((وَرَعُ السَّلَفِ الشَّدِيدُ عَنْ أَكْلِ السُّحْتِ))
عِبَادَ اللهِ! يَنْبَغِي التَّبَاعُدُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَاتِ حَاجِزًا.
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((تَمَامُ التَّقْوَى أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ الْعَبْدُ حَتَّى يَتَّقِيَهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، وَحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضَ مَا يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ)) .
يَعْنِي هَذَا الَّذِي يَتْرُكُهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَلَالٌ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ حِجَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: ((مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ)).
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: ((إِنَّمَا سُمُّوا الْمُتَّقِينَ لِأَنَّهُمْ اتَّقَوْا مَا لَا يُتَّقَى)).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ لَا أَخْرِقُهَا)).
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ((لَا يُصِيبُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ حَاجِزًا مِنَ الْحَلَالِ، وَحَتَّى يَدَع الْإِثْمَ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ)).
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَنَّ غُلَامًا لِحَسَّانَ بْنِ أَبِي سِنَانٍ كَتَبَ لَهُ مِنَ الْأَهْوَازِ أَنَّ قَصَبَ السُّكَّرِ قَدْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ؛ فَاشْتَرِ السُّكَّرَ الَّذِي قِبَلَكَ؛ فَاشْتَرَاهُ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى رَبِحَ فِيهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا, فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ الرِّبْحِ، فَذَهَبَ إِلَى الْبَائِعِ، فَقَالَ: يَا هَذَا! إِنَّ غُلَامِي قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ فَلَمْ أَعْلَمْ؛ فَأَقِلْنِي فِي هَذَا الْبَيْعِ.
فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ: قَدْ أَعْلَمْتَنِي الْآنَ وَقَدْ طَيَّبْتُهُ لَكَ.
فَذَهَبَ فَلَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ, فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى عَادَ إِلَيْهِ, فَقَالَ: يَا هَذَا إِنِّي لَمْ آتِ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ وَجْهِهِ, فَأَقِلْنِي فِي هَذَا الْبَيْعِ, فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَدَّهُ عَلَيْهِ!!
وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْوَرَعِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَثَّلَ لِلْإِنْسَانِ دَائِمًا بِإِزَاءِ عَيْنِ بَصِيرَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَدَعُ.
وَهَذَا رَجُلٌ جَاءَ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، كَانَ يَتَوَرَّعُ، فَسَأَلَ عَنِ الْأَكْلِ الْحَلَالِ، فَدُلَّ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، أَبِي سَعِيدٍ الْإِمَامِ، الْوَرِعِ الزَّاهِدِ، الْعَفِيفِ الْمُتَعَفِّفِ.
فَقَالَ: يَا إِمَامَ! جِئْتُكَ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ أَسْأَلُ عَنِ الْحَلَالِ الصِّرْفِ -عَنِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ-.
فَقَالَ: يَا هَذَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْوُعَّاظِ أَكَلَ مِنْ هَدَايَا الْأَصْحَابِ، وَأَخَذَ مِنْ عَطَايَا الْأَحِبَّاءِ، فَلَسْتُ هُنَالِكَ، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ بِـ(طَرَسُوسَ).
فَهَذَا الرَّجُلُ عِنْدَهُ مَزْرَعَةٌ، إِذَا مَا جِئْتَهُ وَجَدَتْهُ قَائِمًا فِيهَا، وَعِنْدَهُ بَقَرَةٌ، جَعَلَهَا تَمُرُّ بِطَرِيقٍ فِيهِ تِبْنٌ وَشَعِيرٌ، وَطَرِيقٌ بِهِ مَاءٌ، فَإِذَا مَرَّتْ بِالتِّبْنِ وَالشَّعِيرِ عَرَضَهُمَا عَلَى الْبَقَرَةِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ يَعْرِضُهَا عَلَى الْمَاءِ فَتَأْخُذُ حَاجَتَهَا مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَعْلَمُ يَأْكُلُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَحْضِ فَائْتِهِ.
فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-، فَقَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ الْحَسَنِ أَبِي سَعِيدٍ، وَقَالَ لِي: كَذَا وَكَذَا، وَوَصَفَ لِي مِنَ الْأَمْرِ كَيْتَ وَكَيْتَ.
فَبَكَى الرَّجُلُ، وَقَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ لَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سَعِيدٍ، وَلَكِنْ شُغِلْتُ يَوْمًا بِصَلَاتِي عَنِ الْبَقَرَةِ، فَذَهَبَتْ إِلَى أَرْضِ جَارِي، فَاخْتَلَطَ بِقَوَائِمِهَا طِينٌ مِنْ أَرْضِ جَارِي، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى الْأَرْضِ، فَاخْتَلَطَ طِينُ أَرْضِ جَارِي بِأَرْضِي، فَصَارَتْ شُبْهَةً، فَلَمْ أَعُدْ ذَلِكَ الَّذِي وَصَفَ لَكَ الْإِمَامُ الْحَسَنُ، فَعُدْ إِلَيْهِ حَتَّى يَدُلَّكَ عَلَى غَيْرِي!!
