((أَهَمِّيَّةُ التَّخْطِيطِ وَدَلَائِلُهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ))
*فَالتَّخْطِيطُ الْمُسْتَقْبَلِيُّ لِلْأُمَّةِ يَكُونُ اقْتِصَادِيًّا مَالِيًّا، وَزِرَاعِيًّا، وَتَمْوِينِيًّا، وَعَسْكَرِيًّا حَرْبِيًّا.
وَمِنْ دَلَائِلِ التَّخْطِيطِ الِاقْتِصَادِيِّ، وَالزِّرَاعِيِّ، وَالتَّمْوِينِيِّ فِي كِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: قَوْلُ اللهِ تَعَالَى حِكَايَةً لِمَا حَدَثَ لِيُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَلِكِ مِصْرَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} [يوسف: 43-49].
وَقَالَ مَلِكُ مِصْرَ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، وَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَيْءٌ، وَلَمْ يَتَبَيِّنْ عَلَى الْهَزِيلَاتِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَرَأَيْتُ سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدْ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ أُخَرَ يَابِسَاتٍ قَدْ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى عَلَوْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ قُدْرَتِهَا شَيْءٌ.
يَا أَيُّهَا السَّادَةُ وَالْكُبَرَاءُ! يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ! أَخْبِرُونِي بِتَأْوِيلِ رُؤْيَايَ الْخَطِيرَةِ وَعَبِّرُوهَا لِي، وَاذْكُرُوا بُعْدَهَا الْوَاقِعِيَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ، إِنْ كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ عِلْمَ الْعِبَارَةِ وَتَفْسِيرِ رُمُوزِ الْأَحْلَامِ.
قَالَ الْمَلَأُ مِنَ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَالْمُعَبِّرِينَ مُجِيبِينَ الْمَلِكَ: رُؤْيَاكَ هَذِهِ أَخْلَاطٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَمَنَامَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ بَاطِلَةٌ، وَمَا نَحْنُ بِتَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ بِعَالِمِينَ.
وَقَالَ السَّاقِي الَّذِي نَجَا مِنَ الْقَتْلِ بَعْدَ هَلَاكِ صَاحِبِهِ الْخَبَّازِ، وَتَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ ((اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ))، قَالَ: أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، إِذْ أَسْتَفْتِي فِيهَا السَّجِينَ الْعَبْرَانِيَّ الَّذِي كُنْتُ مُصَاحِبًا لَهُ فِي سِجْنِ رَئِيسِ الشُّرْطَةِ، فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَى السِّجْنِ، فَفِيهِ رَجُلٌ عَالِمٌ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسَلَهُ، فَأَتَى السِّجْنَ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ، قَالَ لَهُ: يَا يُوسُفَ، أَيُّهَا الْعَظِيمُ الصِّدْقِ فِي كَلَامِكَ وَتَأْوِيلِكَ وَسُلُوكِكَ وَتَصَرُّفَاتِكَ وَصُحْبَتِكَ، فَسِّرْ لَنَا رُؤْيَا مَا رَأَى، سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ هَزِيلَاتٍ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى الْمَلِكِ وَجَمَاعَتِهِ، لِيَعْلَمُوا تَأْوِيلَ مَا سَأَلْتُكَ عَنْهُ، وَلْيَعْلَمُوا مَكَانَتَكَ وَفَضْلَكَ.
لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَضَى فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ لَوْ كَانَ سِوَاهُ لَقَالَ: لَا أُعَبِّرُ لَكُمُ الرُّؤْيَا حَتَّى أَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْحَبْسِ، أَوْ حَتَّى يُرَدَّ إِلَيَّ حَقِّي، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَفَادَهُمْ وَأَرَادَ نَفْعَهُمْ.
