((رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ تَبْدَأُ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ))
فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَنْ فَتَحَ بَابَ التَّوْبَةِ، وَجَعَلَهُ فَجْرًا تَبْدَأُ مَعَهُ رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ بِقُلُوبٍ مُنْكَسِرَةٍ، وَدُمُوعٍ مُنْسَكِبَةٍ، وَجِبَاهٍ خَاضِعَةٍ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 50].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- حَاثًّا عَلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ وَالْأَوْبَةِ: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].
وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ -كَمَا رَوَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ»- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
وَهَذَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! تُوبُوا إِلَى اللهِ؛ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِئَةَ مَرَّة». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَانْظُرْ وَتَأَمَّلْ فِي فَضْلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى التَّائِبِ الْعَائِدِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَلَا يَأْخُذْكَ الْهَوَى وَمُلْهِيَاتُ النَّفْسِ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَنْ يَأْبَى؟
قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ بِشَارَةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ؛ إِلَّا صِنْفًا مِنْهُمْ لَا يُرِيدُونَ دُخُولَهَا، لَا زُهْدًا فِيهَا؛ وَلَكِنْ جَهْلًا بِالطَّرِيقِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهَا، وَتَرَاخِيًا وَتَكَاسُلًا عَنْ دُخُولِهَا، وَتَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْمُتَعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ عَلَى تِلْكَ النِّعَمِ الْخَالِدَةِ الْبَاقِيَةِ.
جِدَّ فِي التَّوْبَةِ، وَسَارِعْ إِلَيْهَا، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مُسْتَرَاحٌ إِلَّا تَحْتَ شَجَرَةِ طُوبَى، وَلَا لِلْمُحِبِّ قَرَارٌ إِلَّا يَوْمَ الْمَزِيدِ.
فَسَارِعْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَهُبَّ مِنَ الْغَفْلَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ أَيَّامِكَ يَوْمُ الْعَوْدَةِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَاصْدُقْ فِي ذَلِكَ الْمَسِيرِ، وَلْيَهْنِكَ حَدِيثُ الرَّسُولِ ﷺ: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ -أَيْ رَاحِلَتُهُ-، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، وقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ.
فَبَيْنَما هُوَ كَذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ، حَتَّى خَرَجُوا مِنْ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: إِنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي، وَكَذَبَ!! لَوْ أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ».
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ قَوَّامٌ عَلَى نَفْسِهِ، يُحَاسِبُ نَفْسَهُ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِنَّمَا خَفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا شَقَّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ.
إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَفْجَؤُهُ الشَّيْءُ يُعْجِبُهُ فَيَقُول: وَاللهِ إِنِّي لَأَشْتَهِيكَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ حَاجَتِي؛ وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِلَيْكَ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيُفْرِطُ مِنْهُ الشَّيْءُ، فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ: مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللَّهِ لَا أَعُودُ لِهَذَا أَبَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَوْمٌ أَوْثَقَهُمُ الْقُرْآنُ، وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَلَكَتِهِمْ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا، يَسْعَى فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ».
إِنَّ جِهَادَ النَّفْسِ جِهَادٌ طَوِيلٌ، وَطَرِيقٌ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ، مَذَاقُهُ مُرٌّ، ومَلْمَسُهُ خَشِنٌ؛ فَعَلَيْكَ بِالسَّيْرِ فِي رِكَابِ التَّائِبِينَ، حَتَّى تَحُطَّ رِحَالَكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ.
*سَتَمُوتُ وَحْدَكَ.. وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ!!
قَالَ الْحَسَنُ: «ابْنَ آدَمَ؛ إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، إِنَّكَ تَمُوتُ وَحْدَكَ، لَنْ يَمُوتَ أَحَدٌ عَنْكَ، وَتَدْخُلُ الْقَبْرَ وَحْدَكَ، لَنْ يَدْخُلَ الْقَبْرَ أَحَدٌ عَنْكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ، لَنْ يُبْعَثَ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكَ، وَتُحَاسَبُ وَحْدَكَ، لَنْ يُحَاسَبَ أَحَدٌ عَنْكَ».
فَيَنْبَغِي لِكُلِّ ذِي لُبٍّ وَفِطْنَةٍ أَنْ يَحْذَرَ عَوَاقِبَ الْمَعَاصِي؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى قَرَابَةٌ وَلَا رَحِمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، حَاكِمٌ بِالْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ حِلْمُهُ يَسَعُ الذُّنُوبَ؛ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا شَاءَ عَفَا، فَعَفَا عَنْ كُلِّ كَثِيفٍ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَأَخَذَ بِالْيَسِيرِ؛ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ!!
وَكُلُّنَا أَصْحَابُ ذُنُوبٍ وَخَطَايَا، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ؛ وَلَكِنَّ خَيْرَنَا مَنْ يُسَارِعُ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيُبَادِرُ إِلَى الْعَوْدَةِ، تَحُثُّهُ الْخُطَى، وَتُسْرِعُ بِهِ الدَّمْعَةُ، وَيُعِينُهُ أَهْلُ الْخَيْرِ رُفَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِ الْأُخُوَّةِ فِي اللهِ: عَدَمَ تَرْكِ الْعَاصِي يَسْتَمِرُّ فِي مَعْصِيَتِهِ؛ بَلْ يُحَاطُ بِإخْوَانِهِ، وَيُذَكَّرُ وَيُنَبَّهُ، وَلَا يُهْمَلُ وَيُتْرَكُ فَيَضِلَّ وَيَشْقَى.
أَرَأَيْتَ إِنْ نَزَلَ بِهِ مَرَضٌ أَوْ شَأْنٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَيْفَ تَقِفُ مَعَهُ؟!! وَكَيْفَ تُعِينُهُ؟!!
فَالْآخِرَةُ أَوْلَى وَأَبْقَى».
وَشُرُوطُ التَّوْبَةِ:
الْأَوَّلُ: الْإِخْلَاصُ فِيهَا.
الثَّانِي: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ.
الثَّالِثُ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ.
الرَّابِعُ: الْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ.
الْخَامِسُ: إِرْجَاعُ الْحُقُوقِ إِلَى أَصْحَابِهَا؛ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ.
السَّادِسُ: أَنْ تَقَعَ التَّوْبَةُ فِي وَقْتِ قَبُولِهَا.
حَالُنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بَيْنَ مُسَوِّفٍ وَمُفَرِّطٍ، حَتَّى يَفْجَأَنَا الْمَوْتُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ.
فَتَأَمَّلْ فِي حَالِ بَعْضِنَا مِمَّنْ يُؤْثِرُ الظِّلَّ عَلَى الشَّمْسِ، ثُمَّ لَا يُؤْثِرُ الْجَنَّةَ عَلَى النَّارِ!!
تَأَمَّلْ فِي حَالِ بَعْضِنَا؛ بَلْ فِي حَالِنَا، فَكُلُّنَا يُؤْثِرُ الظِّلَّ عَلَى الشَّمْسِ، ثُمَّ لَا يُؤْثِرُ الْجَنَّةَ عَلَى النَّارِ!!
نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا أَجْمَعِينَ.
المصدر: شَعْبَانُ وَحَصَادُ الْعَامِ