((مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ))
وَحَتَّى الشُّبْهَةُ نَهَى نَبِيُّنَا ﷺ عَنْ غِشْيَانِهَا، فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَسَّمَ الْأُمُورَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ)): فَهَذَانِ قِسْمَانِ لَا يَشْتَبِهَانِ، بَيِّنٌ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا يَشْتَبِهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ اشْتِبَاهِهِ مَا أَتَى بَعْدُ مِنْ حَدِيثِهِ ﷺ: ((وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ))، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا اشْتِبَاهَ فِيهَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَأَنَّ الْحِلَّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَا اشْتِبَاهَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، ((إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)).
لَيْسَ فِي دِينِ اللهِ مَا هُوَ مُشْتَبِهٌ فِي أَصْلِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ أَصْلًا، حَتَّى الْمُشْتَبِهُ يُرَدُّ إِلَى الْمُحْكَمِ، فَيُعْلَمُ عِلْمُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
أَمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَبِهًا اشْتِبَاهًا كَامِلًا بِحَيْثُ لَا يَبِينُ وَلَا يَتَّضِحُ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)).
إِذَنْ، قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ يَعْلَمُهُنَّ، وَمَا دَامَ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ عَلِمَهُنَّ، فَهُنَّ مَعْلُومَاتٌ فِي أَصْلِهِنَّ، وَلَسْنَ بِحَيْثُ تُحِيطُ الشُّبْهَةُ وَالِاشْتِبَاهُ بِجُمْلَتِهِنَّ ذَاتًا وَصِفَةً، فَلَا يُعْلَمُ مِنْ خَبَرِهِنَّ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الِاشْتِبَاهُ وَاقِعٌ عَلَى طَرِيقٍ نِسْبِيٍّ.
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ حُكْمَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ: ((فَمَنِ ابْتَعَدَ عَنِ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ))،
وَضَرَبَ مِثَالًا مَادِّيًا مَعْلُومًا: ((أَلَا إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ)).
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَالرَّاعِي يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى، وَحِمَى الْمُلُوكِ مَا حَمَوْهُ، فَجَعَلُوهُ مَحْمِيًّا بِحَيْثُ لَا يَقْرَبُ مِنْهُ إِلَّا مَنْ أَذِنُوا لَهُ، فَهُوَ مَحْمِيٌّ مِنَ الْعَامَّةِ، مَمْنُوعٌ مِنْهُمْ لَا يَغَشَوْنَهُ، لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، وَحِمَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَحَارِمُهُ.
وَالرَّجُلُ إِذَا وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ لَا مَحَالَةَ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَلْحَقَ الشُّبُهَاتِ بِالْحَرَامِ، وَلَكِنْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفِ، ((فَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ))؛ إِذَنْ فَهِيَ حَرَامٌ؛ لِأَنَّهُ مَا تُذُرِّعَ بِهِ لِأَمْرٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ حُكْمُهُ -أَيْ: حُكْمُ الشَّيْءِ-.
مَا كَانَ وَسِيلَةً لِلْوَاجِبِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ، ((فَالَّذِي يَقَعُ فِي الشُّبُهَاتِ يَقَعُ فِي الْحَرَامِ))، فَكَأَنَّمَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ مُلْحَقًا بِالْقِسْمِ الثَّانِي، وَنَفَّرَ مِنْهُ ﷺ، وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غِشْيَانِهِ، وَالْوُقُوعِ فِيهِ.
((كَالرَّاعِي يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى)): لَا بُدَّ أَنْ تَنِدَّ مِنْهُ غَنَمَةٌ -شَاةٌ- أَوْ بَعِيرٌ؛ حَتَّى يَأْخُذَ شَيْئًا مِنَ الْحِمَى، فَيَلْحَقُهُ حِينَئِذٍ تَقْصِيرٌ وَتَقْصِيرٌ، ثُمَّ تَقَعُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ وَتَعْزِيرٌ؛ لِذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ)).
فَابْتَعِدْ عَنْهَا؛ لِأَنَّكَ إِنِ اقْتَرَبْتَ وَقَعْتَ فِيهَا لَا مَحَالَةَ، وَالِاقْتِرَابُ مِنْهَا يَكُونُ بِالْوُقُوعِ فِي دَائِرَةِ الشُّبُهَاتِ ((مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ))، كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ الْهُمَامُ ﷺ.
((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)) النَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَنَا الْوَرَعَ حَقًّا وَصِدْقًا؛ إِذْ يَجِدُ التَّمْرَةَ وَهُوَ جَائِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ سَاقِطَةً، يَرْفَعُهَا جَائِعًا إِلَى فِيهِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا ﷺ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهَا مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، يَقُولُ: ((فَأَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ))، فَيَضَعُهَا عَنْ فِيهِ ﷺ.
المصدر: المال الحرام وأثره المدمر على الفرد والمجتمع