العَرَبِ: لَسَرْعَانَ مَا صَنَعْتُ كَذَا، أَيْ: مَا أَسْرَعَ مَا صَنَعْتُهُ؛ فَالسُّرْعَةُ ضِدُّ البُطْءِ، وهِيَ تُسْتَخْدَمُ فِي الأَجْسَامِ، وفي الأَبْعَادِ، قال: سَرُعَ فُلَانٌ، فَهُوَ سَرِيعٌ، وأَسْرَعَ فُلَانٌ، فَهُوَ مُسْرِعٌ، كما يُقَالُ: سَيْرٌ سَرِيعٌ، وفَرَسٌ سَرِيعٌ؛ فَالسُّرْعَةُ ضِدُّ البُطْءِ.

«حَثُّ اللهِ المُؤمِنِينَ عَلَى المُسَارَعَةِ فِي الخَيْرَاتِ»

اللهُ -تبارك وتعالى-نَدَبَ عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ إِلَى المُسَارَعَةِ، وتَرْكِ التَّبَاطُؤِ في الخَيْرَاتِ، والمُسَابَقَةِ والمُبَادَرَةِ إلى تَحْصِيلِ الخَيْرَاتِ؛ حَتَّى نَلْقَى جَزَاءَ ذلك وثَوَابَهُ فِي الآخِرَةِ.

يَقُولُ اللهُ -تبارك وتعالى-: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 61]، يَعْنِي: يُسَابِقُونَ مَنْ سَابَقَهُمْ إِلَيْهَا، فَهُمْ يَتَسَابَقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلَى الخَيْرَاتِ، وكُلٌّ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ إِلَى الخَيْرَاتِ سَابِقًا.

﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾، قُرِئَ «يُسْرِعُونَ» ﴿أُولَئِكَ يُسْرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ يعني: هُمْ يَكُونُونَ سِرَاعًا إِلَى الخَيْرَاتِ.

واللهُ -تبارك وتعالى- يُخْبِرُنَا فِي كِتَابِهِ العَظِيمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُسَارِعَ إِلَى المَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-.

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾[آل عمران: 133]، سَارِعُوا إِلَى ما يُوجِبُ المَغْفِرَةَ، وإلى الطاعةِ، أو أَدَاءِ الفَرَائِضِ، أَوِ الإِخْلَاصِ، أَوِ التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا، أَوِ الثَّبَاتِ فِي القِتَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ آيَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، فَالْمَعْنَى: سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ المَغْفِرَةَ، ومَا يُوجِبُ المَغْفِرَةَ: الطَّاعَةُ.

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يَعْنِي: إِلَى مَا يُوجِبُ المَغْفِرَةَ مِن رَبِّكُمْ، وهِيَ الطَّاعَةُ بِأَدَاءِ الفَرَائِضِ، بِالْإِخْلَاصِ، بِالتَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا، بِالثَّبَاتِ فِي القِتَالِ، بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الخَيْرِ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا الشَّرْعُ.

ومَعْنَى قَوْلِ اللهِ -تبارك وتعالى-: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[البقرة: 148]: حَثٌّ واسْتِعْجَالٌ عَلَى جَمِيعِ الطاعاتِ بِالعُمُومِ، وهُوَ مَعْنَى قَوْلِ اللهِ -تبارك وتعالى-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ مَعْنَاهَا: قَوْلُ اللهِ -تبارك وتعالى-: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ تَتَضَمَّنُ الحَثَّ والِاسْتِعْجَالَ على جَمِيعِ الطَّاعَاتِ بِالْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ مَا وُقُوفٍ عِنْدَ حَدٍّ مَحْدُودٍ فِي طَاعَةِ اللهِ -جل وعلا-.

المُسَارَعَةُ إِلَى الشَّيْءِ: المُبَادَرَةُ إِلَيْهِ.

والفَرْقُ بَيْنَ السُّرْعَةِ والإِسْرَاعِ: أَنَّ الإِسْرَاعَ فِيهِ طَلَبٌ وَتَكَلُّفٌ، وأَمَّا السُّرْعَةُ؛ فإنَّهَا غَرِيزَةٌ، السُّرْعَةُ غَرِيزَةٌ فِي الإِنْسَانِ عِنْدَ الإِطْلَاقِ، وأَمَّا الإِسْرَاعُ؛ فَفِيهِ طَلَبُ السُّرْعَةِ وتَكَلُّفُهَا، فَـ«أَسْرَعَ فُلَانٌ» يَعْنِي: طَلَبَ ذلك مِنْ نَفْسِهِ، وتَكَلَّفَهُ؛ فَكَأَنَّهُ أَسْرَعَ المَشْيَ، أَيْ: عَجَّلَهُ، وأَمَّا «سَرُعَ فُلَانٌ»؛ فالمَعْنَى: أنَّ السُّرْعَةَ فيهِ طَبْعٌ وَسَجِيَّةٌ.

