تزكية النفس سبيل الفلاح والنجاح


((تَزْكِيَةُ النَّفْسِ سَبِيلُ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ))

فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَقْسَمَ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ مُتَوَالِيَةٍ عَلَى قَضِيَّةٍ هِيَ قَضِيَّةُ الْعُمُرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9-10].

وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْخَلْقِ وَالْخَالِقِ، فَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَبِالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَبِاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَأَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَبَانِيهَا، وَالْأَرْضِ وَطَاحِهَا، وَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالنَّفْسِ وَمَا سَوَّاهَا، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}، فَهَذَا هُوَ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ، وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْأَخْطَرُ فِي حَيَاةِ كُلِّ إِنْسَانٍ، لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ أَنَّ الْفَلَاحَ مَرْهُونٌ بِهَا وَأَنَّ الْخَيْبَةَ وَالْخُسْرَانَ فِي مُجَانَبَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ زَكَّا نَفْسَهُ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ.

فَأَقْسَمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْعُظْمَى فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَالَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ نَجَاحِهِ وَخُسْرَانِهِ، وَعَلَى مَدَارِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ تَكُونُ سَعَادَتُهُ دُنْيَا وَآخِرَة.

وَالتَّأَمُّلُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَزِيدُ الْإِيمَانَ، يَزِيدُ تَزْكِيَةَ النَّفْسِ، يَزِيدُ الْمَرْءَ قُرْبًا مِنَ اللهِ وَخُشُوعًا لَهُ وَإِنَابَةً وَإِقْبَالًا عَلَيْهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

*بَعْضُ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ:

وَمِمَّا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَيَزِيدُ بِهِ الْإِيمَانُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوْصُولَةً وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي افْتَرَضَ عَلَيْنَا وَالَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا نَبِيُّنَا ﷺ، جَعَلَ لَهَا مَرْدُودًا فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَفِي تَطْهِيرِهَا وَبُعْدِهَا عَمَّا يُشِينُهَا دُنْيَا وَآخِرَة.

فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّلَاةَ وَبيَّنَ لَنَا أَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، فَمَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ فَقَدْ حَسُنَ إْسَلَامُهُ، وَإِسْلَامُ الْمَرْءِ عَلَى قَدْرِ صَلَاتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ إِسْلَامَهُ وَأَنْ يَتَيَقَّنَ مِنْ حَقِيقَتِهِ؛ فَلْيَنْظُر إِلَى صَلَاتِهِ، فَعَلَى قَدْرِ صَلَاتِكَ يَكُونُ إِسْلَامُكَ.

فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّدَقَةَ تَطْهِيرًا وَتَنْمِيَةً وَتَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ.

فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ لِتَحْصِيلِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْمَحْذُورَاتِ، وَليَتَعَلَّمَ الْمَرْءُ كَيْفَ يَكُونُ زِمَامُ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ وَنَفْسِهِ بِيَدِهِ حَتَّى لَا تُصَرِّفُهُ النًّفْسُ فِي أَهْوَائِهَا وَحَتَّى لَا تَمْضِيَ بِهِ النَّفْسُ عَلَى شَهَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ.

وَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ إِلَى اللهِ بِمِثْلِ كَلَامِهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّاسِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَمَنْ قَدَّرَ الْقُرْآنَ قَدْرَهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَأَشْبَعَ بِهِ قَلْبَهُ وَنَفْسَهُ زَكَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

إِنَّ مِمَّا يُزَكِّي بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنِ الْمَعَاصِي، أَنْ يَفْعَلَ الْحَسَنَاتِ، أَنْ يَجْتَهِدَ فِي جَلْبِ الطَّاعَاتِ، مُخْلِصًا لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ السَّيِّئَاتِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَمُورٌ يُزَكِّي بِهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ.

*أَعْظَمُ طَرِيقٍ إِلَى تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ:

وَأَعْظَمُ طَرِيقٍ وَآكَدُهُ إِلَى تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6-7].

قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ: الزَّكَاةُ هَاهُنَا هِيَ التَّوْحِيدُ، شَهَادَةُ أَنْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَالْإِيمَانُ الَّذِي بِهِ يَزْكُو الْقَلْبُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَفْيَ إِلَهِيَّةِ مَا سِوَى الْحَقِّ مِنَ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ طَهَارَتُهُ، وَإِثْبَاتُ إِلَهِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَهُوَ أَصْلُ كُلِّ زَكَاةٍ وَنَمَاءٍ، فَسَمَّى اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّوْحِيدَ زَكَاةً، كَمَا وَسَمَ سُبْحَانَهُ الشِّرْكَ بِالنَّجَاسَةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28])).

