((نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ))
إنَّ مَنْ سَبَرَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ-، وَمَنْ سَبَرَ أَحْوَالَهُمْ؛ وَجَدَ الرَّحْمَةَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الَّتِي كَانَتْ تَغْلِبُ غَضَبَهُ، وَلَهُ مِنْهَا الْحَظُّ الْأَوْفَى.
فَإِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ لِذَلِكَ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا0: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
وَلَقَدْ تَوَاتَرَتِ النُّصُوصُ مِنْ سِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ، وَمَا جَاءَ عَنْهُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى امْتِثَالِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ يَعْسُرُ حَصْرُهُ وَاسْتِقْصَاؤُهُ؛ لِذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْدَانُ، قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا0: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]
وَقَدْ شَهِدَ لَهُ ﷺ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ شَهِدَوا لَهُ بِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ.
فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: «خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ -يَعْنِي: فِي صِبَاهُ- فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ.
قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟
فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ». الْحَدِيثَ.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ السِّيرَةِ».
*نَبِيُّنَا ﷺ عَلَّمَ الدُّنْيَا الرَّحْمَةَ وَالْإِنْسَانِيَّةَ الْحَقَّةَ:
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ سَبَبَ رَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَرْحَمَ الْإِنْسَانُ خَلْقَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا0
فَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَبْصَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ.
فَقَالَ: إِنَّ لِي مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةً مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنه مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ؛ يَعْنِي السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ». رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ».
فَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الرَّحْمَةِ فِي نَفْسِهِ ﷺ، حَتَّى كَانَتْ دَيْدَنُهُ فِي الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَلِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَلِينِهِ وَرِفْقِهِ؛ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُ الْعِبَادِ وَالْتَفَتَ حَوْلَهُ أَبْدَانُهُمْ، وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ مِنْ أَذَى النَّاسِ الشَّيْءَ الْعَظِيمَ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَقِمُ، بَلْ وَلَا يَضْجَرُ، فَرَحْمَتُهُ تَسْبِقُ غَضَبَهُ ﷺ.
فَهُوَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ دَاعٍ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
يَا مَنْ لَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ مَا تَهْوَى الْعُلَا مِنْهَـا وَمَـا يَتَعَشَّقُ الْكُـُبَراءُ
فَإِذَا سَخَوْتَ بَلَغْتَ بِالْجُودِ الْمَدَى وَفَعَلْـتَ مَا لَا تَـفْعَلُ الْبُـذَلَاءُ
وَإِذَا عَفَوْتَ فَقادِرًا وَمُقَــدَّرًا لَا يَستَهِــينُ بِعَفْوِكَ الْجُهَــلَاءُ
وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُحَماءُ
وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّما هِيَ غَضْبَةٌ فِي الْحَقِّ لَا ضِغْنٌ وَلَا بَغْضَاءُ
وَإِذَا رَضِيتَ فَذَاكَ فِي مَرْضَاتِهِ وَرِضَا الْكَثِيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ
وَإِذَا خَطَبْتَ فَلِلْمَنَابِرِ هِــزَّةٌ تَعْرُو الْنَدِيَّ وَلِلْقُلُوبِ بُكَاءُ
وَإِذَا قَضَيْتَ فَلَا ارْتِيَابَ كَأَنَّمَا جَاءَ الْخُصُومَ مِنَ السَّمَاءِ قَضَاءُ
وَإِذَا حَمَيْتَ الْمَاءَ لَمْ يُورَدْ وَلَوْ أَنَّ الْقَيَاصِرَ وَالْمُلُوكَ ظِمَاءُ
وَإِذَا أَجَرْتَ فَأَنْتَ بَيْتُ اللهِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ الْمُسْتَجِيرَ عَدَاءُ
وَإِذَا مَلَكْتَ النَّفْسَ قُمْتَ بِبِرِّهَا وَلَوَ اَنَّ مَا مَلَكَتْ يَدَاكَ الشَّاءُ
وَإِذَا بَنَيْتَ فَخَيرُ زَوْجٍ عِشْرَةً وَإِذَا ابْتَنَيْتَ فَدُونَكَ الْآبَاءُ
وَإِذَا صَحِبْتَ رَأَى الْوَفَاءَ مُجَسَّمًا فِي بُرْدِكَ الْأَصْحَابُ وَالْخُلَطَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ
وَإِذَا مَشَيْتَ إِلَى الْعِدا فَغَضَنْفَرٌ وَإِذَا جَرَيْتَ فَإِنَّكَ النَكْبَاءُ
وَتَمُدُّ حِلْمَكَ لِلسَّفِيهِ مُدَارِيًا حَتَّى يَضِيقَ بِعَرضِكَ السُّفَهَاءُ
فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ سُطَاكَ مَهَابَةٌ وَلِكُلِّ نَفْسٍ فِي نَدَاكَ رَجَاءُ
وَالرَّأْيُ لَمْ يُنْضَ الْمُهَنَّدُ دُونَهُ كَالسَّيفِ لَمْ تُضْرب بِهِ الْآرَاءُ
الْحَرْبُ فِي حَقٍّ لَدَيْكَ شَرِيعَةٌ وَمِنَ السُّمُومِ النَّاقِعَاتِ دَوَاءُ
وَالْبِرُّ عِنْدَكَ ذِمَّةٌ وَفَرِيضَةٌ لَا مِنَّةٌ مَمْنُونَةٌ وَجَبَاءُ
جَاءَتْ فَوَحَّدَتِ الزَكاةُ سَبِيلَهُ حَتَّى الْتَقَى الْكُرَمَاءُ وَالْبُخَلَاءُ
أَنْصَفَتَ أَهْلَ الْفَقْرِ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى فَالْكُلُّ فِي حَقِّ الْحَيَاةِ سَوَاءُ
مِنْ كُلِّ دَاعِي الْحَقِّ هِمَّةُ سَيْفِــهِ فَلِسَيفِهِ فِي الرَّاسِيَاتِ مَضَاءُ
سَاقِي الْجَريحِ وَمُطْعِمُ الْأَسْرَى وَمَنْ مِنَتْ سَنَابِكَ خَيْلِهِ الْأَشْلَاءُ
إِنَّ الشَّجَاعَةَ فِي الرِّجَالِ غِلَاظَــةٌ مَا لَمْ تَزِنْهَا رَأْفَةٌ وَسَخَاءُ
وَالْحَربُ مِنْ شَرَفِ الشُّعُوبِ فَإِنْ بَغَوْا فَالْمَجْدُ مِمَّا يَدَّعُونَ بَرَاءُ
وَالْحَـــرْبُ يَبْعَثُهَــا الْقَوِيُّ تَجَبُّرًا وَيَنُوءُ تَحْتَ بَلَائِهَا الضُّعَفاءُ
كَمْ مِنْ غَزَاةٍ لِلرَّسُولِ كَرِيمَةٍ فِيهَا رِضًى لِلْحَقِّ أَوْ إِعْلَاءُ
كَانَتْ لِجُنْــدِ اللهِ فِـيهَا شِـــدَّةٌ فِي إِثْرِهَا لِلْعَالَمِينَ رَخَاءُ
ضَرَبُوا الضَّلَالَةَ ضَرْبَةً ذَهَبَتْ بِهَا فَعَلَى الْجَهَالَةِ وَالضَلَالِ عَفَاءُ
دَعَمُوا عَلَى الْحَرْبِ السَّلَامَ وَطَالَمَا حَقَنَتْ دِمَاءٌ فِي الزَّمَانِ دِمَاءُ
المصدر : الإسلام دين الرحمة والسلام، وفضل شهر الله المحرم وصوم عاشوراء