((رِعَايَةُ الْمُسِنِّينَ مِنْ هَدْيِ الْمُرْسَلِينَ -عَلَيْهُمُ السَّلَامُ- ))
*نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ هُوَ الْقُدْوَةُ فِي رِعَايَةِ الْمُسِنِّينَ وَالْمَسَاكِينِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْأَرَامَلِ:
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ سَلَامَةُ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةُ النَّفْسِ، وَالنَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبِهَذِهِ الْخِصَالِ بَلَغَ الذُّرَى مَنْ بَلَغَ.
سَلَامَةُ الصَّدْرِ، سَخَاوَةُ النَّفْسِ، النَّصِيحَةُ لِلْأُمَّةِ، وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينَ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.
وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا حَكَتْ عَائِشَةُ، وَلَمْ تَبْلُغْ بِهِ السُّنُونُ مَبَالِغَهَا، فَإِنَّهُ ﷺ قَبَضَهُ رَبُّهُ إِلَيْهِ وَشَيْبُهُ مَعْدُودٌ، شَيَّبَتْهُ هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا؛ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَقِيَامًا بِأَمْرِ اللهِ، وَصِفَتُهُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَعَ ذَلِكَ وَمَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونُ، قَالَتْ لَمَّا كَانَ قَدْ أَصَابَهُ وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، حَطَمَهُ النَّاسُ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَطُغْيَانِهِمْ وَجَبَرُوتِهِمْ، وَصِرَاعِهِمْ مَعَ الْحَقِّ، وَمُحَاوَلَاتِهِمْْ لِطَمْسِ نُورِهِ، وَتَحَمَّلَ مَا تَحَمَّلَ رَاضِيًا فِي ذَاتِ اللهِ ﷺ، حَتَّى أُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ دَارِهِ، مِنْ بَلَدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ.
وَحُرِمَ مِنْ جِوَارِ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ، وَمِنَ السُّجُودِ عِنْدَهُ تَبَتُّلًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَصُدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَوْلَى الْخَلْقِ بِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَهُ فِي نُسُكِ مُحْرِمًا مُعْتَمِرًا، قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، فَحُبِسَ الْهَدْيُ فِي مَحِلِّهِ حَتَّى أَكَلَ وَبَرَهُ؟
فَصُدَّ وَمَنْ مَعَهُ عَنِ البَيْتِ الْحَرَامِ، وَقَدْ بَنَاهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، بَنَاهُ إِسْمَاعِيلُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَ، حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ بِكَيْدِهِمُ الرَّخِيصِ، بِتَصَوُّرَاتِهِمُ الْهَزِيلَةِ، بِنَزَوَاتِهِمُ الْوَضِيعَةِ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ، وَسُوءِ قَصْدِهِمْ، وَعَدَمِ إِلْمَامِهِمْ بِجَنَبَاتِ نُفُوسِهِمْ فِي اتِّسَاعِ أُفُقِهَا الْوَضِيءِ، بِوُقُوفِهِمْ عِنْدَ حُدُودِ رَغَبَاتِهِمْ وَكَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ، مَعَ اتِّبَاعِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالنَّبِيُّ يُصَارِعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، يَتَحَمَّلُ الْأَذَى فِيهِ وَالْمَكْرُوهَ، رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ، وَأَعَزَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جُنْدَهُ وَنَصَرَهُمْ، وَأَعْلَى شَأْنَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمْ الْبِلَادَ وَقُلُوبَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ نَبِيَّهُ ﷺ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْ رِقَابِ الْخَلْقِ، فَسَارُوا فِي ذَلِكَ سِيرَةَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَظْلِمُوا وَلَمْ يَحِيفُوا، وَكَانَ مَا كَانَ، وَوَقَعَتْ أُمُورٌ، وَكَانَ فِي حَاجَةِ إِخْوَانِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي كُلِّ حَالٍ، فِي حَرْبِهِ وَسِلْمِهِ، فِي قِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَعلَى جَنْبٍ ﷺ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ مُعَلِّمًا.
كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي حَلِّهِ وَتَرْحَالِهِ، فِي قِيَامِهِ وَفِي ظَعْنِهِ، كَانَ ﷺ دَاعِيًا إِلَى رَبِّهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ، فِي ضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ، فِي مُعَامَلَةِ الْعَدُوِّ وَالصَّدِيقِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَفِي مُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.
كَانَ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ )).
نَبِيُّكُمْ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ».
قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».
عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:
*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا، لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَالتَّعْبِيرُ بِـ «عَلَى» وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ فِي بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.
*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.
قَالَتْ: «لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا»، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: «إِنَّكَ لَتَحْمَلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ»، إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ، ﷺ.
*مُسَاعَدَةُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِابْنَتَيِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ؛ لِكِبَرِ سِنَّهِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ}: وَهُوَ بِئْرٌ كَانُوا يَسْقُونَ مِنْهُ مَوَاشِيَهُمْ، {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ}: أَيْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ {يَسْقُونَ}: يَسْقُونَ مَوَاشِيَهُمْ {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ}: يَعْنِي سِوَى الْجَمَاعَةِ، مُنْتَحِيًا عَنْهُمْ {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ.
قَالَ الْحَسَنُ: تَكُفَّانِ الْغَنَمَ عَنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِأَغْنَامِ النَّاسِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَكُفَّانِ النَّاسَ عَنْ أَغْنَامِهِمَا، وَقِيلَ: تَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنْ أَنْ تَشِذَّ وَتَذْهَبَ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ لِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصْوَبُ: تَحْبِسَانِ وَتَمْنَعَانِ أَغْنَامَهُمَا عَنِ الْمَاءِ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ وَتَخْلُوَ لَهُمَا الْبِئْرُ.
لَا تُزَاحِمَانِ، وَهَذَا مِنَ الشُّرُوطِ، وَيَأْتِي شَرْطٌ آخَرُ فِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِلْعَمَلِ؛ أَنْ تَكُونَ مُحْتَاجَةً إِلَى ذَلِكَ حَاجَةً ضَرِورِيَّةً {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}: وَلَيْسَ هُنَالِكَ مَنْ يَسْقِي لَهُمَا، ثُمَّ إِذَا مَا خَرَجَتَا انْتَحَيَتَا جَانِبًا.
المصدر: حُقُوقُ الْمُسِنِّينَ وَرِعَايَةُ حُقُوقِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