((وَقْفَةٌ مَعَ النَّفْسِ فِي غَمْرَةِ الْفِتَنِ الْحَالَّةِ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِمَّا قَدْ عَمَّ شَرُّهُ، وَتَطَايَرَ حَتَّى غَمَرَ شَرَرُهُ، فَعَمَّ الْآفَاقَ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ رَحِم اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ مَا دَخَلَتْ بِهِ الْفِتَنُ الْحَالَّةُ عَـلَى قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، فَزَادَتِ الْقُلُوبُ قَسَاوَةً فَوْقَ قَسَاوَتِهَا، وَتَحَجُّرًا فَوْقَ تَحَجُّرِهَا، وَانْهَارَتِ الْأَخْلَاقُ إِلَّا لَمَمًا، وَصَارَ النَّاسُ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ.
فَكَمْ مِنْ مُنْكِرٍ مَا كَانَ يَأْلَفُهُ، وَكَمْ مِنْ مُعْتَادٍ مَا كَانَ يُنْكِرُهُ، وَلَا يَتَلَبَّثُ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِهِ؛ لِيَسْأَلَ نَفْسَهُ إِلَى أَيْنَ أَسِيرُ؟ وَإِلَى أَيْنَ الْمَصِيرُ؟ وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ إِذَا حَلَّتْ، فَعَمَّتْ، فَطَمَّتْ، ثُمَّ اسْتَقَرَّتْ فِي الْقُلُوبِ فَقَرَّتْ.
فَإِنَّهَا لَا تَدَعُ مَنْفَذًا إِلَّا نَفَذَتْ مِنْهُ، وَتَغَلْغَلَتْ فِيهِ، حَتَّى تَسْتَوْلِيَ عَلَى الْقَلْبِ بِشِغَافِهِ، وَحَتَّى يَكُونَ الْقَلْبُ فِي غُلَافٍ مِنَ النَّكَدِ مُقِيمٌ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا ارْتَكَبَ الذَّنْبَ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَمَا تَزَالُ تِلْكَ النُّكَتُ تَزِيدُ، حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ.
وَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ؛ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ؛ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا.
فَمَا أَحْوَجَ الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْخِضَمِّ الْهَائِلِ مِنَ الْفِتَنِ، وَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ أَمْوَاهُهُ، وَعَلَتْ عَلَيْهِ جِبَالُ مَائِهِ، أَنْ يَتَوَقَّفَ، وَإِنَّهُ لَفِي ظَلْمَاءَ مُدْلَهِمَّةٍ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.
مَا أَحْوَجَهُ إِلَى أَنْ يَتَلَبَّثَ قَلِيلًا، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي أَطْوَاءِ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي ذَاتِ أَمْرِهِ، حَتَّى يَعْرِفَ مُبْصِرًا أَيْنَ طَرِيقُهُ، وَهَلْ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الرِّيَاحُ الْهُوجُ، فَعَمَّتْ عَلَيْهِ سَبِيلَهُ، وَطَمَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقَهُ، فَصَارَ عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ، سَائِرًا عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، أَمْ أَنَّهُ مَا زَالَ مُهْتَدِيًا بِهَدْيِ رَبِّهِ، مُتَمَسِّكًا بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ
المصدر: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