قَالَ يُوسُفُ مُعَبِّرًا لِتِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الْوَضْعِ الزِّرَاعِيِّ وَالِاقْتِصَادِيِّ وَالْمَالِيِّ خِلَالَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً الْقَادِمَةِ، بِمَا فِيهَا مِنْ رَخَاءٍ، ثُمَّ قَحْطٍ، ثُمَّ غَوْثٍ، ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ عَلَى عَادَتِكُمُ الْمُسْتَمِرَّةِ فِي الزِّرَاعَةِ، فَمَا حَصَدْتُمْ مِنَ الْحِنْطَةِ فَاتْرُكُوهُ فِي سُنْبُلِهِ؛ لِئَلَّا يَفْسُدَ وَيَقَعَ فِيهِ السُّوسُ، وَاحْفَظُوا أَكْثَرَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَهُ مِنَ الْحُبُوبِ.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ الدَّأَبِ فِي الزِّرَاعَةِ -زِرَاعَةِ الْأَقْوَاتِ وَادِّخَارِهَا- طَوَالَ السِّنِينَ السَّبْعِ الْمُخْصِبَةِ، يَأْتِي سَبْعُ سِنِينَ مُجْدِبَةٍ، تَكُونُ مُمْحِلَةً شَدِيدَةً عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلُ النَّاسُ وَتَأْكُلُ مَوَاشِيهُمْ فِيهَا مَا زَرَعْتُمْ وَادَّخَرْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ فِي سَنَوَاتِ الْخِصْبِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَحْفَظُونَهُ وَتَدَّخِرُونَهُ؛ احْتِيَاطًا لِلطَّوَارِئِ الْمُلْجِئَةِ الَّتِي قَدْ يُسْمَحُ فِيهَا بِالْأَخْذِ مِنْ الِاحْتِيَاطِيِّ بِمَقَادِيرِ الضَّرُورَةِ.
{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}: لَيْسَ فِي الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا الْمَلِكُ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا، فَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فِيهَا سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ -كَمَا أَوَّلَ- يَكُونُ فِيهَا الْخِصْبُ، ثُمَّ سَبْعٌ مِنَ السَّنَوَاتِ يَكُونُ فِيهَا الْجَدْبُ، وَلَيْسَ فِي الرُّؤْيَا أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى عَامِ الْغَوْثِ هَذَا.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ هَذِهِ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ عَامٌ تَرْجِعُ فِيهِ تَصَارِيفُ الْكَوْنِ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِيهِ تَنْزِلُ الْأَمْطَارُ النَّافِعَةُ الَّتِي يُنْبِتُ اللهُ بِهَا الزُّرُوعَ، وَفِيهَا يَعْصِرُونَ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُعْصَرَ مِنْ نَحْوِ الْعِنَبِ وَالزَّيْتُونِ وَالْقَصَبِ، وَتَكْثُرُ النِّعَمُ عَلَى النَّاسِ.
لَمْ يَكْتَفِ يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بَلْ بَادَرَ فَوَضَعَ لَهُمْ خُطَّةَ عَمَلٍ لِمُوَاجَهَةِ سَنَوَاتِ الْقَحْطِ وَالْجَفَافِ، وَهِيَ خُطَّةٌ اقْتِصَادِيَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْحَيَاةَ الزِّرَاعِيَّةَ وَالتَّمْوِينِيَّةَ لِلْأُمَّةِ خِلَالَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً تَأْتِي عَلَى اسْتِقْلَالٍ.
*وَأَمَّا التَّخْطِيطُ وَالْإِعْدَادُ الْعَسْكَرِيَّيْنِ؛ لِحِمَايَةِ الْأُمَّةِ وَمُقَدَّسَاتِهَا وَثَرْوَاتِهَا: فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
وَأَعِدُّوا يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ لِقِتَالِ الْكَافِرِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي تَكُونُ لَكُمْ قُوَّةً فِي الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ.
وَأَعِدُّوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْخَيْلِ الْمَرْبُوطَةِ الْمُجَهَزَّةِ لِلْهُجُومِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ إِثْخَانِهِ وَتَدْمِيرِهِ بِقُوَّةِ الرَّمْيِ، تُخَوِّفُونَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْمُرْهِبَةِ، وَذَلِكَ الرِّبَاطِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدَوَّكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتُرْهِبُونَ آخَرِينَ مِنْ غَيْرِ الْأَعْدَاءِ الظَّاهِرِينَ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، لَا تَظْهَرُ لَكُمْ عَدَاوَتُهُمُ الْآنَ، لَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُمْ.
