مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ أَشْرَفَ مَقَامٍ وَأَعْلَاهُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ


((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

أَنَّ أَشْرَفَ مَقَامٍ وَأَعْلَاهُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ))

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِالْعُبُودِيَّةِ -بِالْوَصْفِ الشَّرِيفِ- فِي أَعْظَمِ الْمَقَامَاتِ.

فِي مَقَامِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]؛ أَيْ جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ، يُرِيدُونَ إِيصَالَ الضُّرِّ إِلَيْهِ، وَإِيقَاعَ الْمَكْرُوهِ عَلَيْهِ، وَهَيْهَاتَ.

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ}: فَوَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ.

بَلْ فِي مَقَامِ الْكِفَايَةِ وَالْحِفْظِ، ذَكَرَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟

بَلَى كَافٍ.

وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ، فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.

وَفِي مَقَامِ التَّحَدِّي وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23].

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ -فِي مَقَامِ التَّحَدِّي- وَصَفَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ.

وَفِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ الْعُلَى حَتَّى كَانَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاخْتَرَقَ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ جِهَارًا وَكِفَاحًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَكَلَّفَهُ رَبُّهُ بِمَا كَلَّفَهُ ﷺ.

فِي هَذَا الْمَقَامِ الشَّرِيفِ وَصَفَهُ رَبُّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1].

فَوَصَفَهُ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَأَمَّا هُوَ -بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ- فَإِنَّهُ قَدْ حَقَّقَ هَذَا الْوَصْفَ تَحْقِيقًا، وَأَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي لَا يَتَخَلَّفُ ﷺ.

النَّبِيُّ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، حَتَّى تَتَشَقَّقَ قَدَمَاهُ ﷺ، فَإِذَا رُوجِعَ: أَلَيْسَ قَدَ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

فَلِمَ هَذَا الْعَنَاءُ؟!!

لَيْسَ بِعَنَاءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَابٌ مِنْ حَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا خَلَقَهُ اللهُ، وَهُوَ خَيْرُ مَنْ حَقَّقَ الْعُبُودِيَّةَ للهِ، فَإِذَا رُوجِعَ قَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ﷺ )) .

الْعِبَادَةُ لِلَّهِ هِيَ الْغَايَةُ الْمَحْبُوبَةُ لَهُ، وَالْمُرْضِيَةُ لَهُ، وَالَّتِي خَلَقَ الْخَلْقَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وَبِهَا() أُرْسِلَ جَمِيعُ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

وَكَذَلِكَ قَالَ هُودٌ()، وَصَالِحٌ()، وَشُعَيْبٌ()، وَغَيْرُهُمْ لِقَوْمِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وَجَعَلَ ذَلِكَ لَازِمًا لِرَسُولِهِ إِلَى الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وَبِذَلِكَ وَصَفَ مَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}  [الأنبياء: 19- 20].

وَذَمَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

وَنَعَتَ صَفْوَةَ خَلْقِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6].

وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا...} الْآيَاتِ [الفرقان: 63- 77].

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْمَسِيحِ -الَّذِي ادُّعِيَتْ فِيهِ الْإِلَهِيَّةُ وَالنُّبُوَّةُ-: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].

وَبِالْعُبُودِيَّةِ نَعَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص: 45-47].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ ((الصَّحِيحِ)) : «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ».

فَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ.

عِبَادَ اللهِ! {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}.

حَقِّقُوا الْعُبُودِيَّةَ للهِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ، وَهُوَ مَا حَقَّقَهُ نَبِيُّكُمْ ﷺ. 

 

المصدر:دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: حُسْنُ التَّرْبِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ لِلْأَبْنَاءِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ
  اتِّبَاعُ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْفَوْضَى
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي الْقُرْآنِ
  الْحَثُّ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ، وَاعْتِقَادٌ، وَعَمَلٌ وَأَنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ
  الْوَعْيُ بِتَحَدِّيَّاتٍ تُهَدِّدُ أَمْنَ الْوَطَنِ
  رِسَالَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ: اتَّقُوا اللهَ فِي مِصْرَ
  الدرس الخامس : «الصِّدْقُ»
  ضَرُورَةُ تَرْشِيدِ اسْتِهْلَاكِ الْمَاءِ
  خُطُورَةُ الْكَذِبَةِ تَبْلُغُ الْآفَاقَ
  الدرس التاسع عشر : «فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ولَيْلَةُ القَدْرِ»
  بَعْضُ فَضَائِلِ الْحَجِّ
  نِعْمَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  سُؤَالُ النَّبِيِّ ﷺ رَبَّهُ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ
  • شارك