مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ لَا حَدَّ لَهَا


 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ لَا حَدَّ لَهَا))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا يَقَظَةً لَا مَنَامًا , وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ.. )) ، فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا أَتَيَاهُ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَمَرَّ نَائِمًا.

يَعْنِي أَتَيَاهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظَ، فَأَخَذَاهُ، فَذَهَبَا بِهِ، فَشَقَّا مَا بَيْنَ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ، ثُمَّ جُعِلَ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ مَاءٌ مِنْ زَمْزَمَ، وَغُسِلَ جَوْفُهُ ﷺ، وَحُشِيَ حِكْمَةً وَعِلْمًا.

وَكُلُّ هَذَا مُصَدَّقٌ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ أَحَدٌ، لِأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَإِنَّمَا اسْتَغْرَبَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً إِيمَانًا صَحِيحًا بِقُدْرَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقُدْرَةُ اللهِ طَلِيقَةٌ لَا حَدَّ لَهَا، وَاللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

فَإِذَا كَانَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ الَّذِي خَلَقَ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ؛ أَفَيُرَاجَعُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي شَيْءٍ يَخْرِقُ بِهِ سِيَاجَ الزَّمَانِ وَسِيَاجَ الْمَكَانِ؟!!

اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي شَأْنِ الْإِسْرَاءِ بِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَسْرَى بِهِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}.

اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَقُلْ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَسْرَى بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ، فَهُوَ ﷺ لَمْ يَسْرِ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ.

مَنِ الَّذِي أَسْرَى بِهِ؟

اللهُ.

إِذَنْ؛ نُرْجِعُ الْمَسْأَلَةَ إِلَى اللهِ، قُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا حَدَّ لَهَا، فَمَهْمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ شَيْءٍ؛ فَنَحْنُ نُصَدِّقُهُ؛ لِأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا نَسْتَغْرِبُهُ نَحْنُ بِعُقُولِنَا؛ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى قُدُرَاتِنَا نَحْنُ -إِلَى قُدْرَةِ الْمَخْلُوقِ- وَقُدْرَةُ الْمَخْلُوقِ عَلَى قَدْرِهِ، وَقُدْرَةُ الْخَالِقِ عَلَى قَدْرِ ذَاتِهِ، وَذَاتُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهَا ذَاتٌ، فَقُدْرَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- طَلِيقَةٌ.

فَأَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.

فَأُتِيَ بِالبُرَاقِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يَمْنَعُ أَبَدًا أَنْ يَكُونَا قَدْ أَتَيَا وَهُوَ نَائِمٌ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ.

فَأُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَعُرِجَ بِهِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، يَقَظَةً لَا مَنَامًا، بَلْ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ مَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَرْوًا مِنَ الْعَقْلِ، لِمَ؟

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَوْ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا؛ أَكَانَ أَحَدٌ -مَهْمَا كَانَتِ الرُّؤْيَا عَجِيبَةً- يُجَادِلُهُ فِيهَا، يَعْنِي: عِنْدَمَا يَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا أَنِّي قَدْ أُسْرِيَ بِي مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، أَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُجَادِلُهُ فِي ذَلِكَ؟ أَوْ تُكَذِّبُهُ فِيهِ؟!!

فَالْإِنْسَانُ يَرَى أَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَافَاتِ الْمُتَبَاعِدَةِ، يَرَى ذَلِكَ وَيُخْبِرُ بِهِ وَلَا يُجَادِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا يُكَذِّبُهُ.

فَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ؛ مَا كَذَّبَتْهُ قُرَيْشٌ، وَإِنَّمَا هِيَ تَيَقَّنَتْ أَنَّهُ ﷺ يُخْبِرُ عَنْ أَمْرٍ وَقَعَ لَهُ يَقَظَةً؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا: تَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَفِرَاشُكَ لَمَّا يَزَلْ دَافِئًا بَعْدُ؟!!

فَالْإِنْسَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَرَى فِي الرُّؤْيَا أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَبْعَدَ مِنْ هَذَا -أَيْ: أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ مَكَّةَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ-، ثُمَّ يَعُودُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَلَا يَزَالُ دَافِئًا بَعْدُ، وَلَكِنْ هُوَ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْفِرَاشِ بِجَسَدِهِ، ثُمَّ أُسْرِيَ بِهِ، فَذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَى السَّابِعَةِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، هَذَا مَا اسْتَغْرَبُوهُ.

وَلِذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا , وَلَكِنْ فِي سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رُكُوبِهِ، وَنُزُولِهِ، وَرَبْطِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَصُعُودِهِ وَهُبُوطِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا.

وَهَذَا مَوْطِنُ الْإِعْجَازِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَنَامًا؛ فَالْإِنْسَانُ يَرَى فِي الْمَنَامِ أَعْجَبَ الْأُمُورِ، وَلَا يُرَاجِعُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، وَلَكِنْ فِي الْيَقَظَةِ يَحْدُثُ هَذَا، هَذَا هُوَ مَوْطِنُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ.

هَلْ إِذَا قِيلَ هَذَا عَبْدٌ، تَنْطَبِقُ عَلَى الرُّوحِ دُونَ الجَسَدِ أَوْ عَلَى الْجَسَدِ دُونَ الرُّوحِ أَوْ تَنْطَبِقُ عَلَى الرُّوحِ وَالْجَسَدِ مَعًا؟

عَلَيْهِمَا مَعًا، {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}، فَهَذَا شَامِلٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 13]، جَعَلَ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ ﷺ لِجِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مُقَابِلًا لِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْأَبْطَحِ, وَهِيَ رُؤْيَةُ عَيْنٍ حَقِيقَةً لَا مَنَامًا .

-عِنْدَمَا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ جِبْرِيلَ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكيَّةِ، لَهُ سِتُّمِئَةِ جَنَاحٍ، وَقَدْ سَدَّ الْأُفُقَ ، فَرَآهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَشَكَّلُ، وَلَكِنْ رَآهُ عَلَى هَيْئتِهِ الْمَلَكِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}، كَمَا رَآهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَى هَيْئَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ؛ رَآهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، الْأُولَى كَانَتْ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا؟ كَانَتْ يَقَظَةً، فَالثَّانِيَةُ كَمِثْلِهَا-.

وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً، وَلَا كَانَ لِتَكْذِيبِ قُرَيْشٍ بِهَا، وَقَوْلِهِمْ: «كُنَّا نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا ذَهَابًا وَشَهْرًا إِيَابًا, وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ إِلَيْهِ وَأَصْبَحَ فِينَا», إِلَى آخِرِ تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِهِ ﷺ.

مَا كَانَ لِذَلِكَ -أَيْ: مِنَ اعْتِرَاضِهِمْ-، مَا كَانَ مِنَ اعْتِرَاضِهِمْ هَذَا مِنْ مَعْنَى، لَوْ أَنَّهُم فَهِمُوا أَنَّهُ كَانَ مَنَامًا؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهِ يَقَظَةً بِأَبْدَانِنَا فِي شَهْرٍ، نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ -لِيَحُثُّوهَا عَلَى الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ- شَهْرًا فِي الذَّهَابِ وَشَهْرًا فِي الْإِيَابِ، وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ بِلَيْلٍ وَأَصْبَحَ فِينَا؟!!

لَوْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ أَوْ فَهِمُوا هُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا رَأَى ذَلِكَ رُؤْيَا مَنَامٍ، هَلْ كَانُوا يَعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ بِهَذَا؟!!

هَلْ كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ؟!!

مَا وَجْهُ التَّكْذِيبِ حِينَئِذٍ؟!!

 

المصدر:دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  لِمَاذَا لَا تَتُوبُ الْآنَ؟!
  نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي الْوَطَنِ الْمُسْلِمِ
  الْإِسْلَامُ دِينُ الرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ
  الِاتِّجَارُ فِي الْمُخَدِّرَاتِ وَالْإِدْمَانُ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  ذِكْرُ اللهِ رُوحُ الِاعْتِكَافِ
  رِعَايَةُ اللهِ لِيَتَامَى مِنْ خَيْرِ الْبَشَرِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: لُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامِهِمْ
  فَضَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ
  عِلَاجُ التَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ وَالِانْحِرَافِ الْأَخْلَاقِيِّ فِي كَلِمَتَيْنِ: عِيشُوا الْوَحْيَ الْمَعْصُومَ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ قَضَايَا أُمَّتِهِ كَقَضِيَّةِ الْأَقْصَى
  تَحْقِيقُ الْإِيجَابِيَّةِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
  مِنْ مَعَانِي التَّضْحِيَةِ: التَّضْحِيَةُ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-
  خُطُورَةُ الْكَذِبَةِ تَبْلُغُ الْآفَاقَ وَعَوَاقِبُهَا
  الْوَعْيُ بِتَحَدِّيِ الْإِرْهَابِ وَكَيْفِيَّةِ مُوَاجَهَتِهِ
  • شارك