((صُوَرٌ مِنْ بِرِّ النَّبِيِّ ﷺ بِنِسَائِهِ))
لَمَّا وَقَعَ شَيْءٌ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَبَيْنَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَ: «مَنْ تَرْضَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنِي وَبَيْنَكِ؟!».
فَرَضِيَتْ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ أَبُوهَا، فَاخْتَارَتْ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَاسْتَدْعَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَقُولِينَ أَوْ أَقُولُ أَنَا؟!»
فَقَالَتْ: قُلْ، وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا.
فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَقَامَ يَضْرِبُهَا، وَأَخَذَ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهَا بِيَدِه، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا، وَهَلْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؟!
فَدَارَتْ حَتَّى كَانَتْ خَلْفَ النَّبِيِّﷺ، فَأَخَذَ يَمْنَعُ عَنْهَا أَبَا بَكْرٍ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: «مَا لِهَذَا دَعَوْنَاكَ!». يَعْنِي: أَنَا مَا دَعَوْتُكَ لِتَضْرِبَهَا، لَوْ كُنْتُ ضَارِبًا لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ جِئْنَا بِكَ حَكَمًا، لَا مُعَاقِبًا وَلَا ضَارِبًا.
انْصَرَفَ أَبُو بَكْرٍ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ لَهَا: «أَرَأَيْتِ كَيْفَ دَفَعْتُ عَنْكِ الرَّجُلَ؟!».
اصْطَلَحَا.
فَأَرْسَلَ ﷺ أَنَسًا فَاشْتَرَى عِنَبًا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُتَلَدِّدًا يَسِيرُ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ يَخْشَى مِنْ غَضَبِ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَيَغْضَبُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْهَا، وَيَخْشَى أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَمْ يَبْعُدْ، فَلَقِيَ أَنَسًا فَقَالَ: كَيْفَ الْحَالُ يَا أَنَسُ؟! قَالَ: اصْطَلَحَا.
فَدَخَلَ غَيْرَ مُحْتَشِمٍ، وَقَالَ: دَعَوْتُمَانِي فِي غَضَبِكُمَا أَوْ فِي خِصَامِكُمَا، وَنَسِيتُمَانِي فِي صُلْحِكُمَا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «ادْخُلْ فَكُلْ»؛ أَيْ: كُلْ عِنَبًا.
فَالنَّبِيُّ ﷺ -وَهُوَ الْخَصْمُ- فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لَمْ يَضْرِبْ، الْحَكَمُ لَمْ يَصْبِرْ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهَا، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّةَ نَفْسِهَا، وَهَلْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا؟!
وَأَمَّا النَّبِيُّ ﷺ فَيَقُولُ لَهَا: «انْظُرِي كَيْفَ دَفَعْتُ عَنْكِ الرَّجُلَ؟!».
*وَفَاءُ النَّبِيِّ ﷺ لِزَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهَا:
مِنْ وَفَاءِ النَّبِيِّ ﷺ قِيَامُهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ، وَتَقْطِيعِ أَعْضَائِهَا، ثُمَّ الْأَمْرُ بِتَوْزِيعِ ذَلِكَ فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدُ.
وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْوَفَاءِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ فِي تَقْطِيعِ أَعْضَاءِ الشَّاةِ، وَإِرْسَالِ رَسُولٍ إِلَى بُيُوتِ الصَّاحِبَاتِ مَعَ نُدْرَةِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّسُولِ ﷺ شَاةٌ يُطْعِمُهَا أَهْلَ بَيْتِهِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ جُودُهُ ﷺ، وَشَاهِدُهُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَا كَانَ يُبْقِي مِنَ الشَّاةِ شَيْئًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا»، وَلَوْلَا إِرْسَالُ جَمِيعِ الشَّاةِ؛ لَقَالَتْ: ثُمَّ يَبْعَثُ مِنْهَا.
وَكَذَلِكَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ ﷺ عِنْدَمَا تَزُورُهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَرَدَ: «فَارْتَاعَ لِذَلِكَ»؛ أَيْ هَشَّ لِمَجِيئِهَا، مَعَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْفَرَحِ عَلَى وَجْهِهِ.
فَمِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ ﷺ لِخَديجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؛ كَانَ يُحِبُّ مَنْ يُذَكِّرُهُ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ: «اللَّهُمَّ هَالَةَ»؛ أَيْ يَا رَبِّ! اجْعَلِ الْمُسْتَأْذِنَ فِي الدُّخُولِ هَالَةَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ لِحُسْنِ الْعَهْدِ، وَحِفْظِ الْوُدِّ، وَرِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ وَالْعَشِيرِ فِي حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِبِ».