فَالمُسَارَعَةُ فِي الخَيْرَاتِ: مُبَادَرَةٌ إلى الطَّاعَاتِ، وسَبْقٌ إِلَيْهَا، واسْتِعْجَالٌ فِي أَدَائِهَا، وَعَدَمُ الإِبْطَاءِ فِيهَا أَوْ تَأْخِيرِهَا.

حَضَّ اللهُ -تبارك وتعالى- على المُسَارَعَةِ في الخَيْرِ، وأَمَرَنَا اللهُ -تبارك وتعالى- بِذَلِكَ، فَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾، فأَمَرَ اللهُ -تبارك وتعالى- بالمُسَارَعَةِ إِلَى المَغْفِرَةِ، يعني: بِتَحْصِيلِ أَسْبَابِ المَغْفِرَةِ، وهي الطَّاعَةُ.

وقَالَ الله -تبارك وتعالى-: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[آل عمران: 113، 114].

وذَكَرَ رَبُّنَا -تبارك وتعالى- مَا كَانَ مِنْ زَكَرِيَّا وآلِهِ: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء:90، 89].

وذَكَرَ اللهُ -تبارك وتعالى- مِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون: 57-61].

وَأَمَرَ اللهُ -تبارك وتعالى- بِاسْتِبَاقِ الخَيْرَاتِ؛ ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة: 148].

فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَمَرَ اللهُ -تبارك وتعالى- فِيهَا بالمُسَارَعَةِ فِي الخَيْرَاتِ، والمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وبَيَّنَ اللهُ -تبارك وتعالى- أنَّ التَّوَانِيَ في طَلَبِ الخَيْرِ لَيْسَ بِالخَيْرِ، وأَنَّ الإِسْرَاعَ فِي طَلَبِ الخَيْرِ هُوَ الخَيْرُ، وأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسَارِعًا فِي تَحْصِيلِ المَغْفِرَةِ بِأَسْبَابِهَا وشُرُوطِهَا، وإِلَّا كَانَ مِنَ المُقَصِّرِينَ.

«أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِالمُسَارَعَةِ فِي الخَيْرَاتِ وَكَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ إِلَيْهَا»

والرَّسُولُ ﷺ كان أَسْرَعَ النَّاسِ إلى الخَيْرِ، وما أَمَرَ ﷺ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الخَيْرِ إِلَّا كَانَ أَوَّلَ الآتِينَ بِهِ، والمُسْرِعِينَ إِلَى تَحْصِيلِهِ، ومَا نَهَى عَنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الشَّرِّ إِلَّا وكَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عنه ﷺ.

 

*مُسَارَعَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- فِي الخَيْرَاتِ:

وكان أصحابُه -رضوان الله عليهم- مُسَارِعِينَ في الخيراتِ، مُسَابِقِينَ إليها، كما وَرَدَ عنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وهُوَ في «الصَّحِيحَيْنِ» قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَامَ الفَتْحِ، وَهُوَ مُرْدِفٌ أُسَامَةَ عَلَى القَصْوَاءِ -يَعْنِي: نَاقَةَ رسولِ اللهِ ﷺ- وَمَعَهُ بِلاَلٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ -وعثمانُ بنُ طَلْحَةَ كان مَعَهُ مَفَاتِيحُ الكَعْبَةِ كَمَا هو معلومٌ-، حَتَّى أَنَاخَ عِنْدَ البَيْتِ، ثُمَّ قَالَ لِعُثْمَانَ: «ائْتِنَا بِالْمِفْتَاحِ»، فَجَاءَهُ بِالْمِفْتَاحِ فَفَتَحَ لَهُ البَابَ -بابَ الكَعْبَةِ، وهذا في عامِ الفَتْحِ عِنْدَمَا مَنَّ اللهُ -تبارك وتعالى- على نَبِيِّهِ بالفَتْحِ الأَكْبَرِ، ودَخَلُوا مَكَّةَ فَاتِحِينَ بِرَحْمَةِ رَبِّ العالمين-.

فَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَأُسَامَةُ، وَبِلاَلٌ، وَعُثْمَانُ، ثُمَّ أَغْلَقُوا عَلَيْهِ البَابَ، فَمَكَثَ النبيُّ ﷺ في جَوْفِ الكعبةِ نَهَارًا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ -يقولُ عبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ-، وَابْتَدَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ، فَسَبَقْتُهُمْ -يعني: كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ لِيُصَلِّيَ في المَوْضِعِ الذي صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلًا، ولِيَعْلَمَ عِلْمَ ما صَنَعَ الرسولُ ﷺ في جَوْفِ الكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذلك عَيَانًا؛ حَيْثُ أَغْلَقُوا البابَ عَلَيْهِ ﷺ ومَعَهُ أسامةُ وبِلَالٌ وعُثْمَانُ-.

قال: فَوَجَدْتُ بِلاَلًا قَائِمًا مِنْ وَرَاءِ البَابِ -بابِ الكعبةِ مِنْ دَاخِلٍ-، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ فَقَالَ: صَلَّى بَيْنَ ذَيْنِكَ -يعني: بَيْنَ هَذَيْنِ- العَمُودَيْنِ المُقَدَّمَيْنِ، وَكَانَ البَيْتُ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ سَطْرَيْنِ، صَلَّى بَيْنَ العَمُودَيْنِ مِنَ السَّطْرِ المُقَدَّمِ ﷺ، وَجَعَلَ البَابَ خَلْفَ ظَهْرِهِ -دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ الكعبةَ، وأَغْلَقَ البابَ خَلْفَهُ، وكَانَ فِي البَيْتِ سِتَّةُ أَعْمِدَةٍ، فِي كُلِّ سَطْرٍ ثَلَاثَةُ أَعْمِدَةٍ، فَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى السَّطْرِ المُقَدَّمِ، فَصَلَّى بَيْنَ العَمُودَيْنِ وظَهْرُهُ إلى البابِ ﷺ-، وَاسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الَّذِي يَسْتَقْبِلُكَ حِينَ تَلِجُ البَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ -يعني: إذا دَخَلْتَ البَيْتَ؛ فإِنَّكَ تَسْتَقْبِلُ ذلك الحائِطَ الَّذِي يَكُونُ بالكعبةِ المُكَرَّمَةِ، فَوَصَلَ النبيُّ ﷺ إلى ما بَيْنَ العَمُودَيْنِ المُقَدَّمَيْنِ، وجَعَلَ ظَهْرَهُ إلى البابِ، فَصَلَّى ﷺ-.

قَالَ: «وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى، وَعِنْدَ المَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ»، هذا وَصْفٌ لِلْحَالِ، يعني: عبدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ إنَّهُ كانَ في المَكَانِ الَّذِي صَلَّى فيهِ الرسولُ ﷺ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّحَقُّقِ مِنَ المَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى عِنْدَهُ الرسولُ ﷺ بِإِعْطَاءِ دَلَالَةٍ شاهدةٍ وبُرْهَانٍ قَاطِعٍ بالمَوْضِعِ الذي صَلَّى فيه النَّبِيُّ ﷺ.

فَهَذِهِ مُسَابَقَةٌ مِنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-.

لَمَّا خَرَجَ النبيُّ ﷺ مِنْ جَوْفِ الكَعْبَةِ؛ اِبْتَدَرَ الناسُ الدُّخُولَ، يعني: تَسَابَقَ النَّاسُ للدخولِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ الرسولُ ﷺ، قال: «فَسَبَقْتُهُمْ»، وكان أَحْرَصَ الناسِ على الخيرِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ-.

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «أَمَرَنَا رسولُ اللهِ ﷺ أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا -يَعْنِي: عِنْدِي، عِنْدَ عُمَرَ-، فَقُلْتُ: اليومَ أَسْبِقُ أَبَا بكرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يومًا.

يَتَسَابَقُونَ فِي الخَيْرِ، ويَتَنَافَسُونَ في البِرِّ، وكُلٌّ يريدُ أَنْ يَكُونَ سابقًا لِأَخِيهِ مِنْ غَيْرِ مَا حَسَدٍ؛ لأنَّ طَرِيقَ الآخِرَةِ يَسَعُ الخَلْقَ جَمِيعًا، طَرِيقُ الآخِرَةِ هو الَّذِي يَسَعُ الخَلْقَ جَمِيعًا، وأَمَّا طَرِيقُ الدُّنْيَا؛ فَلَا يَسَعُ مِنَ المُتَنَافِسِينَ إِلَّا الواحدَ بَعْدَ الواحِدِ؛ لأنَّ الآخِرَةَ نَعِيمٌ مُقِيمٌ، وعَطَاءٌ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ كَرِيمٍ، وهَذَا مُتَّسِعٌ لِلْعَامَّةِ.