لَا تَحْسَبَنَّ هَذَا خَيَالًا، وَإِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ، وَإِلَّا لَمَا صَارُوا أَئِمَّةً، تَحْسَبُ أَنَّ الْأَمْرَ هَيِّنًا؟!! هُوَ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَظِيمًا.
*وَرَعُ نِسَاءِ السَّلَفِ، وَتَحَرِّيهِمْ أَكْلِ الْحَلَالِ:
لَقَدْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَعْجِنُ عَجِينَهَا، فِيَأَتْي نَعْيُ زَوْجِهَا، فَتُخْرِجُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ، وَتَقُولُ: ((هَذَا طَعَامُ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءُ، هَذَا طَعَامٌ أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ وَرَثَةٌ مُشَارِكُونَ!!))
بَلْ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، كَانَتِ الْوَاحِدَةُ تَجْلِسُ فِي ضَوْءِ الْمِصْبَاحِ، فَإِذَا جَاءَ نَعْيُ وَلِّيِهَا -نَعْيُ زَوْجِهَا- قَامَتْ، فَأَطْفَأَتِ الْمِصْبَاحُ، تَقُولُ: ((هَذَا زَيْت -زَيْتُ الْمِصْبَاحِ- أَصْبَحَ لَنَا فِيهِ شُرَكَاءٌ!!))
لَقَدْ جَاءَتْ أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ, وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَنَّ لَهَا مَسْأَلَةً, وَكَانَتْ مَسْأَلَتُهَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ، تَقُولُ: إِنَّهَا إِنَّمَا تَتَكَسَّبُ عَيْشَهَا مِنْ طَاقَاتِ غَزْلٍ تَأْتِي بِهَا مِنَ السُّوقِ, ثُمَّ تَقُومُ عَلَيْهَا غَزْلًا, ثُمَّ تَبِيعُهَا فِي الْأُسْبُوعِ بَعْدَهُ.
وَفَضْلُ مَا بَيْنَ الْكَسْبَيْنِ بَيْعًا وَشِرَاءً هُوَ طَعَامُهَا وَهُوَ كَسْبُهَا الَّذِي مِنْهُ تَتَعَيَّشُ بِفَضْلِ رَبِّهَا، إِلَى هُنَا لَا شَيْءَ.
تَقُولُ: وَإِنِّي إِنَّمَا أَقُومُ بِذَلِكَ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ سِرَاجًا يُضِيءُ بِاللَّيْلِ, إِنَّمَا تَقُومُ فِي أَجْوَافِ اللَّيَالِي إِذَا كَانَتْ مُقْمِرَةً، فَتَكُونُ عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَغْزِلَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ.
قَالَتْ: فَمَرَّتْ لَيْلَةً جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَسَسِ بِاللَّيْلِ, فَوَقَفُوا وَمَعَهُ السُّرُجُ بِإِزَاءِ بَيْتِنَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ أَوْ يَصْنَعُونَ شَيْئًا, قَالَتْ: فَغَزَلْتُ طَاقَةً أَوْ طَاقَتَيْنِ فِي ضَوْءِ تِلْكَ السُّرُجِ وَتِلْكَ الْمَصَابِيحِ, فَهَلْ يَلْحَقُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟
فَتَعَجَّبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ السُّؤَالِ قَالَ: مَنْ أَنْتِ؟
قَالَتْ: أَنَا فُلَانَةُ، أُخْتُ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَافِي.
قَالَ: أَمَّا لِلنَّاسِ جَمِيعًا فَحَلَالٌ, وَأَمَّا عَلَى آلِ بِشْرٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُمْ آلُ بَيْتٍ يَأْخُذُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْوَرَعِ.
وَكانَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْ نِسَاءِ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَخْرُجَ طَالِبًا الرِّزْقَ؛ تَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ تَقُولُ لَهُ: ((اتَّقِ اللهَ فِينَا وَلَا تُطعِمُنَا إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ؛ فَإِنَّنَا نَحْثُو التُّرَابَ -نَسْتَفُّهُ- وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، فَضْلًا عَنَ أنْ يَكُونَ مِنْ حَرامٍ)).
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَتَى بِالْحَرَامِ فَأَكَلَتْهُ الْمَرْأَةُ؛ ثُمَّ تَخَلَّقَ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا, فَهَذَا الْجَنِينُ إِنَّمَا يُغَذَّى مِنْ هَذَا الْغِذَاءِ الَّذِي تَنَاوَلَتْهُ, وَهَذَا الْغِذَاءُ حَرَامٌ! فَهَذَا وَلَدُ حَرَامٍ, تَوَلَّدَ مِنْ حَرَامٍ, وَنَمَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنَ الْحَرَامِ, فَأَنَّى يَصْلُحُ مِثْلُ هَذَا؟!!
المصدر: أَكْلُ السُّحْتِ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