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((التَّوْحِيدُ أَلْطَفُ شَيْءٍ وَأَنْزَهُهُ وَأَنْظَفُهُ وَأَصْفَاهُ، فَأَدْنَى شَيْءٍ يَخْدُشُهُ، وَيُدَنِّسُهُ، وَيُؤَثِّرُ فِيهِ، فَهُوَ كَأَبْيَضِ ثَوْبٍ يَكُونُ، يُؤَثِّرُ فِيهِ أَدْنَى أَثَرٍ، وَكَالْمِرْآةِ الصَّافِيَةِ جِدًّا، أَدْنَى شَيْءٍ يُؤَثِّرُ فِيهَا، وَأَمَّا الشِّرْكُ فَهُوَ أَنْجَسُ النَّجَاسَةِ، وَأَخْبَثُهَا وَأَشْنَعُهَا.

وَالتَّوْحِيدُ زَكَاةٌ، حَيْثُ يُنَمِّي ثَوَابَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيُبَارِكُ فِيهَا، فَإِنَّ التَّوْحِيدَ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةٍ مَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الطَّاعَةُ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّ أَجْرَهَا عَظِيمٌ، وَثَوَابَهَا جَزِيلٌ.

وَأَمَّا الشِّرْكُ فَهُوَ مُحْبِطٌ لِجَمِيعِ الْقُرُبَاتِ، وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالشِّرْكُ أَيْضًا خِذْلَانٌ وَحِرْمَانٌ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا}؛ أَيْ مَذْمُومًا لَا حَامِدَ لَكَ، وَمَخْذُولًا لَا نَاصِرَ لَكَ)).

*وَمِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ مُحَاسَبَتَهَا:

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((زَكَاةُ النَّفْسِ وَطَهَارَتُهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى مُحَاسَبَتِهَا ، فَلَا تَزْكُو وَلَا تَطْهُرُ وَلَا تَصْلُحُ الْبَتَّةَ إِلَّا بِمُحَاسَبَتِهَا، قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللهِ لَا تَرَاهُ إِلَّا قَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ؛ مَا أَرَدْتِ بِكَلِمَةِ كَذَا؟ وَمَا أَرَدْتِ بِأَكْلَةِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِمَدْخَلِ كَذَا وَمَخْرَجِ كَذَا؟ مَا أَرَدْتِ بِهَذَا؟ مَا لِي وَلِهَذَا؟ وَاللهِ لَا أَعُودُ إِلَى هَذَا، وَنَحْوِ هَذَا مِنْ كَلَامٍ، فَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ يّطَّلِعُ عَلَى عُيُوبِهَا وَنَقَائِصِهَا، فَيُمْكِنُهُ السَّعْيُ فِي إِصْلَاحِهَا)).

 

المصدر: محاسبة النفس

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ: هَجْرُ الشِّرْكِيَّاتِ إِلَى التَّوْحِيدِ
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْحَيَوَانَاتِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ أَشْرَفَ مَقَامٍ وَأَعْلَاهُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ
  الْجَيْشُ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كُلُّ الْأُمَّةِ
  حَثُّ اللهِ عَلَى العَمَلِ وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ: الِاجْتِهَادُ فِي الطَّاعَاتِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعَاصِي
  بِنَاءُ الْوَطَنِ الْقَوِيِّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَمَلِ
  مَبْنَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى التَّيْسِيرِ
  الْعَدْلُ هُوَ أَسَاسُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ
  فَضْلُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَعِظَمُ أَجْرِ صِيَامِهِ
  حُسْنُ الخُلُقِ مِنْ كُبْرَى غَايَاتِ دِينِنَا
  الْوَعْيُ بِأَخْطَرِ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ
  نَهْيُ الْإِسْلَامِ عَنِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ
  ثَلَاثُونَ وَصِيَّةً لِلْأَبْنَاءِ فَاحْرِصْ عَلَيْهَا
  الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ: أَنَّ الْإِسْلَامِ دِينُ اسْتِرْقَاقٍ لِلْأَحْرَارِ
  • شارك