وأَمَّا طَرِيقُ الدنيا؛ فالتَّنَافُسُ يَكُونُ على شَيْءٍ واحدٍ، على تَحْصِيلِ مالٍ بِعَيْنِهِ، فَإِذَا تَنَافَسَ الناسُ في تَحْصِيلِهِ؛ لا يَصْلُحُ إلا لِوَاحِدٍ، عَلَى مَنْصِبٍ بِذَاتِهِ، لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِوَاحِدٍ، فَيَتَنَافَسُ فِيهِ الكَثِيرُ، فَلَا يُحَصِّلُهُ إِلَّا وَاحِدٌ، وحِينَئِذٍ يَتَعَادُونَ، ويَتَبَاغَضُونَ، ويَتَحَارَبُونَ، ويَتَقَاتَلُونَ، وأَمَّا طَرِيقُ الآخرةِ؛ فَوَاسِعٌ يَتَّسِعُ الجَمِيعَ.

 

فَأَبُو بَكْرٍ -رِضْوَانُ اللهِ عليه- كانَ عُمَرُ وَاضِعًا إِيَّاهُ في رَأْسِهِ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ كان دَائِمًا يَنْظُرُ إليه، وكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ المُسْلِمُ، علَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ صَالِحٍ آتَاهُ اللهُ -تبارك وتعالى- زَهَادَةً أَوْ عِبَادَةً أَوْ فَضْلًا أَوْ عِلْمًا، فَيُحَاوِلُ أَنْ يَتَنَافَسَ مِنْ أَجْلِ الوُصُولِ إِلَى مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يَنْظُرُ في أُمُورِ الدِّينِ إِلَى مَنْ هُوَ أَقَلُّ منه، وإنما يَنْظُرُ في أُمُورِ الآخِرَةِ إلى مَنْ هُوَ أَعْلَى منه.

وأَمَّا في أُمُورِ الدُّنْيَا؛ فَعَلَى الإنسانِ أَنْ يَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ، فإذا مَا آتَاهُ اللهُ -تبارك وتعالى- الرِّزْقَ؛ لا يَحْتَقِرُهُ، يقول: نَحْنُ أَحْسَنُ وأَفْضَلُ وخَيْرٌ مِنْ غَيْرِنَا؛ فَقَدْ آتَانَا اللهُ وأَنْعَمَ عَلَيْنَا؛ فَإِنَّ فُلَانًا لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ -تبارك وتعالى- ولَمْ يُعْطِهِ ما أَعْطَانَا، فَيَنْظُرُ الإنسانُ في أمورِ الدنيا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلُ منه، وأمَّا في أمورِ الآخِرَةِ؛ فَيَنْظُرُ الإنسانُ إلى مَنْ هو أَعْلَى منه.

فَأَبُو بكرٍ -رِضْوَانُ اللهِ عليه- آتَاهُ الله -تبارك وتعالى- فَضْلًا عَظِيمًا، وعُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عنه- كان يَقُولُ عِنْدَمَا أَمَرَ الرسولُ ﷺ بالصَدَقَةِ: فَوَافَقَ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللهِ مالًا عِنْدَ عُمَرَ، فقال: «اليومَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يومًا، قال: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي»، وظَنَّ عُمَرُ أنه صَنَعَ صَنِيعًا عَظِيمًا، وأَتَى بِنِصْفِ المَالِ، فقال رسول الله ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

قلتُ: مِثْلُهُ، أَوْ مِثْلَهُ، يَعْنِي:  أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ، أَوْ مِثْلُهُ أَبْقَيْتُهُ لِأَهْلِي.

فَقُلْتُ: مِثْلَهُ، يعني: مِثْلَ الذي جِئْتُكَ بِهِ يا رَسُولَ اللهِ أَبْقَيْتُهُ لِأَهْلِي، أَنَا قَسَمْتُ المَالَ نِصْفَيْنِ، فهذا نِصْفُهُ للهِ -تبارك وتعالى- بَيْنَ يَدَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وأَمَّا النِّصْفُ الآخَرُ؛ فَهُوَ لِلْأَوْلَادِ ولِلْأَهْلِ، فَسَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ، وأَتَى أبو بَكْرٍ بِكُلِّ ما عِنْدَهُ، لَمْ يَسْتَبْقِ شَيْئًا -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-، فقال: «يا أَبَا بَكْرٍ؛ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

قال: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ.

