لَا تَغْتَرَّ بِالظَّاهِرِ وَاسْأَلْ رَبَّكَ الْإِخْلَاصَ
الرَّسُولُ ﷺ الْمُؤَيَّدُ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَالَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُوحِي إِلَيْهِ رَبُّهُ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)): ((أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ مَخْرَجًا -يَعْنِي فِي غَزَاةٍ مِنْ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللهِ ﷺ-، وَأَبْهَمَهُ سَهْلٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ، فَقَالُوا: هُوَ قُزْمَانُ، وَكَانَ مُنَافِقًا.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَرْحَمَنَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ: فَكَانَ لَا يَدَعُ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّخَذَهَا، لَا يَنِدُّ مِنَ الْجَيْشِ فَارِسٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّفِّ خَارِجٌ إِلَّا انْدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ بِسَيْفِهِ، يَلْقَى الْحُتُوفَ، وَيُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي مَوَارِدِ الْهَلَاكِ بِشَجَاعَةٍ فَائِقَةٍ، وَقُدْرَةٍ مُتَنَامِيَةٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ الْأَصْحَابُ يَوْمًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ يَوْمِ الْتِحَامٍ وَيَوْمِ لِقَاءٍ، قَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا صَاحِبُهُ.
فَلَمَّا جَاءَتِ الْمَعْرَكَةُ؛ خَرَجَ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا، وَأَتَتْهُ جِرَاحَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى أَلَمِهَا، فَجَعَلَ نَصْلَ سَيْفِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَوَضَعَ ذُبَابَهُ -يَعْنِي: طَرَفَهُ الْأَعْلَى بَيْنَ ثَدْيَيْهِ-، ثُمَّ اتَّكَأَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ.
قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ ،فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَصِدْقًا ﷺ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((وَمَا ذَاكَ؟)).
يَعْنِي: وَمَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ جَهَارًا نَهَارًا وَأَنَا أَعْلَمُهُ مِنْكَ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَكِنٌّ فِي قَلْبِكَ، ظَاهِرٌ عَلَى جَوَارِحِكَ؟
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَانَ مِنْ حَالِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، وَقُلْتَ فِي شَأْنِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا وَقَعَ، وَقَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَقِيَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ عَلَى ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَقْعَدَهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مَقْعَدَهَا مِنَ النَّارِ، وَعَلِمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ هِيَ أَمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ)).
فَقَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابِ -يَعْنِي: الَّذِي كَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَعْرِفَةِ أَهْلِ النَّارِ-، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا، بَلِ اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)).
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ (10)} تَلَاهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَفِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ))، وَهُوَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ رِوَايَةِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا)).
وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَثَلُ الْأَعْمَالِ كَمَثَلِ الْإِنَاءِ؛ إِذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ)).
فَالرَّسُولُ ﷺ يُنَبِّهُنَا إِلَى عِلْمِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِينَا؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ، فَكَتَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَعْطَانَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حُرِّيَّةَ الِاخْتِيَارِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي يَقَعُ مِنَّا بِمَسْئُولِيَّةٍ كَامِلَةٍ قَدْ نَاطَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَعْنَاقِنَا؛ حَتَّى لَا يَظْلِمَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَقُّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الْأَمْرَ فِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِيَارِ فِيمَا طَلَبَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَّا، وَفِي الْأَعْمَالِ الَّتِي تَقَعُ مِنَّا.
وَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَفْعَلَهَا، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ نَأْتِيَهَا، فَكَتَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَيَا تُرَى؛ هَلْ كَتَبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ، أَمْ كَتَبَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَسِتِّيرُ الْعُيُوبِ.
وَأَمَّا نَحْنُ؛ فَإِنَّ الْأَمْنَ وَالِاغْتِرَارَ يَأْخُذُ بِأَنْفُسِنَا، وَبِمَعَاقِدِ أَجْفَانِنَا، وَبِمَقَالِيدِ قُلُوبِنَا، وَنَغْتَرُّ بِظَاهِرِ طَاعَةٍ نَأْتِيهَا، مَعَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْطَقَ نَبِيَّهُ الْكَرِيمَ ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ ،فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، ثُمَّ يَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ﷺ: ((أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يرْسِلُ اللَّهُ إليه الْمَلَكَ، ويُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بكَتْبِ أَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَرِزْقِهِ، وَشَقِىٌّ أَوْ سَعِيدٌ)).
((بكَتْبِ أَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَرِزْقِهِ وَشَقِىٌّ أَو سَعِيدٌ)).
فَهَذَا كِتَابٌ بِالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْمَرْءُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ جَنِينًا عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.
وَأَيْضًا عِنْدَ يَوْمِ الْمِيثَاقِ، عِنْدَمَا قَبَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَبْضَةً مِنَ الْخَلْقِ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ جَنَّتِي وَلَا أُبَالِي، وَقَبَضَ قَبْضَةً ثُمَّ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ، وَلَا أُبَالِي.
فَمَنْ لَمْ يَجْزَعْ مِنْ يَوْمِ الْقَبْضَةِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي فَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَئِذٍ، أَمِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ الشَّقَاوَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ قَبْضَةِ السَّعَادَةِ؟ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَيْضًا أَنَّ الْمَرْءَ يُؤْمَرُ مَلَكُهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَنْ يَكْتُبَ: شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ فَيَا تُرَى كُتِبَ الْمَرْءُ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ؟!
كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ إِذَا لَقِيَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ يَقُولُ لَهُ: اجْلِسْ نَبْكِي عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا.
((اجْلِسْ نَبْكِي عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا)).
لِأَنَّا لَا نَدْرِي عِلْمَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ السَّابِقَ فِينَا؛ أَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَمْ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟
ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيُعمل بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ.
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ؛ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيُعمل بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ)).
فَلْنَبْكِ عَلَى عِلْمِ اللهِ فِينَا، وَلْنَسْأَلْ رَبَّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يَعْفُوَ عَنَّا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
المصدر:حُسْنُ الْخَاتِمَةِ بَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّوْفِيقِ