((نِعْمَةُ الشَّبَابِ -مَرْحَلَةِ الْقُوَّةِ-))
فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
اللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنْ نُطْفَةٍ، وَأَنْشَأَكُمْ عَلَى ضَعْفِ حَالِ الطُّفُولَةِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ فِيكُمْ مِنْ بَعْدِ ضَعْفِ الطُّفُولَةِ شَيْئًا مِنَ الْقُوَّةِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي تَتَدَرَّجُ مُتَصَاعِدَةً حَتَّى تَبْلُغُوا كَمَالَ قُوَّتِكُمْ، وَهِيَ قُوَّةُ الشَّبَابِ، ثُمَّ جَعَلَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الْقُوَّةِ ضَعْفَ الْكِبَرِ وَالْهَرَمِ وَضَعْفَ الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبَ، فَتَتَنَاقَصُ لَدَيْكُمْ هَذِهِ الْقُوَّةُ تَدْرِيجِيًّا حَتَّى تَصِلَ إِلَى تَمَامِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ الْكِبَرِ إِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْمُعَمَّرِينَ، أَوْ تُوَافِيكُمْ مَنَايَاكُمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
يَخْلُقُ اللهُ مَا يَشَاءُ خَلْقَهُ؛ مِنَ الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَالشَّبَابِ وَالشَّيْبَةِ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ، الْقَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَشَاؤُهُ.
*مَرْحَلَةُ الشَّبَابِ وَالْقُوَّةُ وَالْعَافِيَةُ فِيهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ الْوَهَّابِ:
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، فَفِي نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَظِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصِّحَّةِ وَفَضْلِ الْعَافِيَةِ، وَجَلَالِ ذَلِكَ؛ لِجَمِيلِ أَثَرِهِ، وَلِعَظِيمِ قَدْرِهِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْلِمِ.
لَمَّا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ طَالُوتَ مَلِكًا مَبْعُوثًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ الْقَوْمُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَمَيَّزْ عَلَيْنَا بِكَثِيرِ مَالٍ، ولا بِشَيْءٍ، فَقَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البَقَرَة: 247].
فجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمَيزَةَ مَحْفُوظَةً لَدَيْهِ بِأَنْ آتَاهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، وَبَسْطَةً فِي الْجِسْمِ.
فَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِلْمًا، وَآتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَيْدًا وَقُوَّةً، آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صِحَّةً فِي تَمَامِ إِيمَانٍ؛ فَجَعَلَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- ذَلِكَ سَبَبًا لِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اعْتَرَضُوا عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهِمْ.
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا -أَيْضًا- أَنَّ بِنْتَ شُعَيْبٍ لَمَّا صَحِبَتْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى أَبِيهَا، قَالَتْ فِي حَيْثِيَّاتِ تَقْدِيمِهِ مُسْتَأْجَرًا عِنْدَ أَبِيهَا؛ لِكَيْ تَتَخَلَّصَ مِنَ عَنَاءِ الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَلِذَا خَرَجَتْ وَأُخْتُهَا؛ مِنْ أَجْلِ الرَّعْيِ وَالسَّقْيِ، وَالْقِيَامِ عَلَى أُمُورِ الْحَيَاةِ بِطَلَبِ الْمَعَاشِ.
أَرَادَتْ أَنْ تَرْتَاحَ، فَوَجَدَتْ فِي مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بُغْيَتَهَا، فَمَا هِيَ الْحَيْثِيَّاتُ الَّتِي قَدَّمَتْهَا لِأَبِيهَا؟
قَالَتْ: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
فَجَاءَتِ الْقُوَّةُ، وَجَاءَتِ الصِّحَّةُ -أَيْضًا- فِي هَذِهِ الْحَيْثِيَّاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ الْجَلِيلِ.
وَفِي فَضْلِ الْعَافِيَةِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَةُ وَالْفَرَاغُ)).
عِنْدَمَا يُنْعِمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ بِنِعْمَةِ الصِّحَّةِ فَهُوَ لَا يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي الطَّاعَةِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَإِنَّمَا تَتَبَدَّدُ صِحَّتُهُ فِيمَا لَا يُفِيدُ، فَإِذَا مَا سُلِبَتْ مِنْهُ نِعْمَةُ الصِّحَّةِ، وَأَرَادَ أَمْرًا؛ لَمْ يَقْوَ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَنْعَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِنْسَانِ بِالْفَرَاغِ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ مِنَ الْهُمُومِ وَمِنَ الْأَحْزَانِ، فَهَذِهِ الْفَتْرَةُ مِنَ الْفَرَاغِ نِعْمَةٌ يَظْلِمُ الْعَبْدُ فِيهَا نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّكَ تَسْمَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: إِنَّ الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَلَلِ لَا يَدْرِي كَيْفَ يُمَضِّي وَقْتَهُ، وَلَا كَيْفَ يُضَيِّعُ هَذَا الْوَقْتَ!!
وَكَثِيرًا مَا تَسْمَعُ مِنْ زَائِرٍ يَزُورُكَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَارَكَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُضَيِّعَ بَعْضَ الْوَقْتِ، فَهُوَ جَاءَ لِيُضَيِّعَ وَقْتَ نَفْسِهِ!!
فَهَذِهِ نِعْمَةٌ هُوَ لَا يُحِسُّ بِهَا، وَلَا يَدْرِيهَا.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَالْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَالْإِمَامُ ابْنُ مَاجَهْ فِي ((سُنَنِهِ)) بِسَنَدِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النِّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا –يَعْنِي: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا- وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)).
وَالْعُلَمَاءُ -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِشَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ، ذَكَرَ أَنَّ الْقُوَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ الْقَلْبِ، وَقُوَّةُ الرُّوحِ، وَعَزِيمَةُ النَّفْسِ، فَهِيَ الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرْءَ فِي الْجِلَادِ عِنْدَ الْجِهَادِ لِأَنْ يَكُونَ سَابِقًا فِي مَوْطِنِ الْمَوْتِ، تَنُوشُهُ الرِّمَاحُ، وَتُمَزِّقُهُ السُّيُوفُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَلَا يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ.
وَلَكِنَّ جَمْهَرَةً غَالِبَةً مِنْ عُلَمَائِنَا -عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ- أَخَذُوا بِالْإِطْلَاقِ: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)): قَوِيٌّ فِي بَدَنِهِ، قَوِيٌّ فِي إِيمَانِهِ، قَوِيٌّ فِي صِحَّتِهِ، قَوِيٌّ فِي يَقِينِهِ.
المصدر: دَوْرُ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