قال عُمَرُ: واللهِ لَا أَسْبِقُهُ إِلى شَيْءٍ أَبَدًا.

هذا الرَّجُلُ لا يُسَابَقُ، أَبُو بَكْرٍ أَقَرَّ عُمَرُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- بِسَبْقِهِ، وقال: واللهِ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا -رضي الله عنه-.

هذا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ»، وهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

 «الفَضْلُ العَظِيمُ في المُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ»

المُسَارَعَةُ إلى الخَيْرَاتِ وَالأَعْمَالِ مَرْضَاةٌ للرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ- وَمَغْضَبَةٌ للشَّيْطَانِ، والمُسَارَعَة في الخَيْرَاتِ تَرْفَعُ صَاحِبَهَا إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ حَيْثُ النَّعِيمُ المُقِيمُ والفَضْلُ العَظِيمُ.

والسَّبْقُ إِلَى الخَيْرَاتِ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ مِن المُفْلِحِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَالمُبَادَرَةُ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ تُوجِبُ نَوْعًا مِن التَّنَافُسِ الحَمِيدِ الَّذِي يَرْقَى بِهِ المُسْلِمُونَ فِي مُجْتَمَعِهِم.

وَالسَّابِقُونَ إِلَى الخَيْرَاتِ يُدْرِكُونَ مَقَاصِدَهُم وَلَا يَرْجِعُونَ خَائِبِينَ أَبَدًا، وَيَدْخُلُونَ إِذَا مَا سَابَقُوا إِلَى الخَيْرَاتِ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، المُسَارَعَةُ إِلَى صَلَاةِ الجُمُعَةِ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ وَالذَّهَابُ إِلَيْهَا فِي السَّاعَةِ الأُولَى يُعَظِّمُ الأَجْرَ وَيُجَزِّلُ الثَّوَابَ.

وَالمُبَادَرَةُ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي مَأْمَنٍ مِنَ الفِتَنِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ، وَكَذَلِكَ فِي مَأْمَنٍ مِن الأُمُورِ الَّتِي تَشْغَلُ الإِنْسَانَ وَتُلْهِيهِ مِثْلُ المَرَضِ وَالفَقْرِ وَالغِنَى المُطْغِي أَوْ الهَرَمِ يَعْنِي بُلُوغَ أَقْصَى العُمُرِ-، وَالمُبَادَرَةُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا وَعَدَمُ التَّخَلُفِ عَن الجَمَاعَةِ الأُولَى يَجْعَلُ صَاحِبَهَا فِي فَضِيلَةٍ يَسْبِقُ بِهَا المُتَخَلِّفِينَ في أَبْعَدِ مِمَّا هُوَ بَيْنَ المَشْرِقَيْنِ وَالمَغْرِبَيْنِ.

فَنَسْأَلُ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى المُسَارَعَةِ فِي الخَيْرَاتِ، وَإِلَى المُسَابَقَةِ فِي تَحْصِيلِ الحَسَنَاتِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى المُبَادَرَةِ إِلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى الرُّشْدِ، وَأَنْ يُخْلِصَ نِيَّاتِنَا وَقَصْدَنَا، وَأَنْ يُحَسِّنَ أَقْوَالَنَا وَأَعْمَالَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ المَقْبُولِينَ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ . 

 

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَظَاهِرُ الِابْتِلَاءِ
  أَمَلُ الْمَرِيضِ فِي الشِّفَاءِ وَالْبُشْرَى لَهُ بِالْأَجْرِ
  الدرس العشرون : «حِفْظُ اللسَانِ»
  حَثُّ اللهِ عَلَى العَمَلِ وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ
  مَعَانِي التَّضْحِيَةُ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  الدرس الثالث عشر : «تَحَرِّي الحَلَالِ»
  أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ
  الدَّعْوَةُ إِلَى التَّوْحِيدِ دَعْوَةُ الْمُرْسَلِينَ أَجْمَعِينَ
  رِعَايَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْيَتِيمِ وَالْكَسِيرِ وَالضَّعِيفِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْأَوْطَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِعَقِيدَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي حُقُوقِ الْحُكَّامِ
  الْآثَارُ الْمُدَمِّرَةُ لِلْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ
  حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الزَّوَاجِ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ
  انْتِصَارُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  الْفَرَحُ الشَّرْعِيُّ فِي الْعِيدَيْنِ
  رِضَا اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجَلُّ الْغَايَاتِ
  • شارك