((لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟))
مَنِ الَّذِي تَنْعَقِدُ لَهُ الْبَيْعَةُ وَيَجِبُ لَهُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((السَّيْلِ الْجَرَّارِ)): ((وَأَمَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ، وَاتِّسَاعِ رُقْعَتِهِ، وَتَبَاعُدِ أَطْرَافِهِ؛ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي كُلِّ قُطْرٍ أَوْ أَقْطَارٍ الْوِلَايَةُ إِلَى إِمَامٍ أَوْ سُلْطَانٍ، وَفِي الْقُطْرِ الْآخَرِ أَوِ الْأَقْطَارِ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْفُذُ لِبَعْضِهِمْ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فِي قُطْرِ الْآخَرِ وَأَقْطَارِهِ الَّتِي رَجَعَتْ إِلَى وِلَايَتِهِ.
فَلَا بَأْسَ بِتَعَدُّدِ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَاطِينِ، وَيَجِبُ الطَّاعَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى أَهْلِ الْقُطْرِ الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ كَصَاحِبِ الْقُطْرِ الْآخَرِ.
فَإِذَا قَامَ مَنْ يُنَازِعُهُ فِي الْقُطْرِ الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ فِيهِ وِلَايَتُهُ وَبَايَعَهُ أَهْلُهُ؛ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يُقْتَلَ إِذَا لَمْ يَتُبْ.
وَلَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُطْرِ الْآخَرِ طَاعَتُهُ، وَلَا الدُّخُولُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ لِتَبَاعُدِ الْأَقْطَارِ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى مَا تَبَاعَدَ مِنْهَا خَبْرُ إِمَامِهَا أَوْ سُلْطَانِهَا، وَلَا يُدْرَى مَنْ قَامَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ، فَالتَّكْلِيفُ بِالطَّاعَةِ وَالْحَالُ هَذِهِ؛ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، فَاعْرِفْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ لِلْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ هَذَا، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ.
وَدَعْ عَنْكَ مَا يُقَالُ فِي مُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ -فِي زَمَنِ الشَّوْكَانِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ--، أَوْضَحُ مِنْ شَمْسِ النَّهَارِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ مُبَاهِتٌ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُهَا)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
إِذَنْ؛ كُلُّ قُطْرٍ قَامَ فِيهِ إِمَامٌ وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْحُقُوقِ حُقُوقَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ -حُقُوقَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ-.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُتَّجِهٌ إِلَى الْبَيْعَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا بِالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ لِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَعَدِّدِينَ مَا يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ يَوْمَ أَنْ كَانَ مَوْجُودًا، فَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ وَنَحْوَهَا، وَيُسْمَعُ وَيُطَاعُ لَهُمْ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ إِمَامٌ وَاحِدٌ وَالْبَاقُونَ نُوَّابُهُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْأُمَّةَ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِمَعْصِيَةٍ مِنْ بَعْضِهَا وَعَجْزٍ مِنَ الْبَاقِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ لَهَا عِدَّةُ أَئِمَّةٍ؛ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِمَامٍ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ، وَيَسْتَوْفِيَ الْحُقُوقَ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُجَدِّدُ كَمَا فِي ((الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ)): ((وَالْأَئِمَّةُ مُجْمِعُونَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى أَنَّ مَنْ تَغَلَّبَ عَلَى بَلَدٍ أَوْ بُلْدَانٍ؛ لَهُ حُكْمُ الْإِمَامِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.
وَلَوْلَا هَذَا مَا اسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ قَبْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ مَا اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ، وَلَا يَعْرِفُونَ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ أَنَّ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ)).
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الصَّنْعَانِيُّ عِنْدَ شَرْحِ حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)).
قَالَ: وَكَأَنَّ الْمُرَادَ خَلِيفَةُ أَيِّ قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ، إِذْ لَمْ يُجْمِعِ النَّاسُ عَلَى خَلِيفَةٍ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَثْنَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَاسِيَّةِ، بَلِ اسْتَقَلَّ كُلُّ إِقْلِيمٍ بِقَائِمٍ بِأُمُورِهِمْ؛ إِذْ لَوْ حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى خَلِيفَةٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ لَقَلَّتِ الْفَائِدَةُ)).
إِذَنْ؛ كُلُّ حَاكِمٍ فِي قُطْرٍ لَهُ أَحْكَامُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، يُبَايَعُ، وَيُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَفَارَقَ السُّلْطَانَ؛ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ.
وَلَهُ حُقُوقٌ، وَاجِبَةٌ لَهُ، أَوْجَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْأَمِينِ ﷺ، وَاجِبَةٌ، كَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الصَّلَاةُ، وَكَمَا تَجِبُ عَلَيْكَ الزَّكَاةُ، أَوْجَبَهَا اللهُ فِي عُلَاهُ.
إِذَا تَمَّ تَعْيِينُ الْإِمَامِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا، وَهُمَا اخْتِيَارُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَهُ، أَوِ اسْتِخْلَافِهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ مِنَ الْإِمَامِ قَبْلَهُ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْغَلَبَةِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ؛ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ هَذَا الْإِمَامِ.
وَحُقُوقُ الْإِمَامِ حُقُوقٌ نَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ.
وَذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ فِي غَايَةٍ، وَمِنَ الْخُطُورَةِ فِي نِهَايَةٍ، فَالْقِيَامُ بِهَا حَتْمٌ؛ لَا يُسْمَحُ بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا، وَمَنْ قَصَّرَ؛ فَقَدْ رَتَّبَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ لَهُ عُقُوبَاتٍ زَاجِرَةً؛ مِنْهَا عُقُوبَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَمِنْهَا عُقُوبَاتٌ فِي الْآخِرَةِ.
المصدر: مَظَاهِرُ الْإِيجَابِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