وَإِعْدَادُ الْقُوَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْإِنْفَاقِ الْمَالِيِّ، فَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أَجْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعَجَّلُ لَكُمْ عِوَضُهُ فِي الدُّنْيَا؛ بَرَكَةً فِي رِزْقِكُمْ وَنَمَاءً فِي أَمْوَالِكُمْ، وَأَنْتُمْ لَا تُنْقِصُونَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]، هَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْمَادِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَقْتَضِي أَخْذَ الْحَذَرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَبِكُلِّ طَرِيقٍ، فَجَمِيعُ الصِّنَاعَاتِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَلِيلَةِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالتَّحَصُّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ)).
*بَعْضُ دَلَائِلِ التَّخْطِيطِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ:
عِبَادَ اللهِ! لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ.
فِي الْهِجْرَةِ يَأْخُذُ النَّبِيُّ ﷺ بِالْأَسْبَابِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ سَيَعْصِمُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَكُنْ لِيُسْلِمَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ خَرَجَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ، وَمَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ قَطُّ.
فَدَخَلَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ خَوْخَةٍ هُنَاكَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ رَقْبٌ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ اسْتِخْبَارَاتٌ مِنْ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا وَصَاحِبَهُ -ﷺ، وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ--؛ فَمَا كَانَتْ لِتَعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَيَدْخُلُ مِنْ بَابِ أَبِي بَكْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ ظَهْرِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -مِنْ بَابٍ هُنَاكَ فِي ظَهْرِ الْبَيْتِ مِنْ خَوْخَةٍ هُنَاكَ-، فَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ ﷺ، إِلَى أَيْنَ؟
الْقَوْمُ يَتَوَقَّعُونَ أَنَّ النَّبِيَّ سَيَذْهَبُ إِلَى الشَّمَالِ ﷺ -يَعْنِي إِلَى يَثْرِبَ وَكَانَتْ تُسَمَّى كَذَلِكَ- إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَالَفَ تَوَقُّعَاتِ الْقَوْمِ وَأَصْعَدَ بِهِمْ إِلَى الْجَنُوبِ ﷺ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ هُنَاكَ فِي غَارِ ثَوْرٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ.
وَنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَمَا كَانَتْ أَوَامِرُهُ وَأَوَامِرُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِأَسْمَاءَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِالزَّادِ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْقَوْمِ رُبَّمَا لَمْ تَلْحَظْهَا، وَلِأَنَّ عَيْنَ الْقَوْمِ رُبَّمَا لَمْ تَذْهَبْ إِلَى أَنَّهَا فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ يُمْكِنُ أَنْ تَخْرُجَ بِزَادٍ وَمَاءٍ -وَهِيَ الْحَامِلُ فِي شُهُورِهَا الْأَخِيرَةِ- إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَيْنًا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، فَهُوَ أَقْدَرُ عَلَى هَذِهِ الْمُهِمَّةِ، فَيَأْتِي بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِلَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ ﷺ هُنَاكَ فِي الْغَارِ، فَيُخْبِرُ النَّبِيَّ ﷺ بِنَبَأِ الْقَوْمِ.
وَأَمَّا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ فَيَأْتِي بِأَغْنَامٍ لَهُ، فَإِذَا مَا ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَذَهَبَتْ أَسْمَاءُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- جَاءَ بِالْأَغْنَامِ وَرَاءَ آثَارِ الْأَقْدَامِ حَتَّى تُعَفِّيَ عَلَى آثَارِ الْأَقْدَامِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ الْعَمَلُ.
ثُمَّ ظَلَّ النَّبِيُّ فِي الْغَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَمْ يَتَعَجَّلْ بِالْخُرُوجِ حَتَّى يَخِفَّ الطَّلَبُ، وَلَمْ يَخْرُجِ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يُطِلْ فِي الْغَارِ الْمُكْثَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَوْ ظَلَّ لَكَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى مَعْرِفَةِ مَا تَفْعَلُ أَسْمَاءُ وَمَا يَفْعَلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى التَّأْيِيدِ وَمَا كَانَ مِنْ نُصْرَةِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَة: 40].
المصدر: أَهَمِّيَّةُ الْعَمَلِ وَالتَّخْطِيطِ فِي الْإِسْلَامِ وَسُبُلُ التَّغْيِيرِ