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: ((مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ, وَمَا رَأَيْتُهَا)).
عَجِيبٌ!! هِيَ الَّتِي لَمْ تَرَهَا، وَهِيَ الَّتِي تَغَارُ مِنْهَا، وَبَلَغَتِ الْغَيْرَةُ مِنْهَا مَبْلَغَهَا، وَمَا غَارَتْ غَيْرَتَهَا مِنْهَا عَلَى وَاحِدَةٍ مِمَّنْ عَاصَرَتْهُنَّ تَحْتَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِمَ؟!
قَالَتْ: ((وَلَكِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا, وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً, ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ -فِي صُوَيْحِبَاتِهَا-)). هَذِهِ كَانَتْ تَأْتِينَا أَيَّامَ خَدِيجَة، أَنْعِمْ بِأَيَّامِ خَدِيجةَ!
اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَيْهَا، وَهَذِهِ كَانَتْ تَطْرُقُنَا أَيَّامَ خَدِيجَةَ، وَأَنْعِمْ بِأَيَّامِ خَدِيجَةَ! اذْهَبُوا بِهَذِهِ إِلَى صَاحِبَةِ خَدِيجَةَ، وَهَكَذَا.
تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((فَرُبَّمَا قُلْتُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ)).
فَيَقُولُ: ((إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ)).
مَزَايَا عَدِيدَةٌ، وَخِصَالٌ حَمِيدَةٌ، وَمَآثِرُ مَجِيدَةٌ، وَمِنْ مَآثِرِهَا: أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهَا فِي عِشْرَتِهَا بِطُولِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا أَغْضَبَتْهُ مَرَّةً قَطُّ، وَلَا رَاجَعَتْهُ فِي شَيْءٍ أَبَدًا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَهَذَا الْوَفَاءُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِخَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- كَانَ كُلُّهُ بَعْدَ وَفَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، مَعَ مَا كَانَ مِنَ الْوَفَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الْوَفَاءَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ -مِنْ لُؤْلُؤٍ مُجَوَّفٍ أَوْ مِنْ ذَهَبٍ مَنْظُومٍ بِالْجَوْهَرِ- لَا صَخَبَ فِيهِ -لَا اخْتِلَاطَ لِلْأَصْوَاتِ بِارْتِفَاعِ غَوْغَائِيَّتِهَا- وَلَا نَصَبَ -لَا مَشَقَّةَ وَلَا تَعَبَ-)).
فَصَفَاءٌ فِي الْمَكَانِ، وَصَفَاءٌ فِي الْمَكِينِ، وَصَفَاءٌ فِي الْجَوِّ، وَصَفَاءٌ فِي الضَّمِيرِ، وَهِيَ الصَّفَاءُ كُلُّهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا أُمِّنَا-.
*بِرُّ النَّبِيِّ ﷺ بِأَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَفَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِثَالًا:
لَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ فِي سَمْتِهِ، وَفِي دَلِّهِ، وَفِي مَشْيِهِ، وَفِي جِلْسَتِهِ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا أَقْبَلَتْ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا؛ قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ ﷺ.
وَمَقَامُ فَاطِمَةَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ مَقَامٌ عَظِيمٌ جَلِيلٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ لَمَّا أَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَعَلِيٌّ زَوْجُ فَاطِمَةَ بِنْت رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَرَادَ آلُ أَبِي جَهْلٍ أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ابْنَتَهُمْ.
فَخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ: ((إِنَّ آلَ أَبِي جَهْلٍ أَرَادُوا أَنْ يُنْكِحُوا عَلِيًّا ابْنَتَهُمْ، وَلَا وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلْيُفَارِقْ فَاطِمَةَ))، فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ حَدَثَ يَكُونُ فِتْنَةً لِفَاطِمَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا-؛ لِأَنَّهُ تَكُونُ ضَرَّتُهَا بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْحَقِّ عَلَى عَلِيٍّ مَا يُمَاثِلُ مَا لِلْأُخْرَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي -وَالْبَضْعَةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ- يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا)). فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
لَمَّا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَكَانَ مَرِيضًا، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ، وَأَسَرَّ إِلَيْهَا كَلَامًا، فَبَكَتْ ثُمَّ أَكَبَّتْ عَلَيْهِ، فَسَارَّهَا بِكَلَامٍ فَضَحِكَتْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ أَكْمَلِ النِّسَاءِ، فَإِذَا هِيَ تَضْحَكُ وَتَبْكِي فِي آنٍ؟!!)).
فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: ((بِمَا أَسَرَّ إِلَيْكِ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟)).
قَالَتْ: ((إِنِّي إِذَنْ لَبَذِرَةٌ -وَالْبَذِرُ مِنَ الرِّجَالِ: الَّذِي يَنْقُلُ الْحَدِيثَ، وَلَا يَسْتَقِرُّ عَلَى صَفْحَةِ قَلْبِهِ شَيْءٌ سَمِعَهُ، فَإِذَا جَلَسَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَدَّثَ بِمَا كَانَ- وَمَا كُنْتُ لَأُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللهِ)).
فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيُّ ﷺ حَدَّثْتُ بِالَّذِي كَانَ، فَقَالَتْ: ((إِنِّي لَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأُولَى أَسَرَّ إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِيهِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جَاءَهُ فِي هَذَا الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، فَعَلِمَ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ دَنَا.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، فَلَمَّا أَكْبَبْتُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَسَرَّ إِلَيَّ أَنِّي -أَيْ فَاطِمَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-- أَسْرَعُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقًا بِهِ، قَالَتْ: فَضَحِكْتُ)).
فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ.
فَضْلُ فَاطِمَةَ وَعَظِيمُ قَدْرِهَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.
*مَحَبَّةُ وَبِرُّ النَّبِيِّ ﷺ بِأَحْفَادِهِ:
عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَدُعِينَا إِلَى طَعَامٍ فَإِذَا حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ، فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا، يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ فِي ذَقَنِهِ وَالْأُخْرَى فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ»«». هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَسَلَكَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«سِبْطَانِ»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْبِنْتِ، مَأْخَذُهُ مِنَ «السَّبَطِ» بِالْفَتْحِ وَهِيَ شَجَرَةٌ لَهَا أَغْصَانٌ كَثِيرَةٌ وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، كَأَنَّ الْوَالِدَ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرَةِ، وَكَأَنَّ الْأَوْلَادَ بِمَنْزِلَةِ الْأَغْصَانِ.
قَالَ الْقَاضِي«»: «السِّبْطُ»: وَلَدُ الْوَلَدِ؛ أَيْ: هُوَ مِنْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ«».
«حُسَيْنٌ يَلْعَبُ فِي الطَّرِيقِ فَأَسْرَعَ ﷺ أَمَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَيْهِ»: يُرِيدُ أَنْ يَمْنَعَ الْحُسَيْنَ مِنَ الْحَرَكَةِ.
فِي الْحَدِيثِ: تَوَاضُعُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ وَرَحْمَتُهُ بِالْأَطْفَالِ.
وَفِيهِ: صِلَتُهُ بِأَرْحَامِهِ.
«جَعَلَ الْغُلَامَ يَمُرُّ مَرَّةً هَاهُنَا وَمَرَّةً هَاهُنَا»: أَيْ: يُحَاوِلُ الْفِرَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
وَفِيهِ: مُضَاحَكَةُ الصَّبِيِّ، وَمُمَازَحَتُهُ وَاعْتِنَاقُهُ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: اسْتِحْبَابُ مُلَاطَفَةِ الصَّبِيِّ، وَاسْتِحْبَابُ مُدَاعَبَتِهِ؛ رَحْمَةً لَهُ وَلُطْفًا بِهِ، وَبيَانُ خُلُقِ التَّوَاضُعِ مَعَ الْأَطْفَالِ وَغَيْرِهِمْ.
فَهَذا النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ مَعَ عَظِيمِ مَسْئُولِيَّتِهِ، وَمَعَ جَلِيلِ مَا نَاطَهُ اللهُ تَعَالَى بِعُنُقِهِ، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الدَّعْوَةِ وَالْبَلَاغِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، يَجِدُ فِي صَدْرِهِ فُسْحَةً؛ -وَمَا أَوْسَعَ صَدْرَهُ ﷺ!- لِكَيْ يُلَاطِفَ حُسَيْنًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهِيَ صُورَةٌ مُحَبَّبَةٌ، فِيهَا شَفَقَةٌ، وَفِيهَا رِقَّةٌ، وَفِيهَا رَحْمَةٌ، وَفِيهَا رَأْفَةٌ، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى مَنْ وَصَفَهُ رَبُّهُ بِأَنَّهُ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.
فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ«».
*وَفَاءُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْأَنْصَارِ، وَوَفَاؤُهُ وَبِرُّهُ بِمَنْ آذَوْهُ قَبْلُ:
أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -فِيمَا يَأْتِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدُ-، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبَاحٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطَّعَامَ.
فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ -وحُقَّ لَهُ؛ إِذْ هُوَ مِمَّنْ رَبَّاهُمْ عَلَى عَيْنِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ- مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُوَنَا إِلَى رَحْلِهِ -لِيُطْعِمَهُمْ-.
فَقُلْتُ -يقولُ عَبْدُ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ في سِيَاقِ حَدِيثِهِ، يَعْنِي: قَالَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِأَهْلِهِ مُحَرِّضًا وَحَاثًّا- فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا، فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى رَحْلِي -وَأَفْعَلُ كَمَا يَفْعَلُ أَبُو هُرَيْرَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ ﷺ-؟
فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ -فَأَمَرَ أَهْلَهُ وَمَنْ كَانَ هُنَالِكَ فِي خِدْمَتِهِ أَنْ يَصْنَعُوا طَعَامًا-؟
قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِيِّ -يَعْنِي: فِي آخِرِ النَّهَارِ-، فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ -كَانُوا فِي رَمَضَانَ كَمَا ذَكَرَ-، فَقَالَ: سَبَقْتَنِي؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَوْتُهُمْ.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -وَعِنْدَنَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- بِذَاتِ السِّيَاقِ لِنَفْسِ الرَّاوِي فِي ذَاتِ الْقِصَّةِ وَنَفْسِ الْحَدَثِ أَنَّهُمُ انْتَهَوْا إِلَى بَيْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحٍ وَمَعَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- وَلَمَّا يُدْرِكِ الطَّعَامُ بَعْدُ، يَعْنِي: هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْحَالِ، وَهَذَا فَارِقُ مَا بَيْنَ (لَمْ) وَ(لَمَّا)، وَلَمْ يُدْرِكِ الطَّعَامُ بَعْدُ: فَهَذَا قَطْعٌ لِلصِّلَةِ بِالْحَالِ، وَلَمَّا يُدْرِكِ الطَّعَامُ بَعْدُ: يَعْنِي: وَلَمَّا يَنْضُجِ الطَّعَامُ بَعْدُ؛ وَلَكِنَّهُ عَلَى شَفَا نُضُوجٍ-.
يَقُولُ: -يَعْنِي: لَمَّا جَلَسُوا وَالطَّعَامُ لَمْ يُؤْتَ بِهِ بَعْدُ- أَلَا تُحَدِّثُنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ بِحَدِيثٍ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتَّى يُدْرِكَ طَعَامُنَا، حَتَّى يَنْضُجَ طَعَامُنَا؟
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ -يَعْنِي: مَا أَخْتَارُ لَكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِلَّا حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِكُمْ مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ-.
ثُمَّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ -جَاءَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جُنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُقَاتِلِينَ مُجَاهِدِينَ لِفَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ نُكْثِ الْعَهْدِ، وَبَعْدِ نَقْضِ الْعَقْدِ، وَبَعْدَ إِخْلَافِ الْوَعْدِ، فَمَا هَيَّجَ عَلَيْهِمْ جُنْدَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْغَدْرُ، وَجَاءَ النَّبِيُّ الْوَفِيُّ ﷺ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ-.
فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى -الْمُجَنِّبَتَانِ: الْجَنَاحَانِ بَيْنَهُمَا قَلْبُ الْجَيْشِ-، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ -الَّذِينَ لَا خِوَذَ لَهُمْ، وَالَّذِينَ لَا أَدْرُعَ تَسْتُرُ صُدُورَهُمْ-، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي -يَعْنِي: فَمَضَوْا فِي بَطْنِ الْوَادِي مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، أَعْنِي الحُسَّرَ-، وَرَسُولُ اللهِ ﷺ فِي كَتِيبَةٍ -وَالْكَتِيبَةُ: الْقِطْعَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْجَيْشِ-.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَنَظَرَ فَرَآنِي، فَقَالَ: ((أَبُو هُرَيْرَةَ)).
قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ».
يَعْنِي: صِحْ بِهِمْ، اهْتِفْ بِهِمْ، اهْتِفْ بِالْأَنْصَارِ، صِحْ بِهِمْ، وَادْعُهُمْ إِلَيَّ؛ وَلَكِنْ لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ-.
قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ -وَحَذَفَ هَاهُنَا حَدَثًا وَكَلَامًا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ».
قَالَ: فَأَحَاطُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ، وَأَطَافُوا بِهِ.
اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، اُدْعُهُمْ إِلَيَّ، فَذَهَبْتُ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ أَدْعُو الْأَنْصَارَ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ هَلُمُّوا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا أَسْرَعَ طَائِرًا بِجَنَاحَيِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ النَّبِيِّ ﷺ، حَتَّى كَانُوا عِنْدَهُ، فَأَطَافُوا بِهِ، حَذَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ.
فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا وَأَتْبَاعًا -يَعْنِي: جَمَعَتِ السِّفْلَةَ وَالْأَوْبَاشَ وَسَقَطَ الْمَتَاعِ مِنَ النَّاسِ، فَجَعَلَتْهُمْ تَقْدِمَةً يَلْقَوْنَ مُحَمَّدًا وَجُنْدَهُ ﷺ.
فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ -يَعْنِي: إِنْ أَصَابُوا مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ فَوْزًا وَنَصْرًا كُنَّا مَعَهُمْ-، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الَّذِي سُئِلْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ».
ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى -كَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ هَكَذَا -وَأَمْسَكَ الشَّيْخُ كَفَّهُ بِكَفِّهِ؛ إِشَارَةً لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهِمْ-، «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ» -يَعْنِي: قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ -وَهُوَ الَّذِي يُصَارُ إِلَيْهِ-: فَأَخْفَى شِمَالَهُ ﷺ، وَأَمْضَى عَلَيْهَا يَمِينَهُ هَكَذَا، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ، وَأَتْبَاعِهِمْ»، ثُمَّ جَعَلَ يَدَيْهِ هَكَذَا، يَعْنِي: افْرُوهُمْ فَرْيًا، وَمَثِّلُوا بِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ-، قَالَ النبي ﷺ: «حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا».
قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ -لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ-، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا -يَعْنِي: هُمْ لَا يُدَافِعُونَ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُدْفَعُونَ، لَا يَصْنَعُونَ شَيْئًا-.
قَالَ -فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ مَاذَا حَدَثَ؟-: جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ -جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ يَسْعَى حَثِيثًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ -وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ- أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ -يَعْنِي: أُبِيدَتْ وَاسْتُأْصِلَتْ، وَيُقَالُ لِلْأَجْمَاعِ الَّذِينَ يُجْمَعُونَ مَعًا، وَلِلْأَوْزَاعِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِذَا مَا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ يُقَالُ لِذَلِكَ: خَضْرَاءُ، وَخَضْرَاؤُهُمْ: جَمَاعَاتُهُمْ، يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ يَا رَسُولَ اللهِ.
النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ يَمُرُّ بِأَمْرَيْنِ كَبِيرَيْنِ:
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ أَخْرَجْتُمُونِي بَعْدَمَا طَارَدْتُمُونِي، وَحَاوَلْتُمْ قَتْلِي، فَتَرَصَّدْتُمْ بِي رَصَدًا، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَهْتَبِلُوا مِنِّي غِرَّةً لِلْقَضَاءِ عَلَيَّ، وَخَرَجْتُ، وَتَرَكْتُ، وَمَضَيْتُ، وَقَاتَلْتُ، وَجَاهَدْتُ، وَتَعِبْتُ، وَدَافَعْتُ عَنْ دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ أُبْتُ وَرَجَعْتُ، وَلَمْ أَرْجِعْ إِلَّا لِنُكْثِكُمْ بِعَهْدِكُمْ، وَنَقْضِكُمْ لِعَقْدِكُمْ، وَخَيْسِكُمْ بِوَعْدِكُمْ، فَلَمْ أَفْتَتْ عَلَيْكُمْ؛ فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟!! لَكِنَّهُ الصَّبُورُ الْحَلِيمُ ﷺ.
وَصَّى الْأَنْصَارَ قَبْلُ بِالْإِشَارَةِ هَكَذَا -أَمْسَكَ كَفَّهُ بِكَفِّهِ-، أَوْبَاشُهُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ يَدْفَعُونَ بِهِمْ فِي وُجُوهِكُمْ -هَكَذَا وَأَمْسَكَ كَفَّهُ بِكَفِّهِ-.
وَالْآنَ مَاذَا يَكُونُ الشَّانُ مَعَ الْأَنْصَارِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؟
لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ».
فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ -يَعْنُونَ مُحَمَّدًا ﷺ، مَا الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهُمْ مُلُوكُ الْبَيَانِ، وَسَلَاطِينُ الْبَلَاغَةِ، وَأَسَاطِينُ التَّعْبِيرِ أَيْضًا؟!! أَوَ مَا كَانَتْ هُنَالِكَ لَفْظَةٌ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَاهُنَا مُعَبِّرَةً مُؤَدِّيَةً لِلْمَعْنَى الْمُرَادِ سِوَى هَذَا الْإِطْلَاقِ؟!-
أَمَّا الرَّجُلُ؛ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ -تَدْرِي.. لَقَدْ قَالُوهَا كَأَنَّهَا تَوْطِئَةٌ لِعُذْرٍ؛ بَلْ كَأَنَّمَا دَفَعُوا بِهَا اعْتِذَارًا؛ يَعْنِي: النَّبِيُّ ﷺ حِينَمَا رَأَوْا رَأْفَتَهُ بِقَوْمِهِ، وَكَفَّهُ الْقَتْلَ عَنْهُمْ ﷺ؛ جَنَحَتْ بِهِ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ فِي أَعْلَى مَرَامِيهَا وَأَجْلَى مَسَامِيهَا، فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ هَاهُنَا، وَلَهُ الْعُذْرُ كُلُّهُ ﷺ.
لِمَاذَا أَمَّنَ وَقَدْ أَمَرَ بِأَنْ نَجْعَلَ فِيهِمُ السَّيْفَ؟
لِمَاذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ؛ وَقَدْ أَمَرَنَا قَبْلُ وَانْتَدَبَنَا وَحْدَنَا: لَا تَدْعُ لِي إِلَّا الْأَنْصَارَ، وَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ؟
وَهَذِهِ كَتِيبَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَأْتِيهَا الْأَمْرُ الْمُبَاشِرُ بِالْفِعْلِ، وَهِيَ تَفْعَلُ مَا أُمِرَتْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَقْصِيرٍ، حَتَّى يَأْتِيَ الْأَمْرُ مِنَ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ((مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)).
نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ ﷺ؛ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ -لَمْ يَنْقُلْهَا، أَعْنِي: الْقَوْلَةَ الَّتِي قِيلَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَكَانَ إِذَا جَاءَ الْوَحْيُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإِذَا جَاءَ -يَعْنِي: الْوَحْيَ-؛ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمَّا انْقَضَى الْوَحْيُ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ» قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: ((قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ؛ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ؟)).
وَهَذَا دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ الْوَحْيَ بِالسُّنَّةِ يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِالطَّرِيقِ الْمُبَاشِرِ هَكَذَا.
قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ.
قَالَ: ((كَلَّا)) -وَكَلَّا هَاهُنَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَصْلِهَا -يَعْنِي: لَا، لَمْ يَحْدُثْ أَنْ أَخَذَتْنِي رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِي وَقَدْ خَرَجْتُ مِنْهَا مُهَاجِرًا، فَلَا أَعُودُ مِنْ هِجْرَتِي، وَإِنَّمَا أَنَا مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَا كَانَ، وَأَيْضًا: لَا رَأْفَةَ فِي الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ مِنْ كَفِّ الْقَتْلِ عَنْهُمْ وَلَا شَيْءَ؛ لِأَنَّهُمْ عَشِيرَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِحِكَمٍ جَلِيلَةٍ.
وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (كَلَّا) هَاهُنَا بِمَعْنَى: حَقًّا، نَعَمْ، أَدْرَكَتْنِي رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِي وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِي؛ وَلَكِنِّي لَا أَسِيرُ عَلَى مُقْتَضَى رَغَبَاتِي الشَّخْصِيَّةِ، وَلَا أَعُودُ إِلَى قَنَاعَاتِي الذَّاتِيَّةِ، وَإِنَّمَا -كَمَا قَالَ ﷺ، قَالَ: كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَإِذَنْ؛ فَمَاذَا سَيَكُونُ بَعْدُ؟-
قَالَ: ((كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ».
يَا لَلْوَفَاءِ!!
الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ، وَهَذِهِ أَرْضِي وَأَرْضُ آبَائِي.
وَهَذِهِ دِيَارِي وَدِيَارُ أَجْدَادِي، وَهَذَا الْبَيْتُ بِأَشْرَفِ قَرْيَةٍ بِبَلْدَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، حَبِيبٌ إِلَيَّ، عَزِيزٌ عَلَيَّ، بَنَاهُ أَبَوَايَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ، وَإِنِّي لَأَوَدُّ، وَإِنِّي لَوَادٌّ أَنْ أَظَلَّ عِنْدَهُ أَطُوفُ بِهِ، وَأَسْتَلِمُ حَجَرَهُ، وَأَظَلُّ هَاهُنَا، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدَّرَ.
وَإِنَّهُ ﷺ لَا يَصْدُرُ فِي شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَمَا قَالَ لَهُ رَبُّهُ وَهُوَ يُتَرْجِمُ عَنِ الْوَحْيِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، يَقُولُ النَّبِيُّ: ((وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).
فَأَظَّلُ بَيْنَكُمُ الْحَيَاةَ الْبَاقِيَةَ، فَإِذَا مِتُّ فَبَيْنَكُمْ أَمُوتُ، وَبِدِيَارِكُمْ أُدْفَنُ، وَقَبْرِي عِنْدَكُمْ وَلَدَيْكُمْ ﷺ.
وَفَاءٌ مَا بَعْدَهُ وَفَاءٌ!!
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللهِ؛ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ ﷺ.
وَاللهِ مَا قُلْنَا مَا قُلْنَا إِلَّا أَنَّا أَشِحَّةٌ عَلَيْكَ، وَإِلَّا إِنَّا بُخَلَاءُ بِكَ غَايَةَ الْبُخْلِ، لَا نُفَرِّطُ فِيكَ أَبَدًا، وَلَا نَتَصَوَّرُ أَنْ نَعُودَ وَنُخَلِّيَكَ بَعْدَنَا، وَلَا أَنْ نُغَادِرَكَ فِي مَكَانٍ لَا تَكُونُ مَعَنَا فِيهِ ﷺ.
وَعَيْنًا بِعَيْنٍ، وَسِنًّا بِسِنٍّ، وَوَفَاءً بِوَفَاءٍ ((الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ)).
فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ».
إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ فِيمَا قُلْتُمْ، وَيَعْذِرَانِكُمْ فِيمَا لَفَظْتُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْحُبِّ كَمَا أَعْلَنْتُمْ عَنِ الضِّنِّ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَغْلَقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ -يُحَصِّلُونَ الْأَمَانَ-، قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، قَالَ: فَأَتَى عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ -أَهَذَا إِلَهٌ؟!! أَهَذَا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ؟!! أَهَذَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ؟!! أَهَذَا يَدْفَعُ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا مِنَ الضُّرِّ يَنْزِلُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، أَوْ يُصِيبُ لَا بِالْقَذَى، وَإِنَّمَا بِسِيَةِ الْقَوْسِ مِحْجَرَهُ وَعَيْنَهُ؟!! فَلْنَرَ.
قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ -يَعْنِي: بِطَرَفِ الْقَوْسِ الْمَحْمِيِّ-، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ؛ جَعَلَ ﷺ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ -يَطْعَنُ بِهَذَا الْقَوْسِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الصَّنَمِ-، وَيَقُولُ ﷺ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81].
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا عَلَيْهِ حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللهَ، وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ ﷺ.
النَّبِيُّ ﷺ مُعَلِّمُ البَشَرِيَّةِ الوَفَاءَ..
*بِرُّ النَّبِيِّ وَشَفَقَتُهُ ﷺ بِخَدَمِهِ:
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي -وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَوْجُ أُمِّ سُلَيْمٍ أُمِّ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ--، فَأَخَذَ بِيَدِ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَّهُ هِيَ الَّتِي أَخَذَتْ ِبيَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ.
قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟!» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لِأَنَّ أَنَسًا كَانَ فِي التَّاسِعَةِ مِنْ عُمُرِهِ، أَوْ فِي الْعَاشِرَةِ، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
حَتَّى إِنَّهُ كَانَ أَحْيَانًا يَفْعَلُ مَا تَقْتَضِيهِ سِنُّهُ، كَمَا حَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ ﷺ أَنْ أَذْهَبَ لِحَاجَةٍ عَيَّنَهَا لِي، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ!
يَقُولُ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: «اذْهَبْ يَا أَنَسُ، فَافْعَلْ كَذَا!».
فَقُلْتُ: وَاللَّهِ، لَا أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ.
قَالَ: فَمَا رَاعَنِي إَّلا وَالنَّبِيُّ ﷺ قَدْ أَخَذَ بِأُذُنِي مِنْ خَلْفِي وَيَقُولُ: «يَا أُنَيْسُ هَلْ ذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَقُلْ لَهُ لِشَيْءٍ صَنَعَهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا.
عَشْرُ سِنِينَ لَمْ يَقُلْ لَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ذَلِكَ!!
وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَنْقَضِي مِنْهُ الْعَجَبُ، وَلَكِنَّهَا أَخْلَاقُ الرَّسُولِ ﷺ.
«مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا»؛ أَيْ: لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِي فِعْلٍ وَلَا تَرْكٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكَ اعْتِرَاضِهِ ﷺ عَلَى أَنَسٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِدْمَةِ وَالْآدَابِ، لَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيهَا.
يَعْنِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخِدْمَتِهِ ﷺ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى هَذَا، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ.
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي قَطُّ: أُفٍّ. وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَ كَذَا؟!» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ ﷺ، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ أَلَّا يَقُولَ لِوَلَدِهِ مِنْ صُلْبِهِ عَشْرَ سِنِينَ، أَلَّا يَقُولَ لَهُ: أُفٍّ، خِلَالَ هَذِهِ الْفَتْرَةِ مِنَ الزَّمَانِ؟!
فَأَنَسٌ لَيْسَ بِوَلَدِهِ، وَهَذَا أَدْعَى لِأَنْ يُعَامِلَهُ بِمَا لَمْ يُعَامِلْ بِهِ وَلَدَهُ، وَلَكِنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
«أُفٍّ» كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ.
لَمْ تَصْدُرْ مِنْهُ قَطُّ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَسٌ كَانَ صَبِيًّا بَعْدُ.
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «يَا أُنَيْسُ -وَالتَّصْغِيرُ لِلتَّدْلِيلِ-أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟!».
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟! رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «قَوْلُهُ: «تِسْعَ سِنِينَ»، وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ «عَشْرَ سِنِينَ» مَعْنَاهُ أَنَّهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهُرٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ تَحْدِيدًا لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ، وَخَدَمَهُ أَنَسٌ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى.
فَفِي رِوَايَةِ التِّسْعِ لَمْ يَحْسِبِ الْكَسْرَ، بَلِ اعْتَبَرَ السِّنِينَ الْكَوَامِلَ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَشْرِ حَسَبَهَا سَنَةً كَامِلَةً، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ».
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ كَمَالِ خُلُقِهِ ﷺ وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ، وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي وَنَفْسِي ﷺ.
لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُمْ أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلا ضَرَبَ خَادِمًا وِلا امْرَأَةً». الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.
«مَا ضَرَبَ» «بِيَدِهِ» لِلتَّأْكِيدِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ عَادَةً يَكُونُ بِالْيَدِ، فَلَوِ اقْتَصَرَتْ عَلَى قَوْلِهَا: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ» لَفُهِمَ أَنَّهُ مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ، وَلَكِنَّهَا أَكَّدَتْ بِقَوْلِهَا: «مَا ضَرَبَ بِيَدِهِ».
«شَيْئًا»؛ أَيْ: آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتُفِيدُ الْعُمُومَ.
«وَقَطُّ»، كَمَا مَرَّ؛ لِتَأْكِيدِ الْمَاضِي.
«إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ»؛ أَيْ: فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ بِيَدِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ فِي الْجِهَادِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ قَتَلَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ بِيَدِهِ فِي أُحُدٍ، وَلَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ ﷺ أَحَدًا سِوَاهُ.
وَأُبِيُّ بْنُ خَلَفٍ أَشْقَى النَّاسِ، فَإِنَّ أَشْقَى النَّاسِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيُّ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.
«وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً»؛ أَيْ: مَعَ وُجُودِ سَبَبِ ضَرْبِهِمَا، وَهُوَ مُخَالَفَتُهُمَا غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا، فَالتَّنَزُّهُ عَنْ ضَرْبِ الْخَادِمِ وَالْمَرْأَةِ -حَيْثُ أَمْكَنَ- أَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا لِأَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَالْكَمَالِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُ أَنَسٍ بِأَنَّهُ لَمْ يُعَاتِبْهُ قَطُّ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا قَالَ لَهُ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا هَكَذَا؟
فَالْحَدِيثُ فِيهِ بَيَانٌ لِرَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ.
هَاهُنَا بَيَانٌ لِرَحْمَتِهِ بِنِسَائِهِ وَخَدَمِهِ، وَكُلُّ مَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ مَا اسْتَخْدَمَ يَدَهُ إِلَّا فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ فِي شَتَّى مَجَالَاتِهِ.
فَوَفَاؤُهُ وَفَاؤُهُ ﷺ.
وَإِذَا صَحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمَا فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ ﷺ.
المصدر:الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